نفحات الولایه (شرح عصری جامع لنهج البلاغه) المجلد 5

اشارة

عنوان و نام پدیدآور:نفحات الولایه: شرح عصری جامع لنهج البلاغه المجلد 5/ ناصرمکارم شیرازی، بمساعده مجموعه من الفضلاء؛ اعداد عبدالرحیم الحمدانی.

مشخصات نشر:قم : مدرسه الامام علی ابن ابی طالب (ع) ، 1426ق.-= 1384.

مشخصات ظاهری:10 ج.

شابک:30000 ریال : دوره 964-813-958-X: ؛ ج. 1 964-813-907-5 : ؛ ج. 2 964-813-908-3 : ؛ ج. 3 964-813-917-2 : ؛ ج. 4 964-813-918-0 : ؛ ج.5 : 964-813-941-5 ؛ 70000 ریال: ج. 6 978-964-533-120-5 : ؛ 70000 ریال: ج. 7 978-964-533-121-2 : ؛ 70000 ریال: ج. 8 978-964-533-122-9 : ؛ 70000 ریال: ج. 9 978-964-533-123-6 : ؛ 70000 ریال: ج. 10 978-964-533-124-3 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج 1- 5 ( چاپ دوم: 1384).

یادداشت:ج. 6- 10 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390).

یادداشت:کتابنامه.

مندرجات:.- ج. 6. من خطبة 151 الی 180.- ج. 7. من خطبة 181 الی 200.- ج. 8. من خطبة 201 الی 241.- ج. 9. من رسالة 1 الی 31.- ج. 10. من رسالة 32 الی 53

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق -- خطبه ها

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- کلمات قصار

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- نامه ها

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه -- نقد و تفسیر

شناسه افزوده:حمرانی، عبدالرحیم

شناسه افزوده:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه. شرح

شناسه افزوده:مدرسة الامام علی بن ابی طالب (ع)

رده بندی کنگره:BP38/02 /م7 1384

رده بندی دیویی:297/9515

شماره کتابشناسی ملی:م 84-40347

ص :1

اشارة

ص :2

نفحات الولایه: شرح عصری جامع لنهج البلاغه المجلد 5

ناصرمکارم شیرازی، بمساعده مجموعه من الفضلاء

اعداد عبدالرحیم الحمدانی

ص :3

ص :4

الخطبة المأة وإحدی عشرة

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطْبِةٍ لَهُ علیه السلام

فِی ذَمِّ الدُّنَیا

نظرة إلی الخطبة

تحدثت هذه الخطبة بصورة عامّة - کما ورد فی عنوانها عن ذمّ الدنیا، الدنیا التی تغرق الإنسان فی لذاتها وزخارفها الزائلة اللامشروعة، ومتعها الرخیصة، بحیث یتناسی اللّه والخلق ومصیره وعاقبته، الدنیا التی تغیب فیها معانی القیم والمثل ولا یعد فیها من مفهوم للحلال والحرام والظلم والعدل.

والخطبة التی نحن بصددها علی أقسام:

القسم الأول: فیها یتعرض إلی خداع الدنیا وغرورها وزبرجها وظاهرها الأجوف الذی لا باطن له.

القسم الثانی: فیتناول تقلب أحوال الدنیا وعدم ثباتها، إلی جانب الحدیث عن النعم التی قد تتبدل نقماً والنجاحات التی تتحول فشلاً.

القسم الثالث: خاض علیه السلام فی بیان فناء الدنیا وزوالها، حیث تضمّن عبارات رائعة مؤثرة

ص:5


1- 1) سند الخطبة: نقل هذه الخطبة طائفة من الأعلام ممن عاشوا قبل وبعد المرحوم السید الرضی ومنهم: ابن شعبة الحرّانی فی «تحف العقول» ، وابن طلحة الشافعی فی «مطالب السؤول» ، ومحمد بن عمران المرزبانی فی «الموفق» ، کما فسّر ابن أثیر ما صعب من مفرداتها فی کتابه «النهایة» ، إلاّ أنّ هناک اختلافاً فی نقله مع بعض عبارات هذه الخطبة (مصادر نهج البلاغة 2/144) [1] وقال ابن أبی الحدید حین شرحه لهذه الخطبة: نقل هذه الخطبة أیضاً أبو عثمان الجاحظ فی کتاب «البیان والتبیین» (شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/236) .

تکشف النقاب عن حقیقة هذا الأمر.

القسم الرابع: فکأنّه یأخذ بید الناس ویغوص بهم فی أعماق تاریخ الماضیین، والعاقبة المریرة التی طالت الأقوام من ذات القوّة والسطوة لتهز عروشهم وتحیلهم أجساداً خاویة قبرت تحت التراب.

وأخیراً القسم الخامس: الذی تطرق إلی الموت والأموات الذین عاشوا دهراً بیننا بذلک النشاط والحیویة وقد ذاع صیتهم لیعمّ الأرجاء، والحال قد ذهبت تلک الحیویة أدراج الریاح وتبدل ذلک النشاط إلی خمول وضمور بعد أن أتاهم الموت وأحال أجسادهم تراباً.

هذا وقد أورد الإمام علیه السلام هذه الخطبة بعبارات لطیفة بالغة التأثر شأنها إیقاظ أسوأ الأفراد الذین یغطّون فی سبات الغفلة ونفث النور والأمل فی أوراحهم المظلمة البائسة.

ص:6

القسم الأول: الدنیا الغرارة!

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّی أُحَذِّرُکُمُ الدُّنْیَا؛ فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، وَتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ، وَرَاقَتْ بِالْقَلِیلِ، وَتَحَلَّتْ بِالْآمَالِ، وَتَزَیَّنَتْ بِالْغُرُورِ. لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا، وَلاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا. غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ، حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ، نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ، أَکَّالَةٌ غَوَّالَةٌ. لاَ تَعْدُو - إِذَا تَنَاهَتْ إِلَی أُمْنِیَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِیهَا وَالرِّضَاءِ بِهَا - أَنْ تَکُونَ کَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَی سُبْحَانَهُ: «کَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِیماً تَذْرُوهُ الرِّیَاحُ وَکَانَ اللّهُ عَلَی کُلِ ّ شَیْءٍ مُقْتَدِراً» .

الشرح والتفسیر

إستهل الإمام علیه السلام الخطبة بتحذیر الجمیع من هذه الدنیا الفانیة والغرارة، ثم أماط اللثام عن ماهیة واقعها وحقیقتها من خلال وصفها والتعرض لغرورها وخداعها بثمان عشرة عبارة، فقال علیه السلام أحذرکم من هذه الدنیا ذات الظاهر اللطیف الذی إنطوی علی اللذّات والشهوات، الأمر الذی یجعلها تشد إلیها الأنظار بفعل عینیتها ومثولها للإنسان رغم ضحالة نعمها وتفاهتها، إلّاأنّها تحلّت بالآمال وتزیّنت بالغرور لتسوق إلیها هذا الإنسان:

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّی أُحَذِّرُکُمُ الدُّنْیَا؛ فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، وَتَحَبَّبَتْ

ص:7

بِالْعَاجِلَةِ، وَرَاقَتْ (1)بِالْقَلِیلِ، وَتَحَلَّتْ بِالْآمَالِ، وَتَزَیَّنَتْ بِالْغُرُورِ» .

فالإمام علیه السلام یری خداع الدنیا فی حلوّ ظاهرها المحفوف بالشهوات، فهی محببة إلی النفوس کونها ماثلة للعیان ملموسة، وهذا هو المعنی المراد من العبارة «تَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ» .

أمّا العبارة «رَاقَتْ بِالْقَلِیلِ» ، فهی إشارة إلی أنّ الدنیا قد زینت متاعها القلیل بالشکل الذی جعلها تستقطب قلوب عبدة الدنیا المتکالبین علی حطامها.

بینما أشارت العبارت «تَحَلَّتْ بِالْآمَالِ» إلی زیف هذه الزینة التی تحلّت بها الدنیا، حیث تفتقر إلی الواقع، بل زینت مظهرها بالآمال والخیالات الفارغة الزائفة، وهذا هو المعنی الذی أکدته العبارة «تَزَیَّنَتْ بِالْغُرُورِ» ، فرصیدها الرئیسی الذی یشکل عنصر التزیین إنّما هو الغرور الخداع، ولعل الوقوف علی عمق هذا المعنی یتجسد من خلال النظر من بعید إلی قصور الملوک وسلتطهم الظاهریة المرعبة، وسعة حجم أموالهم وثرواتهم، وأبهة وجلال مراکبهم وملابسهم النفیسة الفاخرة وسائر الوسائل والأدوات التی یعتمدونها فی حیاتهم ومعیشتهم التی تخطف الأبصار وتسحر القلوب، بینما الاقتراب منهم والغوص فی واقع حیاتهم لا یری سوی البؤس والشقاء وسبل المصاعب والمشاکل التی تلف حیاتهم ومدی القلق والاضطراب الذی یسودهم من جراء المؤامرات والدسائس التی یخطط لها أعداؤهم إلی جانب الحسد والطمع الذی تکنّه لهم بطانتهم وقرابتهم.

والواقع هو أنّ هذه العبارات إقتباس ممّا صرحت به بعض الآیات القرآنیة، فقد جاء فی القرآن الکریم بشأن الحیاة الدنیا:

«وَمَا الْحَیَاةُ الدُّنْیَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ. . .» (2).

وجاء فی موضع آخر: «إِنَّ هَؤُلَاءِ یُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. . .» (3).

کما جاء أیضاً: «زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِینَ وَالْقَنَاطِیرِ الْمُقَنْطَرَةِ. . .» (4)

ص:8


1- 1) «راقت» : من مادة «ورق» علی وزن ذوق بمعنی المسرة والإعجاب.
2- 2) سورة آل عمران / 185؛ [1]الحدید / 20. [2]
3- 3) سورة الإنسان / 27. [3]
4- 4) سورة آل عمران / 14. [4]

. وقال تعالی أیضاً: «ذَرْهُمْ یَأْکُلُوا وَیَتَمَتَّعُوا وَیُلْهِهِمْ الْأَمَلُ فَسَوْفَ یَعْلَمُونَ» (1).

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بأنّ نِعم الدنیا وسرورها إلی إنقطاع ولا دوام لها، ولیس هناک من شخص بمنأی عن مشاکلها وفجائعها، ورصیدها الخداع والغرور والضرر والخسران، معروفة بالفناء والزوال وعاقبة أمر سکانها وعمارها الهلاک والعدم:

«لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا (2)، وَلاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا. غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ، حَائِلَةٌ (3)زَائِلَةٌ، نَافِدَةٌ (4)بَائِدَةٌ (5)، أَکَّالَةٌ غَوَّالَةٌ (6)» .

نقد تناول الإمام علیه السلام الدنیا لیتحدث بهذه العبارات الرائعة البیان عن تقلب أحوالها وعدم ثباتها، فلیس هنالک من دوام واستمرار لأی من مفرداتها من قبیل حلاوتها وطلاوتها ونعمها وثرواتها وإمکاناتها وآمالها ورغباتها ونشاطها وعنفوان الشباب فیها، فکل هذه الاُمور محکومة بالفناء والزوال، وبناءاً علی هذا فلا یرکن إلیها إلّاالجاهل الغافل.

ثم اختتم علیه السلام کلامه - فی هذا القسم من الخطبة - بالقول:

«لاَ تَعْدُو - إِذَا تَنَاهَتْ إِلَی أُمْنِیَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِیهَا وَالرِّضَاءِ بِهَا - أَنْ تَکُونَ کَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَی سُبْحَانَهُ: «کَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِیماً (7)تَذْرُوهُ الرِّیَاحُ وَکَانَ اللّهُ عَلَی کُلِ ّ شَیْءٍ مُقْتَدِراً» (8)» .

فقد عزز الإمام علیه السلام إثبات مراده من خلال التمسک والاستشهاد بالتشبیه الرائع الذی أورده القرآن فی سورة الکهف بشأن الدنیا، وکأنّی به قد اصطحب المخاطب إلی حیث الصحراء

ص:9


1- 1) سورة الحِجْر / 3. [1]
2- 2) «حبرة» : من مادة «حبر» باالفتح السرور والنعمة.
3- 3) «حائلة» : من مادة «حول» علی وزن قول المتغیرة.
4- 4) «نافدة» : من مادة «نفاد» بمعنی الفناء والعدم والزوال.
5- 5) «بائدة» : من مادة «بید» علی وزن صید هالکة.
6- 6) «غوالة» : من مادة «غول» علی وزن قول الهلکة المباغتة.
7- 7) «هشیماً» : من مادة «هشم» بمعنی کسر الأشیاء ومن هنا تطلق علی النبت الیابس المکسّر.
8- 8) سورة الکهف / 45. [2]

لیریهم صورة الربیع والخریف واهتزاز الأرض وحیوتها من نزول المظر وخروج النباتات وتفتح البراعم والزهور وحمل الأشجار للفاکهة والثمار، غیر أنّ هذه الاُمور لا یکتب لها الاستمرار والدوام، فلم تشهد هذه الحالة سوی بضعة شهور لتذبل تلک الأوراق وتنتهی تلک الثمار وتنقطع زقزقة العصافیر والطیور وتتبدل الخضرة یبوسة وجفافاً، وهذه بالضبط حقیقة الحیاة الدنیا التی تعیشها البشریة حیث یتّجه کل شیء فیها نحو الزوال فیا له من تشبیه رائع وعجیب!

ص:10

القسم الثانی: الدنیا کل یوم بلباس

«لَمْ یَکُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِی حَبْرَةٍ إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةٌ، وَلَمْ یَلْقَ فِی سَرَّائِهَا بَطْناً، إِلاَّ مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً؛ وَلَمْ تَطُلَّهُ فِیهَا دِیْمَةُ رَخَاءٍ، إِلاَّ هَتَنَتْ عَلَیْهِ مُزْنَةُ بَلاَءٍ، وَحَرِیٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِیَ لَهَ مُتَنَکِّرَةً، وَإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ وَاحْلَوْلَی، أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَی! لاَیَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا رَغَباً، إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً. وَلاَ یُمْسِی مِنْهَا فِی جَنَاحِ أَمْنٍ، إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَی قَوَادِمِ خَوْفٍ. غَرَّارَةٌ، غُرُورٌ مَا فِیهَا، فَانِیَةٌ، فَانٍ مَنْ عَلَیْهَا، لاَ خَیْرَ فِی شَیْءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلاَّ التَّقْوَی. مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَکْثَرَ مِمَّا یُؤْمِنُهُ. وَمَنِ اسْتَکْثَرَ مِنْهَا اسْتَکْثَرَ مِمَّا یُوبِقُهُ، وَزَالَ عَمَّا قَلِیلٍ عَنْهُ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة مواصلة لذمّ الحیاة المادیة الدنیویة إلی صفة أخری من صفاتها البارزة الأخری والمتمثلة بسرعة تغیّرها وتبدّلها، إلی جانب تبدّل نعمها ونقمها، فلم یصب أحد منها سروراً إلّاأتبعته حزناً وحسرة، ولم یذق حلاوتها إلّااستشعر مرارتها: «لَمْ یَکُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِی حَبْرَةٍ إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةٌ، وَلَمْ یَلْقَ فِی سَرَّائِهَا بَطْناً، إِلاَّ مَنَحَتْهُ (1)مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً» .

ص:11


1- 1) «منحت» : من مادة «منح» علی وزن مدح بمعنی العطاء.

ثم أکّد علیه السلام هذا المعنی بأنّه لم یستشعر هبوب الریاح اللطیفة والأمطار الملائمة حتی یغرق فی سبیل من البلاء: «وَلَمْ تَطُلَّهُ (1)فِیهَا دِیْمَةُ (2)رَخَاءٍ، إِلاَّ هَتَنَتْ (3)عَلَیْهِ مُزْنَةُ (4)بَلاَءٍ» .

ومن هنا فلا وجه للغرابة والتعجب إذا انتصرت لأحد صباحاً تنکرت له مساءاً، وإن حملت بید ظرفاً حلواً حملت بأخری ظرفاً مرّاً: «وَحَرِیٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِیَ لَهَ مُتَنَکِّرَةً، وَإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ (5)وَاحْلَوْلَی (6)، أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَی! (7)» .

نعم، هذه هی طبیعة الدنیا وستکون کذلک، حیث تستحیل حلاوتها مرارة، ونصرها هزمة، وحیاتها موتاً، ولیست هناک أیة قدرة یسعها الحیلولة دون هذه الاستحالة والتغییر.

ثم واصل علیه السلام تأکید هذه الحقیقة فی أنّ الإنسان لا یصیب منها لذّة ونعمة إلّاأتبعته غصّة ورهقة، ودفعت به إلی ما یتعبه من الشدائد والنوائب، فلا یکاد یتمتع بلذّة الأمن حتی یزعجه ألم الخوف والخطر: «لاَیَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا (8)رَغَباً، إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ (9)مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً، وَلاَ یُمْسِی مِنْهَا فِی جَنَاحِ أَمْنٍ، إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَی قَوَادِمِ (10)خَوْفٍ» .

أجل، لیست هناک من فاصلة یؤبه بها فی هذه الدنیا لا مکانیة ولا زمانیة بین السعادة والشقاء، فقد تراه أحیاناً جن علیه اللیل وقد غرق فی لذاته وشهواته وهنییء عیشه ودعته فی هالة من فرحه وسروره، ولم یکد یطلع الصبح علیه حتی تتعالی الأصوت بالنحیب والبکاء تنعی فقده ومفارقته لهذه الدنیا، بل لعله یتجرع کأس المنون من ید أقرب مقربیه:

ثم استمر علیه السلام فی الحدیث عن غرور الدنیا وزوالها فقال: «غَرَّارَةٌ، غُرُورٌ مَا فِیهَا، فَانِیَةٌ، فَانٍ مَنْ عَلَیْهَا، لاَ خَیْرَ فِی شَیْءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلاَّ التَّقْوَی. مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَکْثَرَ مِمَّا یُؤْمِنُهُ. وَمَنِ

ص:12


1- 1) «تطلّه» : من مادة «طل» علی وزن تل المطر الخفیف ویقابله الوابل المطر الشدید.
2- 2) «دیمة» : من مادة «دوام» مطر دوم فی سکون لا رعد ولا برق معه.
3- 3) «هتنت» : من مادة «هتن» علی وزن حتم بمعنی إنصبت.
4- 4) «مزنة» قطعة من السحاب الممطر.
5- 5) «اعذوذب» : من مادة «عذب» الفرات الزلال.
6- 6) «احلولی» : من مادة «حلو» الطعم المعروف.
7- 7) «أوبی» : من مادة «وبی» المرض والهلکة.
8- 8) «غضارة» : من مادة «غضر» علی وزن نذر کثرة النعم، وسعة العیش.
9- 9) «أرهقت» : من مادة «رهق» علی وزن شفق ألبسته بالقوّة والقهر.
10- 10) «قوادم» : جمع «قادمة» الواحدة من الریشات فی مقدم جناح الطائر، وهی زلقة عادة.

اسْتَکْثَرَ مِنْهَا اسْتَکْثَرَ مِمَّا یُوبِقُهُ (1)، وَزَالَ عَمَّا قَلِیلٍ عَنْهُ» .

وهکذا أورد الإمام علیه السلام هذه الصفات التی تصور تغیر أحوال الدنیا وعدم ثباتها وأفول قدرتها وزوال موفقیاتها لیخلص إلی نتیجة مفادها ضرورة قناعة العاقل بالقلیل منها (علی قدر الکفاف) لیمهد السبل أمام أمنه واستقراره وراحة باله، وذلک لأنّ من طلب المزید فیها غامر بنفسه وقذف بها فی لهوات المخاطر، فیکون بذلک قد مهد السبیل أمام شقاء نفسه وبؤسها.

ص:13


1- 1) «یوبق» : فی الأصل من مادة «وبوق» علی وزن نبوغ، بمعنی الهلکة، وعلیه فیوبقه یعنی یهلکه.

ص:14

القسم الثالث: الدنیا سند هش خاوی!

«کَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ، وَذِی طُمَأْنِینَةٍ إِلَیْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ. وَذِی أُبَّهَةٍ قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِیراً، وَذِی نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِیلاً سُلْطَانُهَا دُوَّلٌ وَعَیْشُهَا رَنِقٌ، وَعَذْبُهَا أُجَاجٌ، وَحُلْوُهَا صَبِرٌ، وَغِذَاؤُهَا سِمَامٌ، وَأَسْبَابُهَا رِمَامٌ. حَیُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ، وَصَحِیحُهَا بِعَرَضِ سُقْمٍ. مُلْکُهَا مَسْلُوبٌ، وَعَزِیزُهَا مَغْلُوبٌ، وَمَوْفُورُهَا مَنْکُوبٌ. وَجَارُهَا مَحْرُوبٌ!»

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام - فی هذا المقطع من الخطبة - إلی أمرین مهمین آخرین بشأن الحیاة الدنیا ووضاعة متاعها المادیة:

الأمر الأول: أنّ لا شیء فیها یمکن الاعتماد علیه والوثوق به، فقد قال علیه السلام بهذا الشأن کم من وثق بهذه الدنیا وسکن إلیها فجرعته الألم والمعاناة، وما أکثر الأفراد الذین اطمئنوا إلیها فصرعتهم، وما أکثر الأفراد الذین کانوا من أهل السطوة والشوکة، فأذاقتهم لباس الذلّة والمسکنة: «کَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ، وَذِی طُمَأْنِینَةٍ إِلَیْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ. وَذِی أُبَّهَةٍ (1)قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِیراً، وَذِی نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِیلاً» .

نعم، لیس هنالک من فرد مهما کان مقامه، وموقعه بمأمن من الحوادث الخطیرة والمکاره

ص:15


1- 1) «أبهة» : بمعنی العظمة وقد اشتقت من مادة «أبه» بمعنین الفطنة حیث توصل ممن یتصف بها من الأفرادإلی المجد والعظمة.

التی تصیب الإنسان بغتة، فعظام الملوک والسلاطین والأبطال الأشداء أصحاب رؤوس المال من أهل الجاه والسطوة والشباب الذین یعیشون عنفوان النشاط والحیویة والجمال، کل هؤلاء ومن شاکلهم إنّما یخضعون لهذه الحوادث التی تجری علیهم وهم صاغرون، الحوادث التی تأتی علی جمیع النعم واللذات فتخطفها فی لحظة وتذل الأعزّة والجبابرة وما التاریخ عنک ببعید، فقد شحن بمثل هذه الحوادث، وقد ورد فی تاریخ الطبری أنّ سلیمان بن عبدالملک لبس ذات یوم لباساً فاخراً واعتم بعمة خضراء وأخذ ینظر فی المرآة (وهو یتلذذ بما یشاهد من نفسه فدفعه الفخر لأن) یقول: أنا ملک شاب سعید الحظ، فلم یعمر بعد ذلک أکثر من سبعة أیّام (1).

الأمر الثانی: هو أنّ حلاوتها قد عجنت بالمرارة وانتصاراتها بالهزائم: «سُلْطَانُهَا دُوَّلٌ (2)وَعَیْشُهَا رَنِقٌ (3)، وَعَذْبُهَا أُجَاجٌ (4)، وَحُلْوُهَا صَبِرٌ (5)، وَغِذَاؤُهَا سِمَامٌ (6)، وَأَسْبَابُهَا رِمَامٌ (7)» .

ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی حال ساکن الدنیا من أنّ حیاته معرّض للموت والسقم والمرض یتربص بعافیته وصحته، ملک هذه الدنیا یستبطن الزوال والفناء، وعزیزها آیل إلی الانکسار، ووفرة نعمها تحمل معها مفردات النفاد والانقضاء: «حَیُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ، وَ صَحِیحُهَا بِعَرَضِ سُقْمٍ. مُلْکُهَا مَسْلُوبٌ، وَعَزِیزُهَا مَغْلُوبٌ، وَمَوْفُورُهَا (8)مَنْکُوبٌ (9)، وَجَارُهَا مَحْرُوبٌ! (10)» .

نعم، فمتع الدنیا ولذاتها إن وجدت، فهی مشوبة بأنواع المعاناة والألم، والحکام فی ذوی القدرة والسطوة الذین نغبطهم علی مدی قدرتهم وشدّة شوکتهم وتربعهم علی العرش نراهم

ص:16


1- 1) الطبری 5/305.
2- 2) «دول» : بضم الدال وفتح الواو المشددة المتحول، الشیء الذی یتحول من ید إلی أخری، ولما کانت حال الحکومات کذلک، فقد اصطلح علیها بالدول أیضاً.
3- 3) «رنق» : صفة مشبهة من مادة «رنق» بمعنی الکدر.
4- 4) «اجاجم» : شدید الملوحة تلدغ حرارته الفم.
5- 5) «صبر» : جمع «صبرة» علی وزن کلمة أو جمع صبر علی وزن فقر عصارة شجرة مرّة، کما یطلق أحیاناً علی نفس الشجرة.
6- 6) «سمام» : جمع «سم» المواد التی إذا خالطت بدن الإنسان أفسدته وأهلکته.
7- 7) «رمام» : جمع «رمة» بالضم القطعة البالیة من العظم أو الحبل.
8- 8) «موفور» : من مادة «وفور» الکثیر من الشیء.
9- 9) «منکوب» : من مادة «نکبة» بمعنی المصاب.
10- 10) «محروب» : من مادة «حرب» القتال والحرب.

حین الاقتراب منهم أخوف ما یخافون حتی من مقربیهم، وأکثر الناس طاعة لأوامرهم، بل هم فی غایة القلق والاضطراب ممّا یخبیء لهم الغد والمستقبل القریب.

ولعل هذا الأمر أشبه شیئاً بتلک القصّة التی تحدثت عن ذلک الفرد الذی کان یتمنی التربع علی العرش السلطة ولو لیوم واحد، فحققوا له ما یرید، غیر أنّهم عقلّوا علی رأسه خنجراً حاداً ربطوه بشعرة، فکان یتوقع فی کل آن قطع تلک الشعرة ونزول ذلک الخنجر علی هامته، فکان یرجو بفارغ الصبر انقضاء ذلک الیوم والخلاص من مسند العرش الذی انطوی علی ذلک الخطر، فما أورع الصورة التی رسمها الإمام علیه السلام لهذه الدنیا الغرور حین قال: «کَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ، وَذِی طُمَأْنِینَةٍ إِلَیْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ» .

فلیس هنالک ما یوثق به منها ولا یعتمد علیه فیها.

ص:17

ص:18

القسم الرابع: تأملوا الماضی قلیلاً

«أَلَسْتُمْ فِی مَسَاکِنِ منْ کَانَ قَبْلَکُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وَأَبْقَی آثَاراً، وَأَبْعَدَ آمَالاً، وَأَعَدَّ عَدِیداً، وَأَکْثَفَ جُنُوداً! تَعَبَّدُوا لِلدُّنْیَا أَیَّ تَعَبُّدٍ، وَآثَرُوهَا أَیَّ إِیثَارٍ. ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَیْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ وَلاَ ظَهْرٍ قَاطِعٍ. فَهَلْ بَلَغَکُمْ أَنَّ الدُّنْیَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْیَةٍ، أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ، أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً! بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَادِحِ، وَأَوْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ، وَضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ، وَعَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ، وَوَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ، وَأَعَانَتْ عَلَیْهِمْ رَیْبَ الْمَنُونِ. فَقَدْ رَأَیْتُمْ تَنَکُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا، وَآثَرَهَا وَأَخْلَدَ لَهَا، حِینَ ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ الْأَبَدِ. وَهَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ السَّغَبَ، أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ الضَّنْکَ، أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ الظُّلْمَةَ، أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ النَّدَامَةَ! أَفَهذِهِ تُؤْثِرُونَ، أَمْ إِلَیْهَا تَطْمَئِنُّونَ؟ أَمْ عَلَیْهَا تَحْرِصُونَ؟ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ یَتَّهِمْهَا، وَلَمْ یَکُنْ فِیهَا عَلَی وَجَلٍ مِنْهَا!»

الشرح والتفسیر

واصل الإمام علیه السلام الخطبة التی أوردها فی ذم الدنیا وسرعة زوالها وخداعها وغرورها مصطحباً مخاطبیه هذه المرة لیغوص فی أعماق تاریخ الاُمم السالفة، لیصور من خلالها حیاة أصحاب السلطة والقدرة ممن ملأ صیتهم الأرجاء وکانت تقوم الدنیا وتقعد بین أیدیهم، وکذلک أصحاب الثروة والمال لیتساءل علیه السلام ألستم تحلون محلّ من کان قبلکم وتسکنون مساکنهم، ممن عمروا کثیراً وترکوا آثاراً وکانت لهم أمنیاتهم وآمالهم ورغباتهم، وکانت لهم

ص:19

جنودهم وحماتهم: «أَلَسْتُمْ فِی مَسَاکِنِ منْ کَانَ قَبْلَکُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وَأَبْقَی آثَاراً، وَأَبْعَدَ آمَالاً، وَأَعَدَّ عَدِیداً (1)، وَأَکْثَفَ (2)جُنُوداً!» .

فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی خمس خصائص إمتازت بها الأقوام السابقة وهی: طول العمر، وبقاء الآثار والمخلفات، وطول الآمال، وکثرة السکان، وکثرة الجنود، فهی خصائص منحتهم التفوق علی سائر من سواهم، وإلّا أنّ أی من هذه الامتیازات لم یحل دون زحف العدم والفناء لقصورهم وأدیتهم، فکان مصیرهم أن تلاشوا وتساقطوا رکوعاً للموت تساقط أوراق الشجر فی فصل الخریف.

ثم أضاف علیه السلام مواصلاً کلامه بهذا الشأن: «تَعَبَّدُوا لِلدُّنْیَا أَیَّ تَعَبُّدٍ، وَآثَرُوهَا أَیَّ إِیثَارٍ. ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَیْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ وَلاَ ظَهْرٍ قَاطِعٍ» .

نعم، فرغم کلّ سعیهم وجهدهم فی سبیل عبادة الدنیا والذوبان فیها وتجنید کافة قواهم وطاقاتهم فی هذا الاتجاه، إلّاأنّهم لم یصیبوا أی شیء منها، ثم مشوا إلی حتوفهم وقد خلت جعبهم من الزاد والمتاع ودون حمل الورع والتقوی التی لا یجدی غیرها نفعاً هناک، فطریق الآخرة شاق طویل لا یجتازه إلّاأهل الورع والتقی.

ثم خاطب علیه السلام صحبه: هل بلغکم أنّ الدنیا قدمت لأحدهم فدیة لتنجیه من الموت أو سکراته؟ أم هل أعانتهم بشیء فی هذا السبیل؟ أم هل کانت علی الأقل صاحباً حسناً لهم: «فَهَلْ بَلَغَکُمْ أَنَّ الدُّنْیَا سَخَتْ (3)لَهُمْ نَفْساً بِفِدْیَةٍ، أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ، أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً!» .

نعم، لم تقدم لهم أی عون ولم تنجیهم عن المکاره والأهاویل، أفلا یکون ذلک عبرة لم اعتبر من أبناء الدنیاأ!

ثمّ واصل الإمام علیه السلام کلامه بهذا الخصوص قائلاً: «بَلْ أَرْهَقَتْهُم (4)بِالْقَوَادِحِ (5)، وَأَوْهَقَتْهُمْ (6)

ص:20


1- 1) «عدید» : بمعنی «العدد» ، کما ورد بمعنی الشبیه والمثیل وأرید بها المعنی الأول فی عبارة الخطبة.
2- 2) «أکثف» : تفضیل «کثیف» بمعنی الکثیر.
3- 3) «سخت» : من مادة «السخاوة» بمعنی العطاء.
4- 4) «أرهقت» : من مادة «إرهاق» ستر الشیء بالقوّة، أرهقتهم بمعنی غشیتهم.
5- 5) «قوادح» : جمع «قادحة» بمعنی الآفة.
6- 6) «أوهقت» : من مادة «وهق» حلقة توضع علی رقبة الحیوان.

بِالْقَوَارِعِ (1)، وَضَعْضَعَتْهُمْ (2)بِالنَّوَائِبِ، وَعَفَّرَتْهُمْ (3)لِلْمَنَاخِرِ، وَوَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ (4)، وَأَعَانَتْ عَلَیْهِمْ رَیْبَ الْمَنُونِ (5)» .

فهذه العبارة المؤثرة تشیر إلی أنّ الدنیا لیس فقط لم تقدم العون والمساعدة لعبادها وأصحابها، بل سارعت بکل ما أوتیت من وقوّة لتوجیه ضرباتها الماحقة إلیهم بغیة إبادتهم، وإستئصال شوکتهم، حتی جندت جمیع قواها وطاقاتها ضدهم.

والطریف فی بیان الإمام علیه السلام هو أنّه بدأ من المراحل الکبری نزولاً إلی الصغری فی إطار تصویره لإعانة الدنیا وما یمکنها أن تقدمه من نصرة ومساعدة، بینما تدرج فی أضرارها التی تصیب من تعلق بها من المراحل السفلی إلی المراحل العلیا المتمثلة بالانقضاض علیهم وإزالتهم من صحفة الوجود، ولعمری هذه قمة الفصاحة والبلاغة فی بیان الحقائق المریرة والألیمة ویکشف النقاب عن مدی وضاعة الدنیا وانحطاطها وتنکرها لمن أخلد إلیها واطمأن بها.

ثم خلص علیه السلام إلی نتیجة ممّا سبق مفادها تنکر الدنیا لأصحابها ممن آثرها علی کلّ شیء وهو الأمر الذی رأوه بأم أعینهم (أو لعلهم طالعوه بشأن الاُمم التی سبقتهم) فقد سلمتهم للأقدار وساقتهم نحو الموت دون أن یعدّوا الزاد والمتاع لتلک الدار الآخرة: «رَأَیْتُمْ تَنَکُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا، وَآثَرَهَا وَأَخْلَدَ (6)لَهَا، حِینَ ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ الْأَبَدِ» .

فهل أمدتهم هذه الدنیا بشیء سوی الجوع والفقر؟ وهل عرضتهم سوی للتعب والارهاق

ص:21


1- 1) «قوارع» : جمع «قارعة» بمعنی المحن والدواهی.
2- 2) «ضعضعت» : من مادة «ضعضعة» بمعنی الذلة والهوان، کما تأتی بمعنی الإبادة.
3- 3) «عفرت» : من مادة «التعفیر» کبتهم علی مناخرهم فی العفر وهو التراب.
4- 4) «المناسم» : جمع «منسم» یکسر المیم وهو مقدم خف البعیر.
5- 5) «ریب المنون» : الریب الشک الذی یکشف عنه الغطاء آخر لأمر ویبلغ الیقین، والمنون یعنی الموت، وریب المنون الموت المحتمل ویراد بها أحیاناً مکاره الدهر التی تکون فی البدایة مشکوکة ثم یحصل بها الیقین.
6- 6) «أخلد» : من مادة «إخلاد» وأصلها من الخلود، والعبارة أخلد إلیها بمعنی الرکون، أی أنّ أصحاب الدنیا قد أبدوا منتهی الرغبة بالدنیا وکأنّهم التصقوا بها.

والضنک؟ وهل وهبتهم إلّاالظلمة التی لیس معها نور؟ (أبداً، بل أودعتهم حفراً مظلمة موحشة تفیض رعباً وخشیة) ، وهل بقی لدیهم من شیء سوی الحسرة والندم: «وَهَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ السَّغَبَ، أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ الضَّنْکَ (1)، أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ الظُّلْمَةَ، أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ النَّدَامَةَ!» .

فکیف الوثوق بهذه الدنیا التی لا تضمر لمن تعلق بها سوی البؤس والشقاء والهزیمة والفشل والظلمة، ولا تعقبه سوی الندم؟ ! أم کیف له التضحیة بالغالی والنفیس فی سبیل الحصول علی بعض حطام الدنیا وجعلها هدفاً فی حیاته؟ !

ومن هنا تساءل الإمام علیه السلام مستنکراً: «أَفَهذِهِ تُؤْثِرُونَ، أَمْ إِلَیْهَا تَطْمَئِنُّونَ؟ أَمْ عَلَیْهَا تَحْرِصُونَ؟ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ یَتَّهِمْهَا، وَلَمْ یَکُنْ فِیهَا عَلَی وَجَلٍ مِنْهَا!» .

حقاً، لیست هناک من عبارات أوضح وأفصح من هذه العبارات التی وردت بشأن تفاهة الدنیا والمصیر والعاقبة المریرة التی تنتظر من تعلق بها وسکن إلیها، وهدف الإمام علیه السلام من هذه التأکیدات المتواصلة والعبارات المنبهة الشدیدة إلی الوقوف بوجه الریح الدنیویة العاتیة، وما إنطوت علیه من نعم جمّة أفرزتها قضیة الفتوحات الإسلامیة والتی إستهوت قطاعات واسعة من المسلمین لتقذف بهم فی أتون الرفاهیة والراحة والدعة بما ینسیهم القیم والمثل والمبادیء السماویة الخالدة، ویجعلهم یغطّون فی سبات الغفلة، علّهم یفیقون إلی أنفسهم ویعودون إلی رشدهم فیهبوا لإحیاء القیم الإسلامیة المغیبة، إلی جانب محاولة الإمام علیه السلام إعادة الاُمّة - لا سیما أولئک الأفراد الذین تکالبوا علی الدنیا وثرواتها إبان عهد عثمان - إلی المسار الإسلامی الصحیح.

وما أورع هذه المواعظ والنصائح البلیغة الواضحة للمتکالبین علی الدنیا من أبناء عصرنا الراهن حیث یشهدون ذات الظروف، بل أسوأ منها والتی عصفت بالمجتمع وجعلته یتعلق بالدنیا، والحق لو لم یلتفتوا إلی هذا الأمر ویفکروا فی علاج وضعهم فلا من دین ولا دنیا معقولة یمکنهم أن یظفروا بها ویحصلوا علیها.

والعبارات تنسجم تماماً وما صرحت به الأحادیث النبویة الشریفة وروایات وکلمات

ص:22


1- 1) «ضنک» : بمعنی «الضیق» والشدّة وهی مفردة تستعمل بصیغة المفرد دائماً.

المعصومین علیهم السلام وبالتالی الآیات القرآنیة، فققد صرّحت الآیة 9، من سورة الروم:

«أَوَلَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنظُرُوا کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ کَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَکْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَیِّنَاتِ فَمَا کَانَ اللّهُ لِیَظْلِمَهُمْ وَلَکِنْ کَانُوا أَنفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ» .

کما صرّحت الآیة 7 - 8 من سورة یونس:

«إِنَّ الَّذِینَ لَایَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِینَ هُمْ عَنْ آیَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِکَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا کَانُوا یَکْسِبُونَ»

وورد فی الحدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «مَنْ زَهِدَ فِی الدُّنیا أَثبَتَ اللّهُ الحِکمَةَ فِی قَلْبِهِ وَأَنْطَقَ بِها لِسَانَهُ وَبَصَّرَهُ عُیُوبَ الدُّنیا دَاءَها وَدَواءَها وَأَخرَجَهُ مِنَ الدُّنیا سالَِماً إلی دارِ السَّلامِ» (1).

کما ورد عنه علیه السلام أنّه قال: «مَن أَصبَحَ وَأَمسَی وَالدُّنیا أَکْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللّهُ تَعالی الفَقرَ بَینَ عَینَیهِ وَشَتَّتَ أَمَرَهُ، وَلَم یَنَلْ مِنَ الدُّنیا إلّاما قَسَّمَ اللّهُ لَهُ، مَن أَصبَحَ وَأَمسَی وَالآخِرَةُ أَکْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللّهُ الغِنی فِی قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ أَمرَهُ» . (2)

ص:23


1- 1) اصول الکافی 2/128. [1]
2- 2) المصدر السابق /319. [2]

ص:24

القسم الخامس: الاعتبار بالموتی

اشارة

«فَاعْلَمُوا - وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - بِأَنَّکُمْ تَارِکُوهَا وَظَاعِنُونَ عَنْهَا. وَاتَّعِظُوا فِیهَا بِالَّذِیْنَ قَالُوا: «مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً» . حُمِلُوا إِلَی قُبُورِهِمْ فَلا یُدْعَوْنَ رُکْبَاناً، وَأُنْزِلُوا الْأَجْدَاثَ فَلاَ یُدْعَوْنَ ضِیفَاناً. وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِیحِ أَجْنَانٌ، وَمِنْ التُّرَابِ أَکْفَانٌ، وَمِنْ الرُّفَاتِ جِیرانٌ، فَهُمْ جِیرَةٌ لاَ یُجِیبُونَ دَاعِیاً، وَلاَ یَمْنَعُونَ ضَیْماً، وَلاَ یُبَالُونَ مَنْدَبَةً. إِنْ جِیدُوا لَمْ یَفْرَحُوا، وَإِنْ قُحِطُوا لَمْ یَقْنَطُوا. جَمِیعٌ وَهُمْ آحَادٌ، وَجِیرَةٌ وَهُمْ أَبْعَادٌ. مُتَدَنُونَ لاَ یَتَزَاوَرُونَ، وَقَرِیبُونَ لاَ یَتَقَارَبُونَ. حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ. وَجُهَلاَءُ قَدْ مَاتَت أَحْقَادُهُمْ، لاَ یُخْشَی فَجْعُهُمْ، وَلاَ یُرْجَی دَفْعُهُمْ، اِسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْضِ بَطْنَاً، وَبِالسَّعَةِ ضِیقاً، وَبِالْأَهْلِ غُرْبَةً، وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً. فَجَاءُوهَا کَمَا فَارَقُوهَا، حُفَاةً عُرَاةً، قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بأَعْمَالِهِمْ إِلَی الْحَیَاةِ الدَّائِمَةِ وَالدَّارِ الْبَاقیَةِ، کَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی: «کَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِیدُهُ وَعْداً عَلَیْنَا إِنَّا کُنَّا فَاعِلِینَ»» .

الشرح والتفسیر

إختتم الإمام علیه السلام خطبته بالحدیث مرّة أخری عن تقلب أحوال الدنیا وغدرها وتنکرها لمن تعلّق بها، إلی جانب الکلام عن المصیر الحتمی الذی ینتظر کل إنسان والذی یتمثل بمفارقة الدنیا والرحیل إلی عالم الآخرة، فقال علیه السلام: «فَاعْلَمُوا - وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - بِأَنَّکُمْ تَارِکُوهَا وَظَاعِنُونَ (1)عَنْهَا» .

ص:25


1- 1) «ظاعنون» : من مادة «ظعن» علی وزن دفن بمعنی السفر والرحیل.

نعم، فلابدّ لکل إنسان أن یذوق طعم الموت: «کُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ. . .» (1).

وقال تعالی: «کُلُّ مَنْ عَلَیْهَا فَانٍ * َیَبْقَی وَجْهُ رَبِّکَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِکْرَامِ» (2).

ولعل الإنسان یشک فی کل شیء، غیر أنّه لا یشک فی حقیقة الموت: «واعْبُدْ رَبَّکَ حَتَّی یَأْتِیَکَ الیَقِینُ» (3).

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بضرورة الاتعاظ بمن کان قبلهم من الاُمم ممن غرّتهم قواهم، فلم تنفعهم تلک القوّة شیئاً حتی حملوا راغمین إلی قبورهم، فلم یحلوا ضیوفاً علی تلک القبور بعد أن ورد وهاقراً وإکراهاً دون أن یکون لهم أدنی إرادة واختیار: «وَاتَّعِظُوا فِیهَا بِالَّذِیْنَ قَالُوا: «مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً» (4). حُمِلُوا إِلَی قُبُورِهِمْ فَلا یُدْعَوْنَ رُکْبَاناً (5)، وَأُنْزِلُوا الْأَجْدَاثَ (6)فَلاَ یُدْعَوْنَ ضِیفَاناً» .

ولعل العبارة إشارة لما ورد فی الآیة 15 من سورة فصلت القائلة: «فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَکْبَرُوا فِی الْأَرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً. . .» .

فالمعروف أنّ قوم عاد کانوا ذوی جثث ضخمة وقصور وبیوت فارهة عملاقة ینحتونها وسط الجبال، الأمر الذی جعلهم یصابون بالکبر والغرور، فلمّا عتوا عن أمر اللّه وعصوه أرسل اللّه علیهم ریحاً عاتیة فأحالت جثثهم الضخمة إلی ما یشبه أوراق الأشجار التی تتناثر علی الأرض، حیث حدّث عنهم القرآن الکریم بهذا الشأن قائلاً: «إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَیْهِمْ رِیحاً صَرْصَراً فِی یَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ کَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ» . (7)

ص:26


1- 1) سورة العنکبوت / 57. [1]
2- 2) سورة الرحمن / 27 - 28. [2]
3- 3) سورة الحجر / 99. [3]
4- 4) سورة فصلت / 15. [4]
5- 5) «رکبانا» : صرّح بعض شرّاح نهج البلاغة [5]أنّ العرب إعتادت الاصطلاح بالرکبان علی من یرکب مختاراً وله التصرف فی مرکوبه، فان نزلوا سموا ضیفان، أمّا الموتی الذین یحملون إلی قبورهم فلا یدعون رکباناً ولا ضیفان.
6- 6) «الاجداث» : جمع «جدث» علی وزن قفص بمعنی القبور.
7- 7) سورة القمر / 19 - 20. [6]

أمّا قوله علیه السلام «فَلا یُدْعَوْنَ رُکْبَاناً» والرکبان جمع راکب وذلک لأنّ الراکب من یکون مختاراً، ولا اختیار لهؤلاء، وقوله علیه السلام «فَلاَ یُدْعَوْنَ ضِیفَاناً» لأنّ الضیف یرد برغبته وإرادته إلی المکان الذی یستقبل فیه، وقد ورد مثل هذا المعنی فی الخطبة 188 من نهج البلاغة إذ قال علیه السلام: «حُمِلُوا إِلَی قُبُورِهِمْ غَیْرَ رَاکِبینَ، وَأُنْزِلُوا فِیهَا غَیْرَ نَازِلِینَ» .

ثم قال الإمام علیه السلام مواصلة لوصفهم: «وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِیحِ (1)أَجْنَانٌ (2)، وَمِنْ التُّرَابِ أَکْفَانٌ، وَمِنْ الرُّفَاتِ (3)جِیرانٌ» .

فالعبارة إشارة إلی أنّ قبورهم خالیة من البناء والسقوف والأعمدة والأبواب والنوافذ، فهی لیست أکثر من قبضة من الحجر والتراب علی وجه الأرض، والتعبیر عن التراب بالکفن فذلک لأنّه یحیط ببدن المیت ویواریه کالکفن، وأمّا ذلک الکفن الذی یلف به المیت فهو مؤقت سرعان ما یبلی ویزول، ولا یبقی سوی الکفن الأصلی وهو التراب.

والجدیر بالذکر هو أنّ الإمام علیه السلام واصل کلامه بالحدیث عن هؤلاء الجیران وهم لیسوا أکثر من عظام نخرة، فیکشف النقاب عن حقیقة وضعهم بعبارات غایة فی الجمال والروعة، وبما یدعو للتأمل والاعتبار: «فَهُمْ جِیرَةٌ لاَ یُجِیبُونَ دَاعِیاً، وَلاَ یَمْنَعُونَ ضَیْماً (4)، وَلاَ یُبَالُونَ مَنْدَبَةً (5)» .

أضف إلی ذلک فهم علی درجة من عدم الإکتراث بأی شیء بحیث: «إِنْ جِیدُوا (6)لَمْ یَفْرَحُوا، وَإِنْ قُحِطُوا لَمْ یَقْنَطُوا. جَمِیعٌ وَهُمْ آحَادٌ، وَجِیرَةٌ (7)وَهُمْ أَبْعَادٌ. مُتَدَنُونَ لاَ یَتَزَاوَرُونَ، وَقَرِیبُونَ لاَ یَتَقَارَبُونَ» .

حقاً، أنّهم عبرة لمن اعتبر وأوضاعهم مدعاة إلی التأمل والنظر، فکل شأن من شؤونهم یختلفت ماماً وما علیه الحال بالنسبة لأهل الدنیا، فقد کانوا معاً حتی أمس القریب، ینجد

ص:27


1- 1) «صفیح» : وردت هنا بمعنی وجه الأرض، من مادة «صفح» علی وزن مدح.
2- 2) «أجنان» : جمع «جنن» علی وزن کفن بمعنی القبر، وأصلها بمعنی التغطیة والستر، ولما کان القبر یستر بدن المیت فقد اطلق علیه الجنن.
3- 3) «رفات» : بمعنی کل شیء بالی ومتعفن، کما یراد بها العظام المندقة المحطومة والمتنافرة.
4- 4) «ضیماً» : له مفهوم المصدر واسم المصدر ویعنی الظلم.
5- 5) «مندبة» : من مادة «ندبة» بمعنی البکاء.
6- 6) «جیدوا» : من مادة «جود» علی وزن قوم مبنی للمجهول بمعنی مُطروا.
7- 7) «جیرة» : جمع «جار» وغالباً ما تجمع جیران.

بعضهم البعض الآخر، یهرعون لاستقبال السنین التی تدر علیهم النعم والمنافع، بینما کانوا ینزعجون من القحط والجدب، کما کانوا یطوون المسافات القریبة والبعیدة لرؤیة بعضهم البعض الآخر، لکن دون خبر عن أوضاعهم وما علیه أحوالهم، قبورهم متصلة متلاصقة مع بعضها، إلّاأنّ المسافة بینهما کأنّها ما بین المشرق والمغرب، ومن کان منهم یأن لیل نهار من عذاب البرزخ فلا یسمع أنینه أقرب مقربیه من صحبه من أهل القبور، بل حتی لو سمع صراخه وألمه لما وسعه نجدته وتقدیم العون له.

وما أروع ما کان یردده الإمام السجاد علیه السلام حین مناجاته باکیاً وهو یجسد ما أورده الإمام علی علیه السلام بهذا الشأن، إذ کان یقول: وأضحَوا رِمِیماً فِی التُّرابِ وَاقفَرَتْ

ثم واصل الإمام علیه السلام حدیثه عن أصحاب القبور بأنّهم عقلاء قد ذهبت عداوتهم وخصومتهم، وفی نفس الوقت هم جهّال قد طرحت أحقادهم وأضغانهم، فلییس هناک ما یدعو للخشیة من ضررهم وشرهم، کما لا یؤمل أن یدافعوا عن أنفسهم، فقد انسلخوا من ظاهر الأرض لیوطنوا باطنها، فاستبدلوا بتلک السعة ضیقاً وبالأهل والوطن والنور غربة وظلمة: «حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ. وَجُهَلاَءُ قَدْ مَاتَت أَحْقَادُهُمْ، لاَ یُخْشَی فَجْعُهُمْ، وَلاَ یُرْجَی دَفْعُهُمْ، اِسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْضِ بَطْنَاً، وَبِالسَّعَةِ ضِیقاً، وَبِالْأَهْلِ غُرْبَةً، وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً» .

والعجیب فی الأمر أنّه یصفهم فی عبارة بالعقلاء، ثم یردفها بالعبارة التالیة بوصفهم بالجهلاء، والواقع هو أنّهم جثث خاویة قد خلت من الأرواح، فهم لیسوا بعقلاء ولا جهلاء، بل وضعهم فی موضع جعلهم أشبه بالعقلاء حیث زالت العداوة بینهم، وفی موضع آخر تشبهوا بالجهلاء حیث ماتت بینهم روح الحسد ودوافعه، فقد تغییرت جمیع مفرداتهم فی لحظة حیث استبدلوا بظاهر الأرض باطنها وبالدور الواسعة المنیرة الملیئة بالأهل والعیال، القبور الضیقة

ص:28

والمظلمة الموحشة الخالیة من الصخب والضجیج.

ثم إختتم حدیثه علیه السلام بالقول: «فَجَاءُوهَا کَمَا فَارَقُوهَا، حُفَاةً عُرَاةً» (1).

والعبارة مستوحاة من الآیة القرآنیة الشریفة: «مِنْهَا خَلَقْنَاکُمْ وَفِیهَا نُعِیدُکُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُکُمْ تَارَةً أُخْرَی» (2).

نعم کما خلق آدم علیه السلام من التراب، کذلک أولاده سیعودن حفاة عراة إلی هذه الأرض علی غرار ولادتهم وقدومهم إلیها، وإن حملوا معهم کفناً، فهو لیس کذلک فی الواقع، إذا سرعان ما یبلی ویزول ولا یعدّ له من وجود، بالتالی سیودع هذا الإنسان شاء أم أبی یوماً کل ما جمعه من أموال وأعدّ لنفسه من قصور ودور فارهة وحدائق ومراکب وإمکانات ووسائل، لینزل تلک الحفرة حافیاً عریاناً وعلیه أن یستعد لتلک الظلمة والوحشة.

نعم، الشیء الوحید الذی یحمله معه هو عمله والذی قد یکون أحیاناً وبالاً علیه وأعظم بلاء یصیبه، وهو الأمر الذی أکّده الإمام علیه السلام فقال: «قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بأَعْمَالِهِمْ إِلَی الْحَیَاةِ الدَّائِمَةِ وَالدَّارِ الْبَاقیَةِ، کَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی: «کَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِیدُهُ وَعْداً عَلَیْنَا إِنَّا کُنَّا فَاعِلِینَ» (3)» .

فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام أشار فی ختام هذه الخطبة إلی نقطتین:

الأولی: عودة الإنسان إلی الأرض کما خلق منها.

والثانیة: النشأة الجدیدة فی الآخرة.

ثم استشهد علیه السلام بالآیة القرآنیة الکریمة: «کَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِیدُهُ وَعْداً عَلَیْنَا إِنَّا کُنَّا فَاعِلِینَ» ، لکی لا یبقی أدنی مجال للشک فی حقیقة عودة الإنسان إلی التراب الذی خلق منه فیری هناک جزاء أعماله من ثواب أو عقاب.

ص:29


1- 1) اختلفت أقوال شرّاح نهج البلاغة [1]لهذه العبارة، ویبدو الأنسب هو ما أوردناه سابقاً.
2- 2) سورة طه / 55. [2]
3- 3) سورة الانبیاء / 104. [3]

تأمّلان

1 - سبل مواجهة التعلق بالدنیا

إنّ حبّ الدنیا کما ورد فی الروایة هو رأس کل خطیئة وأساس جمیع الذنوب والمعاصی، کما أنّ التعلّق بها والاغترار بزخارفها وحطامها یصد الإنسان عن ربّه وینسیه الآخرة والحساب یوم القیامة، ومن شأن هذه الغفلة والصدود أن تشکل أحد العوامل المهمّة التی تقذف بالإنسان فی وحل الخطایا والذنوب، وقد شهد عصر الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام تنامی الأموال والثروات إثر التقدم السریع الذی أحرزه الإسلام والغنائم المتحصلة من الغزوات، وهو الأمر الذی لفت إنتباه طائفة عظیمة من المسلمین لیشدّه إلی الدنیا ویدفع بها إلی التکالب علیها، وأفضل شاهد علی ذلک الفساد المالی العظیم الذی حصل علی عهد عثمان، ومن هنا لم ینفک الإمام علیه السلام فی أغلب خطب نهج البلاغة من ذمّ الدنیا والتحذیر من الانخداع بها والرکون إلیها والوثوق بها، وقد أورد عباراته بمنتهی الفصاحة والبلاغة وبالشکل الذی یجعلها تثیر حساسیة أهل الغفلة ممن نسوا أنفسهم وتعلّقوا بالدنیا، ولا سیّما فی هذه الخطبة التی مرّ علینا شرحها، فقد سارت مواکبة للقرآن الکریم فی ذمّه للدنیا، وقد سلک الإمام علیه السلام مختلف الطرق من أجل بیان هذه الحقیقة منها:

1 - تحدّث علیه السلام بادیء ذی بدء عن «غدر الدنیا وعدم ثباتها» وکیف استقطبت کل من تطلّع إلیها بینما ولّت ظهرها وتنکرت له وقذفت به فی وحل البؤس والشقاء.

2 - تحدّث أحیاناً عن «تقلب الدنیا السریع» حیث سرعان ما تتبدل القوّة ضعفاً، والانتصار هزیمة، والغنی فقراً، والعافیة مرضاً.

3 - کما تحدّث أحیاناً أخری عن إختلاط النعم بالآلام، والمعافاة والعذوبة بالمرارة، فهنالک الاشواک حیث الأزهار، والأفاعی حیث الکنوز، بهدف عدم اغترار الناس بالدنیا والتعلّق بها والانخداع بزخارفها.

4 - کما یصحب علیه السلام مخاطبیه تارة أخری لیوقفهم علی نماذج عینیة ملموسة للغدر وعدم الثبات الذی تنطوی علیه طبیعة الدنیا، فیقول لهم: إنظروا إلی الدنیا ماذا فعلت بمن کان أشدّ منکم قوّة وأکثر جمعاً للأموال وأعظم جنداً.

ص:30

5 - وأحیاناً أخری یکون علی غرار الرسّام الماهر الذی أمسک بریشته وجعل یرسم علی لوحته الحالات المرعبة للإنسان علی أعتاب الموت، وإنفصاله عن الأهل والولد والمال والثروة والجاه والمنصب، فیضع تلک اللوحة أمام أعینهم لیروها عن قرب فیعتبروا ویفکروا فی مصیرهم.

6 - کما یعمد أحیاناً أخری لرسم لوحة صادقة معبّرة عن ضیق القبر وظلمته والذی یمثل آخر منازل الدنیا، فهو یحکی عن وحدة الإنسان وغربته وسط ما یجاوره من قبور صامتة، فلیس هناک من تزاور بینهم قط، کما لیس لأحد منهم علم عن آخر، إلی جانب تصویره لانقطاع الإنسان عن زوجته وولده ومدی عجزه وحاجته.

والملفت للنظرها هو أنّ جمیع هذه المباحث والمضامین إنّما تتحرک فی ظلّ آیات القرآن الکریم، فأحیاناً تشیر صراحة إلی تلک الآیات، وأخری تکون العبارات مستقاة من الآیات القرآنیة، وهذا ما یسیغ نوراً ولمسات روحیة، وجذبات معنویة علی کلمات الإمام علی علیه السلام وبالتالی مضاعفة مدی تأثیرها.

یالیت أهل الدنیا ممن اغتروا بها وخدعوا بحطامها وزیفها وتزینها أن یلتفتوا لأنفسهم ولو لحظة واحدة طیلة عمرهم فیطالعوا هذه الخطبة الموقظة ویتدبّروا عباراتها ومفاهیمها، بل ما أحرانا نحن أیضاً أن نتأمل هذه الخطبة وما شابهها من الخطب التی وردت فی نهج البلاغة لتتعمق معرفتنا بخصوص الدنیا والوقوف علی مدی ضحالتها وتفاهتها فتتجدد فینا روح الطاعة والابتعاد عن الخطیئة والمعصیة.

جدیر بالذکر أنّ العدید من الأدباء والشعراء قد انطلقوا أیضاً فی ظلّ الآیات القرآنیة والروایات الشریفة والمفاهیم الدینیة فانشدوا أشعاراً تهزّ الضمیر وتوقفه علی واقع الدنیا، من اُولئک الشعراء الایرانیین هو الشاعر الکبیر والفرید «الحافظ الشیرازی» الذی أنشد أشعاراً کثیرة بشأن سرعة زوال نعم الدنیا وغدرها وأنّ حلاوتها قد مزجت بالمرارة وراحتها بالألم وسلامتها بالمرض والسقم، کما نظم قصائداً فی تقلب أحوال الدنیا وتغیرها المفاجیء وعدم استقرارها علی حال. قصر الجدید إلی بلی والوصل فی الدنیا انقطاعه

ص:31

أی اجتماع لم یعد

ومن کلام الحکیم فی الدنیا: «إنا قد أصبحنا فی دار رابحها خاسر، ونائلها قاصر، وعزیزها ذلیل، وصحیحها علیل، والداخل إلیها مخرج، والمطمئن فیها مزعج، والذائق من شرابها سکران، والواثق بسرابها ظمآن، ظاهرها غرور، وباطنها شرور، وطالبها مکدود، وتارکها محمود» .

2 - الردّ علی سؤال

حین نطالع ما أورده الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة حول «أهل القبور» فی أنّهم جیرة لا یتزاورون وقریبون لا یتقاربون وما إلی ذلک، یتبادر إلی الأذهان هذا السؤال وهو أنّه وردت عدّة روایات صرّحت بعضها بأنّ أهل القبور یجتمعون أحیاناً مع بعضهم ویطلع کل منهم علی أوضاع الآخر وأنّ لهم مجالسهم وحلقاتهم، ومن ذلک ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «کَأَنِّی بِهِم حِلَقٌ حِلَقٌ قُعُودٌ یَتَحَدَّثُونَ» (1).

فکیف الجمع بین هذه الروایات وما ورد فی عبارات الخطبة المذکورة؟

ولعل الآجابة علی هذا السؤال تتضح من خلال الالتفات إلی أنّ الروایات المذکورة إنّما وردت بشأن المؤمنین وأصحاب الأعمال الصالحة، وأمّا ما جاء فی هذه الخطبة، فإنّما ورد بشأن أصحاب الدنیا من أهل الأعمال السیئة، وعلیه فلیس هنالک من تعارض بین هذه الخطبة وما صرّحت به الروایات.

ص:32


1- 1) بحار الانوار 6/268. [1]

الخطبة المأة و إثنتا عشرة

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطْبِةٍ لَهُ علیه السلام

ذکر فیها ملک الموت وتوفیه النفس وعجز الخلق عن وصف اللّه

نظرة إلی الخطبة

تفید بعض القرائن أنّ هذه الخطبة جزء من خطبة مفصلة طویلة، وهی تهدف فی الواقع إلی بیان هذه الحقیقة التی تکمن فی عجز البشریة عن إدراک کنه الذات وصفات اللّه سبحانه وتعالی، وذلک لأنّ الإنسان إن عجز عن معرفة ملک الموت وصفاته وطبیعة أعماله، فکیف یتوقع أن یقف علی کنه الذات والصفات للخالق سبحانه کما هی علیه.

والذی یفهم من کتاب «تمام نهج البلاغة» أنّ هذه الخطبة هی جرء من الخطبة المعروفة بالأشباح والتی أوردها الإمام علی علیه السلام بشأن عجز الإنسان عن إدراک کنه الذات والصفات الإلهیّة، والحق إنّ عبارة هذه الخطبة تنسجم تماماً وعبارات خطبة الأشباح، فاذا ما وضعت الخطبتان مع بعضهما لتوصلنا إلی أنّ الخطبة التی بین أیدینا هی جزء من تلک الخطبة (2).

ص:33


1- 1) سند الخطبة: ورد فی مصادر نهج البلاغة أنّه نقلها «علی بن محمد اللیثی» صاحب کتاب «عیون الحکم والمواعظ» مع فارق قلیل، وقال ابن میثم البحرانی حین شرحه لهذه الخطبة أنّها جزء من خطبة طویلة أوردها الإمام علی علیه السلام بشأن توحید اللّه سبحانه وتعالی وتنزیهه. ویفید هذا الکلام أنّه نقل هذه الخطبة من مصدر آخر غیر نهج البلاغة (مصادر نهج البلاغة 2/244) .
2- 2) کتاب «تمام نهج البلاغة» ، ص65.

ص:34

«هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً؟ ، أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّی أَحَداً؟ بَلْ کَیْفَ یَتَوَفَّی الْجَنِیْنَ فِی بَطْنِ أُمِّهِ. أَیَلِجُ عَلَیْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا؟ أَمِ الرُّوحُ أَجابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا، أَمْ هُوَ سَاکِنٌ مَعَهُ فی أَحْشَائِهَا؟ کَیْفَ یَصِفُ إِلهَهُ مَنْ یَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ!» .

الشرح والتفسیر

أینما تکونوا یدرککم الموت

کما ورد سابقاً فانّ هذه الخطبة فی الواقع جزء من خطبة التی تصدت لبیان صفات اللّه تعالی وعجز البشریة عن إدراک کنهه وصفاته سبحانه، وقد استدل الإمام علیه السلام بمثال فی هذه الخطبة یشخص الحقیقة المذکورة ویبیّن عجز الإنسان عن الوقوف علی کنه ذات أغلب المخلوقات، وبناءاً علی ما سبق فکیف یمکن توقع وقوف هذا الإنسان علی کنه ذات وصفات الخالق المطلق بینما لا یسعه إدراک کنه مخلوق مثله؟

فقد قال علیه السلام: «هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً؟ ، أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّی أَحَداً؟» .

قطعاً أنّ روح الإنسان تفصل عن جسده من قبل ملک الموت، کما صرحت بذلک العدید من الآیات القرآنیة، والحال لیس لدینا أی علم بولوجه من أجل قبض الروح ولا خروجه، کما لا نراه حین یقبض الروح، رغم أنّه مخلوق من مخلوقات اللّه سبحانه، وما أکثر من مثله من الملائکة الذین یتعذر علینا رؤیتهم.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بالتطرق إلی مورد خاص بشأن قبض الروح والذی یتصف بالتعقید والغموض، وهو قبض روح الجنین فی بطن اُمّه، فقال علیه السلام: «بَلْ کَیْفَ یَتَوَفَّی الْجَنِیْنَ فِی بَطْنِ أُمِّهِ. أَیَلِجُ عَلَیْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا؟ أَمِ الرُّوحُ أَجابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا، أَمْ هُوَ سَاکِنٌ مَعَهُ فی أَحْشَائِهَا؟» .

ص:35

فمن البدیهی أنّه یشق علی کل عالم بانتقاء أی من الأجوبة الثلاث علی سؤال المذکور، فلیس هنالک دلیل یثبت أی منها، وعلیه فقضیة قبض الروح بواسطة ملک الموت بحدّ ذاتها قضیة شائکة غایة فی التعقید یعجز عن إدراکها الإنسان فضلاً عن قبض روح الجنین فی بطن اُمّه.

ثم یخلص الإمام علیه السلام من العبارات السابقة إلی هذه النتیجة: «کَیْفَ یَصِفُ إِلهَهُ مَنْ یَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ!» .

نعم، فهناک الألوف المؤلفة من المخلوقات والکائنات التی عجز الإنسان عن إدراکها حتی بعد تطور العلوم وتقدمها، فما حقیقة الروح؟ وما کیفیة إرتباطها بالجسد؟ کیف تنسلخ عن الجسد؟ وأین تتجه هذه الروح بعد انفصالها من البدن؟ ما حقیقة الحیاة؟ لم استطاع العلماء جمع کافة العناصر الموجودة فی الخلیة الحیة فی مختبراتهم بصورة صناعیة إلّاأنّهم عجزوا عن نفخ الروح فیها؟ !

ما حقیقة الزمان والمکان؟ ما کیفیة أمواج الجاذبیة التی تربط شرق العالم بغربه؟ ومئات الأسئلة من هذا القبیل.

فاذا عجزنا عن وصف هذه المخلوقات التی نشترک معها فی کثیر من الأمور، فکیف نتوقع إمکانیة وصفنا للّه الذی لا یشترک معنا فی أی أمر؟ ! بلی، لدینا علم إجمالی بوجوده وصفاته سبحانه، حیث نعلم أنّه موجود وله الصفة الفلانیة علی سبیل الإجمال، إلّاأنّ الکل یعرب عن عجزه وفشله من اقتحام میدان العلم التفصیلی، بما فیهم أنبیاء اللّه سبحانه وتعالی.

تأمّلات

1 - ملک الموت أم ملائکة الموت

هل ملک واحد أم جماعة؟ سؤال یتبادر إلی أذهان الکثیرین، فقد وردت بعض الآیات القرآنیة التی نسبت إلی اللّه تعالی قبض الأرواح: «اللّهُ یَتَوَفَّی الْأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِهَا. . .» (1).

ص:36


1- 1) سورة الزمر / 42. [1]

بینما نسبت البعض الآخر منها قبض الروح إلی الملائکة، کما نسبته إلی ملک الموت الذی عبّرت عنه أیضاً بالملائکة، فقد صرحت الآیة 11 من سورة السجدة قائلة: «قُلْ یَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ. . .» . وقالت الآیة 8، من سورة النحل: «الَّذِینَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِکَةُ» .

ویعلم أرباب التفسیر وأهل التحقیق قی القرآن أن لیس هنالک أی تعارض بین الآیات الثلاثة المذکورة، وذلک لأنّ السنة الإلهیّة جرت فی تفویض الملائکة تدبیر شؤون الخلق وأمور العالم، وعلیه فالفعل المذکور هو فعل اللّه سبحانه من جانب حیث منه یصدر الأمر، وهو فعل الملائکة من جانب آخر کونها تباشر ذلک العمل، علی سبیل المثال یقال الحاکم الفلانی جدد بناء المسجد الحرام فی التاریخ الفلانی، یعنی أنّه أصدر أوامره للمهندسین والمقاولین والبنائین بمباشرة ذلک البناء، هذا من جهة.

ومن جهة أخری: لملک الموت معنی الجنس، ونعلم أن الجنس یستعمل فی مفهوم العموم ومعنی الجمع أیضاً.

واستناداً لما مرّ معنا فانّ قبضة الأرواح هو طائفة من الملائکة یباشرنا ذلک العمل بأمر اللّه سبحانه وکبیر هذه الملائکة هو «عزرائیل» .

ویعتقد البعض بأنّ الملکین المأمورین بکتابة أعمال الإنسان هما اللذان یتولیان قبض روح الإنسان إذا انتهی أجله، ولعل العبارة الواردة فی الآیة الشریفة: «وکّل بکم» أشارت إلی هذا المعنی.

ولما کان الصلحاء والاتقیاء یتمیزون بجمیع خصائصهم عن الطلحاء والمتهتکین، فمن الممکن أن تختلف الملائکة التی تتولی قبض أرواحهم، ولقبض الروح الطاهرة لعظماء الناس کالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله، فانّ شخص ملک عزرائیل علیه السلام هو الذی یتولی هذه المهمّة (1).

2 - کیفیة قبض الأرواح

تبدو قضیة قبض الروح مبهمة وغامضة لدینا علی غرار الابهام الذی یکتنف ولوج

ص:37


1- 1) وردت إشارة لهذا المعنی فی روایة عن علی علیه السلام (بحار الانوار 6/142، ح6) .

الروح فی البدن، وکل الذی نعرفه بهذا الخصوص هو قطع الرابطة القائمة بین الروح والجسد حین قبض الروح، ولکن کیف یحصل ذلک وبأیة صیغة؟ فهذا ما یکتنفه الغموض والابهام.

ویبدو أنّ کل ما ورد فی الروایات الإسلامیة یکون من قبیل التلمیحات والتشبیهات، وإلّا فلیس لدینا سجناء عالم المادة من سبیل إلی مثل هذه الأمور المتعلّقة بعالم ما وراء الطبیعة.

فهل ملک الموت کائن فی موضع - کما ورد فی بعض الروایات - والدنیا لدیه کالدرهم فی کف الید یقلبه کیف یشاء بحیث یتوفی کل أحد إذا ما صدر أمر وفاته، فیقبض روحه، أم أنّ ملائکة الموت انتشروا فی کل مکان من العالم ویتجهون لقبض الأرواح إذا حان أجلها؟

لقد ذکرت ثلاثة احتمالات فی الخطبة بشأن الأطفال الذین تقبض أرواحهم وهم أجنة فی بطون أمهاتهم:

الأول: ورود ملک الموت فی أحشاء الاُم من بعض جوارحها.

والثانی: یدعو روح الجنین الیه وهو فی الخارج.

الثالث: کونه مع الجنین فی أحشاء الاُم منذ البدایة، ولذا عدم ترجیح الامام علیه السلام أحد هذه الاحتمالات الثلاثة إشارة الی حقیقة أنَّ صعوبة إدراکنا لجزئیات هذه الأمور بفعل وجودنا فی عالم المادة.

وقد رکز بعض شرّاح نهج البلاغة علی الاحتمال الثانی من بین الاحتمالات الثلاثة المذکورة، ولعل دلیلهم فی ذلک ما روی عن الإمام الصادق علیه السلام قال: «قیل لملک الموت علیه السلام: کیف تقبض الأرواح وبعضها فی المغرب وبعضها فی المشرق فی ساعة واحدة؟

فقال: أدعوها فتجیبنی، قال: ثم قال ملک الموت: إنّ الدنیا بین یدی کالقصعة بین یدی أحدکم یتناول منها ما شاء» (1).

ص:38


1- 1) من لا یحضره الفقیه 1/80، ح12.

الخطبة المأة ثلاثة عشرة

اشارة

(1)

مِنْ خُطْبِةٍ لَهُ علیه السلام

فی ذمّ الدنیا

نظرة إلی الخطبة

تحدّث الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة عن عدّة مسائل مهمّة مرتبطة مع بعضها البعض الآخر.

فقد حذر علیه السلام فی القسم الأول من الخطبة من الدنیا، ثم ذکر عیوبها ومصائبها، حیث شبّهها بالدار الآیلة للسقوط فلا ینبغی الاغترار بها، ثم واصل فی القسم الثانی کلامه بهذا الخصوص موصیاً بعدم نسیان الموت والزهد فی الدنیا من خلال عدم التعلّق بها.

وأخیراً إختتم الخطبة بالإشارة إلی تشتت المسلمین واختلافهم وإسناد ذلک إلی التهافت علی الدنیا، وإنّ صلاح المجتمع فی الحذر منها.

ص:39


1- 1) سند الخطبة: ذکر البعض هذه الخطبة کل من الزمخشری فی أوائل کتاب «ربیع الأبرار» والآمدی فی کتاب «غرر الحکم» باختلاف طفیف یفید أنّه نقلها من مصدر آخر غیر نهج البلاغة (مصادر نهج البلاغة 2/247) .

ص:40

القسم الأول: التحذیر من الدنیا

«وَأُحَذِّرُکُمُ الدُّنْیَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ. وَلَیْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ. قَدْ تَزَیَّنَتْ بِغُرُورِهَا، وَغَرَّتْ بِزِیْنَتِهَا. دَارٌ هَانَتْ عَلَی رَبِّهَا، فَخَلَطَ حَلاَلَهَا بِحَرَامِهَا، وَخَیْرَهَا بِشَرِّهَا، وَحَیَاتَهَا بِمَوْتِهَا، وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا. لَمْ یُصْفِهَا اللّهُ تَعَالَی لِأَوْلِیَائِهِ، وَلَمْ یَضِنَّ بِهَا عَلَی أَعْدَائِهِ. خَیْرُهَا زَهِیدٌ وَشَرُّهَا عَتِیدٌ. وَجَمْعُهَا یَنْفَدُ، وَمُلْکُهَا یُسْلَبُ، وَعَامِرُهَا یَخْرَبُ. فَمَا خَیْرُ دَارٍ تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءِ، وَعُمُرٍ یَفْنَی فِیهَا فَنَاءَ الزَّادِ، وَمُدَّةٍ تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّیْرِ! اِجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللّهُ عَلَیْکُمْ مِنْ طَلَبِکُمْ، وَاسْألُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ مَا سَأَلَکُمْ. وَأَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ آذَانَکُمْ قَبْلَ أَنْ یُدْعَی بِکُمْ» .

الشرح والتفسیر

إتّجه الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة نحو ذمّ الدنیا وأصحابها المتکالبین علیها، ثم حقّرها وعدّد عیوبها بما یوقظ کل عاقل وینبهه إلی أنّ الدنیا لا یمکنها أن تکون سبیل للنجاة وأداة للسعادة.

فقد استهل علیه السلام الخطبة بتحذیر مخاطبیه بما فیهم الناس آنذاک والیوم وسائر الأفراد فی کل العصور من الدنیا قائلاً: «وَأُحَذِّرُکُمُ الدُّنْیَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ. وَلَیْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ» .

«القلعة» بضم القاف وسکون اللام المشتقة من مادة «قلع» الموضع غیر المستوطن الذی یجب أن یرحل عنه الإنسان فی أی زمان.

و «النجعة» بضم النون عکس سابقتها فهی تعنی الموضع الذی عثر فیه الإنسان علی الخیر

ص:41

والبرکة، وقد عزم قطعاً علی الاستقرار فیه، وعلیه فمفهوم کلامه علیه السلام أنّ الدنیا منزل مؤقت عابر ولا قیمة لها لکی یتخذها الإنسان موضعاً للإقامة والاستقرار، ثم واصل علیه السلام الکلام بالإشارة إلی أدلّة المطلب السابق لیقول: «قَدْ تَزَیَّنَتْ بِغُرُورِهَا، وَغَرَّتْ بِزِیْنَتِهَا. دَارٌ (1)هَانَتْ عَلَی رَبِّهَا، فَخَلَطَ حَلاَلَهَا بِحَرَامِهَا، وَخَیْرَهَا بِشَرِّهَا، وَحَیَاتَهَا بِمَوْتِهَا، وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا» .

إذا أردت الحصول علی الرزق الحلال فانّ علیک أن تتحمل آلاف المصاعب والمعاناة وأن تتجاوز الطرق الوعرة والمطبات الشائکة، کما علیک أن تعد بدنک لوخز الأشواک کلما حاولت غرس الزهور، وإن إبتغیت العسل فما علیک إلّاأن تتوقع لدغ الزنابیر، فالواقع هناک أفعی کامنة فی کل کنز ومرارة فی کل حلاوة، وعلی سبیل المثال فمن لم یرزقه اللّه الولد عاش الهم والغم الذی یثقل کاهله ویکدّر روحه، ولکن ما إن یرزق الولد حتی یواجه سیل المشاکل التی تعقب ذلک، وهکذا سائر النعم التی یثیر فقدانها الغم ووجودها التعب والإرهاق.

ثم أکّد علیه السلام ذلک الکلام علی أنّه هو السبب الذی لم یجعل اللّه سبحانه یرضها ثواباً لأولیائه ولم یمنعها عن أعدائه: «لَمْ یُصْفِهَا (2)اللّهُ تَعَالَی لِأَوْلِیَائِهِ، وَلَمْ یَضِنَّ (3)بِهَا عَلَی أَعْدَائِهِ» .

نعم، لو کان متاع الدنیا ثمین لخصّ بها الحق سبحانه أولیاءه وزواها عن أعدائه، لکنّها لما کانت زهیدة لا قیمة لها، فهو یهبها لکل شخص.

ثم أضاف علیه السلام: «خَیْرُهَا زَهِیدٌ وَشَرُّهَا عَتِیدٌ (4). وَجَمْعُهَا یَنْفَدُ، وَمُلْکُهَا یُسْلَبُ، وَعَامِرُهَا یَخْرَبُ» .

والعجیب لیس هناک من تدریج فی هذه التغییرات وزوال النعم وانهیار الحکومات وخراب المعمور، بل أحیاناً یتغیر کل شیء خلال ساعة، بل فی برهة من الزمان والتاریخ ملییء بمثل هذه الحوادث المرعبة والتی تنطوی علی العبر والدروس.

فکیف والحال هذه یتعلق بالدنیا عاقل؟ ویثق بنعمها؟ ویفرح باقبالها ویحزن لإدبارها؟

ص:42


1- 1) وردت هذه العبارة فی سائر النسخ بهذه الصیغة «دار هانت علی ربّها» ، بینما یبدو أنّها وردت خطأ فی نسخة صبحی الصالح والتی أقتبست منها هذه النسخة بهذه الصیغة «دارها هانت» .
2- 2) «لم یصفها» : من مادة «الاصفاء» بمعنی الاختصاص إشارة إلی تفاهة نعم الدنیا بحیث منحها اللّه الجمیع.
3- 3) «لم یضن» : من مادة «الضن» بمعنی البخل.
4- 4) «عتید» : من مادة «عتاد» علی وزن جواب بمعنی حاضر وتأتی بمعنی الإدخار.

ثم واصل الإمام علیه السلام الکلام بهذا الخصوص من خلال طرحه علی شکل سؤال، لینطلق الجواب علیه من باطن قلب المخاطب فیکون له أثره البالغ والعمیق: «فَمَا خَیْرُ دَارٍ تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءِ، وَعُمُرٍ یَفْنَی فِیهَا فَنَاءَ الزَّادِ، وَمُدَّةٍ تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّیْرِ!» .

لقد استعمل الإمام علیه السلام قمّة الفصاحة والبلاغة فی هذه التشبیهات الثلاث، فقد شبّه بادیء الأمر الدنیا بدار خاویة بالیة قد انفطرت جدرانها وأشرفت سقوطها علی الانهیار، ثم شبّه عمر الإنسان بالأطعمة التی توضع علی المائدة وتأخذ بالتناقص مع مرور الزمان إثر تناولها، وأخیراً شبّه فترة بقاء الإنسان فی هذا العالم بالأسفار القصیرة التی لا یکاد المسافر یحث خطاه فیها حتی ینقطع أمدها.

ثم إختتم علیه السلام هذا القسم من الخطبة بثلاث وصایا خاطب بها الجمیع فقال: «اِجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللّهُ عَلَیْکُمْ مِنْ طَلَبِکُمْ، وَاسْألُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ مَا سَأَلَکُمْ، وَأَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ آذَانَکُمْ قَبْلَ أَنْ یُدْعَی بِکُمْ» .

فقد أوصی الناس فی العبارة الاُولی أن یهتم الناس علی الأقل بالفرائض الشرعیة بقدر طلباتهم الشخصیة فیجدوا ویجتهدوا فی هذا الأمر، لا أن یجعلوا الصدارة لحاجاتهم الدنیویة ویهمّشوا الفرائض الإلهیّة والواجبات الشرعیة.

کما یحتمل أن یکون المراد اجعلوا التوفیق للإتیان بالفرائض والواجبات الشرعیة من حاجاتکم وطلباتکم بین یدی اللّه تبارک وتعالی، غیر أنّ المعنی الأول یبدو هو الأنسب وذلک للإشارة إلی هذا المعنی والتی وردت فی العبارة الثانیة إذ قال: «وَاسْألُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ» ، وعلیه سیکون تفسیر الجملتین تکرار لمفهوم واحد.

وأخیراً أشارت العبارة الثالثة إلی التأهب والاستعداد لمواجهة الموت من خلال أداء حقوق الناس والتوبة من الذنوب وتدارک ما فرط، وبخلافه فانّ الموت سیباغت الإنسان ویقذف به فی عالم لم یعد العدّة لدخوله.

ص:43

ص:44

القسم الثانی: صفات الزهّاد فی الدنیا

«إِنَّ الزَّاهِدِینَ فِی الدُّنْیَا تَبْکِی قُلُوبُهُمْ وَإِنْ ضَحِکُوا، وَیَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَإِنْ فَرِحُوا، وَیَکْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنِ اغْتُبِطُوا بِمَا رُزِقُوا. قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِکُمْ ذِکْرُ الْآجَالِ، وَحَضَرَتْکُمْ کَوَاذِبُ الآمَالِ، فَصَارَتِ الدُّنْیَا أَمْلَکَ بِکُمْ مِنَ الآخِرَةِ، وَالعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِکُمْ مِنَ الآجِلَةِ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَی دِینِ اللّهِ مَا فَرَّقَ بَیْنَکُمْ إِلاَّ خُبْثُ السَّرَائِرِ، وَسُوءُ الضَّمَائِرِ. فَلاَ تَوَازَرُونَ وَلاَ تَنَاصَحُونَ، وَلاَ تَبَاذَلُونَ وَلاَ تَوَادُّونَ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی ثلاث نقاط تکمل المقطع المذکور من الخطبة وتؤکّده، وهی مقدمة للقسم القادم من الخطبة.

فقد إتّجه أولاً إلی وصف الزهّاد فی الدنیا لیتضح وضع کل فرد من خلال مقارنة أحوال المخاطبین مع أحوال اُولئک، فذکر ثلاث خصائص یتحلی بها الزهّاد قائلاً: «إِنَّ الزَّاهِدِینَ فِی الدُّنْیَا تَبْکِی قُلُوبُهُمْ وَإِنْ ضَحِکُوا» .

صفتهم الثانیة تکمن فی شدّة حزنهم رغم فرحهم وسرورهم: «وَیَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَإِنْ فَرِحُوا» .

وأمّا صفتهم الثالثة فهم ناقمون علی أنفسهم ساخطون علیها (وهم لیسوا راضین عن أعمالهم وطاعاتهم) رغم شکرهم اللّه سبحانه وتعالی علی موفور الرزق والنعمة: «وَیَکْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنِ اغْتُبِطُوا (1)بِمَا رُزِقُوا» .

ص:45


1- 1) قرأها أغلب شرّاح نهج البلاغة مبنیة للمجهول بینما قرأها البعض الآخر مبنیّة للمعلوم ففهموا من العبارة شبیه ما ذکر، والحال یتبیّن من الرجوع إلی المتون اللغویة أن للإغتباط معنی آخر هو السرور وحمد اللّه وشکره علی نعمة (انظر لسان العرب والقاموس وسائر المصادر اللغویة) .

نعم، فعیون قلوبهم باکیة لما یرون فی أنفسهم من نقائص وعیوب وما یبتدر منهم من زلّات أحیاناً، وإن عاشوا حالة من السرور والضحک علی مستوی الآداب الاجتماعیة والأخلاقیة، إنّهم یأسفون علی ماضیهم ویغتمون لما کانت فی أیدیهم من فرص لم یستثمروها، رغم ما هم علیه ظاهریاً من الفرح والسرور، إلی جانب ذلک فانّ لسانهم یلهج بحمد اللّه وشکره علی ما حباهم به من نعم مادیة ومعنویة من جهة، ومن جهة أخری فهم لا ینفکون عن مقتهم لأنفسهم وتوبیخها لشعورهم بالتقصیر فی عدم استثمارها بالشکل الصحیح.

وخاصة القول فهم فی مقام النقد لأنفسهم وإصلاح نقائصهم ومعایبهم المعنویة وهذا هوالسبب فی حرکتهم التکاملیة نحو اللّه سبحانه، فهم لا یقنعون بوضعهم السائد قط لیکون ذلک مدعاة لتخلفهم وإنحطاطهم.

ثم شرح فی النقطة الثانیة وضع مخاطبیه لیقارنوا أنفسهم بالزهّاد فیقفوا علی عیوبهم، وقد بیّن لهم ثلاث صفات: «قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِکُمْ ذِکْرُ الْآجَالِ، وَحَضَرَتْکُمْ کَوَاذِبُ الآمَالِ، فَصَارَتِ الدُّنْیَا أَمْلَکَ بِکُمْ مِنَ الآخِرَةِ، وَالعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِکُمْ مِنَ الآجِلَةِ» .

نعم، فالدنیا تستولی علی عقل الإنسان وفکره وینسی الآخرة إذا ما غاب عن قلبه ذکر الموت وإنهمک فی هذه الدنیا العابرة واحاطة القلب بالأمانی الخیالیة الکاذبة.

ثم إختتم علیه السلام هذا المقطع من الخطبة ببیان هذه النتیجة: «وَإِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَی دِینِ اللّهِ مَا فَرَّقَ بَیْنَکُمْ إِلاَّ خُبْثُ السَّرَائِرِ، وَسُوءُ الضَّمَائِرِ. فَلاَ تَوَازَرُونَ (1)وَلاَ تَنَاصَحُونَ، وَلاَ تَبَاذَلُونَ وَلاَ تَوَادُّونَ» .

فالعبارة تشیر إلی توفر سبل الوحدة بینکم من خلال الإخاء الإسلامی وقد تصدعت هذه السبل بفعل الاختلافات التی تستند إلی التعصب والحقد والحسد وحبّ الدنیا وضیق الاُفق، فأدّی ذلک بالتبع إلی ضعف الأمن الداخلی والعجز أمام العدو الخارجی وبالنتیجة قطعت عنکم البرکات الاجتماعیة کالتعاون والموازرة وإسداء الخدمات المتبادلة أواصر المحبّة والصداقة.

ص:46


1- 1) «لا توازرون» : من مادة «موازرة» بمعنی التعاون والمساعدة.

فهذه العبارة تشیر بوضوح إلی هذه الحقیقة، وهی أنّ حبّ الدنیا وخبث السریرة وسوء النیّة والأخلاق لا یفسد الآخرة فحسب، بل یحیل المجتمع البشری إلی بؤرة للتوتر والنزاع والاصطدام بحیث تنعدم فیه مظاهر التعاون والمساعدة.

ص:47

ص:48

القسم الثالث: العود علی ذمّ أصحاب الدنیا

«مَا بَالُکُمْ تَفْرَحُونَ بِالْیَسِیرِ مِنَ الدُّنْیَا تُدْرِکُونَهُ، وَلاَ یَحْزُنُکُمُ الْکَثِیرُ مِنَ الآخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ! وَیُقْلِقُکُمُ الْیَسِیرُ مِنَ الدُّنْیَا یَفُوتُکُمْ، حَتَّی یَتَبَیَّنَ ذلِکَ فِی وُجُوهِکُمْ، وَقِلَّةِ صَبْرِکُمْ عَمَّا زُوِیَ مِنْهَا عَنْکُمْ! کَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِکُمْ. وَکَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَیْکُمْ. وَمَا یَمْنَعُ أَحَدَکُمْ أَنْ یَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا یَخَافُ مِنْ عَیْبِهِ، إِلاَّ مَخَافَةُ أَنْ یَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ. قَدْ تَصَافَیْتُمْ عَلَی رَفْضِ الآجِلِ وَحُبِ ّ الْعَاجِلِ، وَصَارَ دِینُ أَحَدِکُمْ لُعْقَةً عَلَی لِسَانِهِ. صَنِیعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وَأَحْرَزَ رِضَا سَیِّدِهِ» .

الشرح والتفسیر

خاطب الإمام علیه السلام - فی القسم من الخطبة والذی یمثل آخرها - أصحاب الدنیا وهو یسعی لإیقاظهم من سباتهم وغفلتهم من خلال الذم واللوم القائم علی أساس الدلیل والبرهان فقال: «مَا بَالُکُمْ تَفْرَحُونَ بِالْیَسِیرِ مِنَ الدُّنْیَا تُدْرِکُونَهُ، وَلاَ یَحْزُنُکُمُ الْکَثِیرُ مِنَ الآخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ! وَیُقْلِقُکُمُ الْیَسِیرُ مِنَ الدُّنْیَا یَفُوتُکُمْ، حَتَّی یَتَبَیَّنَ ذلِکَ فِی وُجُوهِکُمْ، وَقِلَّةِ صَبْرِکُمْ عَمَّا زُوِیَ (1)مِنْهَا عَنْکُمْ! کَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِکُمْ. وَکَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَیْکُمْ» .

نعم، هذا حال أغلب أهل الدنیا الذین لا یحزنهم فوات الأمور المعنویة بینما تنقلب أحوالهم لأدنی ضرر مادی یحیق بهم، علی سبیل المثال لیس هناک ما یقلقهم إذا فاتتهم صلاة الفجر

ص:49


1- 1) «زوی» : من مادة «زیّ» علی وزن حیّ بمعنی الجمع والأخذ والإبعاد والمراد بها فی العبارة الفقدان والإبعاد حیث وردت بصیغة الفعل المجهول مقرونة بالفعل عن.

لعدّة أیّام متتالیات، أو لا یغتمون إن حرموا لسنوات من فیوضات التهجد وقیام اللیل، بینما یضجرهم خسران بضعة دارهم، فلا یتمالکون أنفسهم عن الزعیق بمن حولهم، ولعل هذا التفاوت الواضح والمخجل یستند إلی أحد أمرین: إمّا ضعف إیمانهم بالآخرة والوعد والوعید الإلهی، أو أنّهم مؤمنون بالآخرة والوعد والوعید غیر أنّ الهوی قد أحاط بقلوبهم واستولی علی أنفسهم وسیطرت علیهم الغفلة بحیث لم یعودوا یروا سوی الدنیا وحطامها ومتاعها الزائل.

ثم واصل علیه السلام کلامه بالحدیث عن نقطة ضعف أخری یمتاز بها طلّاب الدنیا والتی تتمثل بعدم قدرة أی أحد منهم علی التعرض لعیوب أخیه (بهدف الإصلاح والنهی عن المنکر) ما ذلک إلّاخشیة أنّ یجابهه بنفس ذلک العیب: «وَمَا یَمْنَعُ أَحَدَکُمْ أَنْ یَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا یَخَافُ مِنْ عَیْبِهِ، إِلاَّ مَخَافَةُ أَنْ یَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ» .

فالعبارة تشیر إلی حرمانهم من إصلاح بعضهم البعض الآخر رغم إتصافهم بکل تلک العیوب الناشئة من حبّ الدنیا، وذلک لأنّه لا یجرأ أحد منهم أن یتصدی للإصلاح فهو یخشی الردّ من الآخرین الذین ینبرون له ویقولون: إنّ هذا العمل أو ذاک شیئاً فلم نفعله؟ وإن کنت طبیباً فهلّاً عالجت نفسک قبل أن تهم بعلاج الآخرین (طبیب یداوی الناس وهو علیل) ؟ وهل یصح اطلاق الحجر ممن کان بیته من الزجاج؟ !

ثم إختتم الإمام علیه السلام خطبته بالقول کأنّکم قد اتفقتم علی نبذ الآخرة والذوبان فی الدنیا وقد أصبح الدین لقلقة لسان، وأنّکم لأشبه بمن قام بعمله وأحرز رضی سیده ومولاه: «قَدْ تَصَافَیْتُمْ عَلَی رَفْضِ الآجِلِ وَحُبِ ّ الْعَاجِلِ، وَصَارَ دِینُ أَحَدِکُمْ لُعْقَةً (1)عَلَی لِسَانِهِ. صَنِیعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وَأَحْرَزَ رِضَا سَیِّدِهِ» .

قد تحصل أحیاناً بعض الأفعال الشائنة بین الناس دون أن یکون هناک إتفاق مسبق علیها، إلّاأنّها علی درجة من التناغم والتنسیق والانسجام وکأنّهم حضروا عدّة جلسات مخططة ومبرمجة، وقد اتفقوا علی کل شیء، وما هذا إلّالتشابه الدوافع فی مثل هذه الاُمور،

ص:50


1- 1) «لعقة» : من مادة «لعق» علی وزن فرق بمعنی لحس الشیء وتطلق اللعقة علی القلیل من الطعام الذی یجعله الإنسان بأصبعه أو ملعقة صغیرة علی لسانه ویبتلعه بسرعة، وهی کنایة عن الشیء المختصر.

وأحد مصادیقها الواضحة یتمثل بعدم المبالاة بالقضایا المرتبطة بالآخرة والخلود إلی الدنیا المادیة.

یمکن أن یکون مثل هؤلاء الأفراد الطلّاب للدنیا من المتدینیین ظاهریاً، غیر أن تدینهم لا یتجاوز سلسلة من الشعارات والمزاعم والألفاظ وأحیاناً القلیل من العبادات، والمفردة «لعقة» تشیر إلی هذا المعنی، وقد یعیشون أحیاناً حالة من الرضی عن أنفسهم وکأنّهم عملوا بکل تکالیفهم الشرعیة ووظائفهم الإنسانیة وقد فازوا بمقام القرب الإلهی وبلوغ رضاه، والواقع هذا انحراف خطیر أشار الإمام علیه السلام إلیه فی آخر هذه الخطبة.

ص:51

ص:52

الخطبة المأة و أربة عشرة

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطْبِةٍ لَهُ علیه السلام

وفیها مواعظ للناس

نظرة إلی الخطبة

مزج الإمام علیه السلام القسم الأول من هذه الخطبة حمد اللّه والثناء علیه بعبارات تکشف معالم طریق معرفة اللّه تعالی وتعلّم الإنسان اسلوب الشهادة بالإخلاص، کما تبیّن أهمیّة الشهادة بالوحدانیة والنبوة وذلک بعبارات عمیقة المعنی، وفی القسم الثانی من الخطبة دعی الجمیع إلی التحلی بالورع والتقوی وتطرق إلی آثارها وبرکاتها التی تنعکس علی حیاة الإنسان.

أمّا القسم الثالث فقد جری فیه الحدیث عن تقلب أحوال الدنیا وسرعة زوال النعم وعدم بلوغ الأمانی وقصر الحیاة الدنیا، وأخیراً القسم الرابع الذی تضمن مختلف النصائح والمواعظ البالغة حیث دعی الجمیع إلی طاعة اللّه سبحانه وحذّرهم من نسیان الآخرة والانغماس فی مخالب الغفلة والغرور بالحیاة الدنیا، ولا یخفی علی أحد الترابط الوثیق بین الأقسام الأربعة

ص:53


1- 1) سند الخطبة: ورد قسم مهم من هذه الخطبة فی کتاب «تحف العقول» الذی یحتمل تألیفه قبل نهج البلاغة، وقد نقل الزمخشری مقطعها الأول فی أوائل کتابه «ربیع الابرار» والقسم الآخر فی أوائل المجلد الثانی من ذلک الکتاب، ویتضح من الفرق بین نقله ونقل السید الرضی قدس سره أنّه إقتبسها من مصدر آخر غیر نهج البلاغة، کما نقلها مع اختلاف طفیف القاضی القضاعی (وهو من علماء القرن الخامس ومن مقربی أحد خلفاء الدولة الفاطمیة فی مصر) فی کتابه «دستور معالم الحکم» والمرحوم الشیخ الطوسی فی الآمالی (مصادر نهج البلاغة 2/252) .

وتبلورها فی عرض سلسلة من المواعظ المتسقة.

أمّا فصاحة وبلاغة هذه الخطبة ولطافة وعذوبة عباراتها لیتبیّن ممّا صرّح به صاحب کتاب «الطراز» الإمام یحیی الزیدی (من علماء القرن الثامن) فی ختام هذه الخطبة إقال: «لَو کَانَ کَلامٌ مِنْ کَلامِ البَشَرِ مُعْجِزَةً لَکَانَ هذا هُوَ الأَولُ وَلَو أَعْجَزَ شَیءٌ مِنَ الکَلامِ بَعْدَ کَلامِ اللّهِ لَکَانَ هذا هُوَ الثّانِی» (1).

ص:54


1- 1) مصادر نهج البلاغة 2/252. [1]

القسم الأول: الثقة القیّمة

اشارة

«اَلْحَمْدُ لِلّهِ الوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ وَالنِّعَمَ بِالشُّکْرِ. نَحْمَدُهُ عَلَی آلاَئِهِ، کَمَا نَحْمَدُهُ عَلَی بَلائِهِ. وَنَسْتَعِینُهُ عَلَی هذِهِ النُّفوسِ الْبِطَاءِ عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ، السِّرَاعِ إِلَی مَا نُهِیَتْ عَنْهُ. وَنَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، وَأَحْصَاهُ کِتَابُهُ: عِلْمٌ غَیْرُ قَاصِرٍ، وَکِتَابٌ غَیْرُ مُغَادِرٍ، وَنُؤْمِنُ بِهِ إِیمانَ مَنْ عَایَنَ الْغُیُوبَ وَوَقَفَ عَلَی الْمَوْعُودِ، إِیمَاناً نَفَی إِخْلاصُهُ الشِّرْکَ، وَیَقِینُهُ الشَّکَّ. وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِیکَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، شَهَادَتَیْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ وَتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ. لاَ یَخِفُّ مِیزَانٌ تُوضَعَانِ فِیهِ، وَلاَ یَثْقُلُ مِیزَانٌ تُرْفَعَانِ عَنْهُ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی القسم الأول من هذه الخطبة إلی مسائل مهمّة فی جانب حمد اللّه والثناء علیه والاستعانة بذاته المقدّسة والاستغفار من الذنوب والمعاصی، فقال بادیء ذی بدء: «اَلْحَمْدُ لِلّهِ الوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ وَالنِّعَمَ بِالشُّکْرِ» .

قرن الحمد بالنعمة یستند إلی أنّ حمد اللّه تعالی بنعمه وشکره یجعل الإنسان جدیراً بالنعم، فهذا الحمد یجعل العباد یتمتعون بنعمه وأفضاله، کما تعود علاقة النعمة بالشکر إلی أنّ النعمة سبب الشکر، وذلک لأنّ العباد مکلّفون بشکر کل نعمة، فالشکر واجب علی کل نعمة (الواقع هو أنّ الحمد یشکل السبب التکوینی للنعم والنعم السبب التشریعی للشکر) ، والشاهد علی ذلک ما ورد فی الخطبة 157 إذ قال: «الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِکْرِهِ، وَسَبَباً لِلْمَزِیدِ مِنْ فَضْلِهِ» .

ص:55

طبعاً یمکن أن تکون هناک عدّة تفاسیر أخری للعبارتین المذکورتین من حیث تفاوت العلّة والمعلول، غیر أنّ ما ورد هو أنسبها جمیعاً.

ثم قال علیه السلام فی المسألة الثانیة: «نَحْمَدُهُ عَلَی آلاَئِهِ، کَمَا نَحْمَدُهُ عَلَی بَلائِهِ» . فی إشارة إلی أنّ البلاء الإلهی هو فی الواقع نوع من النعم، کما بیّنا ذلک فی بحثنا لفلسفة الآفات والبلاء ضمن مباحث التوحید والعدل، فقد یکون البلاء سبباً للیقظة والعودة إلی اللّه تعالی وترک المعاصی أحیاناً، وقد یکون أحیاناً أخری بلاءاً ظاهراً، لکنّه نعمة باطنیاً، غیر أننا لا نمیز ذلک، فربّما یکون البلاء کفّارة للذنوب کما قد یکون وسیلة لمعرفة قدر النعم وذلک لأنّ الإنسان قد لا یعرف قیمة النعم إلّاأن یفقدها ویتعرض إلی بعض الشدائد، وإلّا فالحکیم تبارک وتعالی لا یعرّض شخصاً للبلاء عبثاً، وعلیه فبلاؤه رحمة وداؤه دواء.

ثم قال فی المسألة الثالثة: «وَنَسْتَعِینُهُ عَلَی هذِهِ النُّفوسِ الْبِطَاءِ (1)عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ، السِّرَاعِ إِلَی مَا نُهِیَتْ عَنْهُ» .

إشارة إلی النفوس البشریة ما لم تبلغ المرحلة المتکاملة للنفس المطمئنة فهی ضعیفة فی الإتیان بالوظائف الشرعیة وإمتثال الأوامر الإلهیّة ومسارعة فی مقارفة الذنوب التی تنسجم والغرائز الحیوانیة، ویتعذر تجاوز مرحلة النفس الأمارة وبلوغ مرحلة النفس اللوامة والوصول إلی النفس المطمئنة ما لم تکن هناک نصرة اللّه ومدده.

ثم قال علیه السلام: «وَنَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، وَأَحْصَاهُ کِتَابُهُ: عِلْمٌ غَیْرُ قَاصِرٍ، وَکِتَابٌ غَیْرُ مُغَادِرٍ» .

فالعبارة تشیر إلی أننا إن لم نستغفر من الذنوب ولم نجل صدأ القلوب فسوف لن یسعنا التخلص من وساوس النفس والفوز بمقام القرب وبلوغ تلک المرحلة من الإیمان التی سیأتی الحدیث عنها لاحقاً، والواقع هو أنّ الاستغفار تکمیل للبحث السابق ومقدمة للبحث القادم.

أمّا القضیة الأخیرة فقد تناولت النتائج النهائیة لهذا البحث فقال: «وَنُؤْمِنُ بِهِ إِیمانَ مَنْ عَایَنَ الْغُیُوبَ وَوَقَفَ عَلَی الْمَوْعُودِ، إِیمَاناً نَفَی إِخْلاصُهُ الشِّرْکَ، وَیَقِینُهُ الشَّکَّ» .

ص:56


1- 1) «بطاء» : جمع «بطیئة» ضد السریعة.

إشارة إلی خلاص الإنسان من وساوس النفس إذا ما مزج حمد اللّه تعالی والثناء علیه بشکر النعم، وخرج سالماً معافی من میدان الامتحان وتغلّب علی هواه ونزع عن ذنوبه وتاب من معاصیه آنذاک له أن یبلغ کمال الإیمان، الإیمان الذی یبلغ به درجة الشهود، وکأنّه یری اللّه ببصیرته ویشاهد باُم عینیه الجنّه والنار وثواب المحسنین وعقاب المسیئین، الإیمان المنزّه عن کافة أشکال الشرک والیقین الذی لا یتطرق إلیه الشک.

نعم، فالیقین علی مراتب: المرتبة الاُولی وهی مرحلة التی یتّجه إلیها الإنسان بواسطة البرهان والاستدلال والتی یصطلح علیها باسم «علم الیقین» ، والمرتبة الثانیة وهی المرحلة التی یصلها الإنسان عن طریق الشهود وکأنّه یری من بعید الأنوار الإلهیّة وعرصة الحشر یوم الحساب، وهی المرحلة المسمّاة «عین الیقین» یلمس جمیع الأشیاء، فالأنوار الإلهیّة تحیطه من کل جانب ونسیم الجنّة المنعش یداعب ظلال روحه ویتکدر لنیران جهنّم المحرقة، وهی المرحلة التی تدعی «حق الیقین» ، وعلی هذا فالمراد بالعبارة عاین ووقف هو تلک المرحلة النهائیة للإیمان والیقین والتی تبلغ فیها الإنسان مقام الشهود عن قرب وبالمعاینة.

وأخیراً یتّجه الإمام علیه السلام صوب الشهادة بالتوحید والنبوة لیختتم به هذا المقطع من الخطبة، فقال: «وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِیکَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، شَهَادَتَیْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ وَتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ. لاَ یَخِفُّ مِیزَانٌ تُوضَعَانِ فِیهِ، وَلاَ یَثْقُلُ مِیزَانٌ تُرْفَعَانِ عَنْهُ» .

فی إشارة إلی أنّ الشهادة بالوحدانیة والنبوة إن انطلقت من أعماق النفس البشریة وظهرت أثارها علی القول والعمل، فانّها علی درجة من الطهر الاخلاص بحیث تشکل أثقل الأوزان فی میزان الأعمال یوم القیامة حتی لا یخف ذلک المیزان بوجودها، والعکس صحیح لا ثقل لذلک المیزان مهما وضع فیه دونها.

ورد فی الحدیث عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «أوحی اللّهُ تَبارَکَ وَتَعالی إِلی مُوسی بنِ عِمرانَ علیه السلام: یا موسی لَو أنّ السَّمواتِ وَعَامِریهِنَّ عِندِی، والأَرضِینَ السَّبعَ فِی کَفَّةِ وَلا إِلَهَ إلّااللّهُ فُی کَفَّةٍ، مالَتْ بِهِنَّ لاإِلَهَ إلّااللّهُ» (1).

ص:57


1- 1) ثواب الأعمال، ( [1]حیث نقل شرح نهج البلاغة، للعلّامة الخوئی 8/57) وهذا هو الحدیث الأول الذی ورد فی کتاب ثواب الأعمال. [2]

وبالطبع لیس المراد بالزنة هنا الأوزان وما یرتبط بها عن میزان، بل المراد زنة القیم علی ضوء المعاییر العقلیة والمعنویة.

تأمّل

اُسس الموفقیة والنجاة

بیّن الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة والذی یشکل فی الواقع مقدمة للقسم الثانی الذی یتحدث عن أهمیّة التقوی وآثارها، حقیقة جذور الورع والتقوی والتی یکمن أهمّها فی الإیمان والیقین والمعرفة، والإیمان القوی والراسخ الذی یبلغ بصاحبه درجة تجعله کأنّه یری اللّه ویشاهد نعم الجنّة ونیران جهنّم، وممّا لا شک أنّ مثل هذا الإیمان هو مادة التقوی.

أضف إلی ذلک فقد أشار إلی الموانع الأصلیة لهذا الأمر والتی تتمثل بالنفس الطائشة علی أنّ الاستعانة باللطف الإلهی، هو سبیل النجاة منها وقد تطرق إلی ما ورد فی سورة یوسف وشأنه مع زلیخا: «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّی إِنَّ رَبِّی غَفُورٌ رَحِیمٌ» (1).

حیث استعان بعدّة وسائل من أجل بلوغ هذا الهدف ومن ذلک حمد اللّه والثناء علیه وشکره علی النعم والبلاء والحدیث عن التوبة والاستغفار بصفته أحد العوامل المؤثرة فی التوفیق فی هذا المسیر، وما أن یتمّ الانتهاء من هذا البرنامج الإلهی حتی یشرع بحث التقوی علی أنّه من الأبحاث المداعبة للقلب والتی تختزن تعتبر غایة فی التأثیر ولو استفاد المرّبون وأساتذة درس الأخلاق من هذا الطریق الذی علمناه الإمام علیه السلام لتحقیق هذا الهدف لما کان هناک من شک فی تأثیر حدیثهم ونفوذ کلامهم.

ص:58


1- 1) سورة یوسف / 53. [1]

القسم الثانی: أعظم الفضائل

«أُوصِیکُمْ عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَی اللّهِ الَّتی هِیَ الزَّادُ وَبِهَا الْمَعَاذُ: زَادٌ مُبْلِغٌ، وَمَعَاذٌ مُنْجِحٌ. دَعَا إِلَیْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ، وَوَعَاهَا خَیْرُ وَاعٍ. فَأَسْمَعَ دَاعِیهَا وَفَازَ وَاعِیهَا.

عِبَادَ اللّهِ، إِنَّ تَقْوَی اللّهِ حَمَتْ أَوْلِیَاءَ اللّهِ مَحَارِمَهُ. وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ، حَتَّی أَسْهَرَتْ لَیَالِیَهُمْ، وَأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ. فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ، وَالرِّیَّ بِالظَّمَإِ. وَاسْتَقْرَبُوا الْأَجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ، وَکَذَّبُوا الْأَمَلَ فَلاحَظُوا الْأَجَلَ» .

الشرح والتفسیر

بعد أن فرغ الإمام علیه السلام عن تلک المقدمة الرصینة والوثیقة فی المقطع الأول من هذه الخطبة، إتجه إلی أهمّ فضیلة من الفضائل التی یکتسبها الإنسان وهی التقوی، فقد أشار فی البدایة إلی آثارها الاُخرویة، فقال: «أُوصِیکُمْ عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَی اللّهِ الَّتی هِیَ الزَّادُ وَبِهَا الْمَعَاذُ: زَادٌ مُبْلِغٌ، وَمَعَاذٌ مُنْجِحٌ» .

من البدیهی أنّ یحتاج الإنسان فی أسفاره الطویلة الملیئة بالأخطار والمخاوف إلی شیئین: الزاد والمتاع اللازم والمنازل والأماکن التی تحفظه من المخاطر، وهو ما صرّح به القرآن الکریم بقوله: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوَی. . .» (1).

ص:59


1- 1) سورة البقرة / 179.

وما اقتصه من خبر یوسف علیه السلام حین لاذ بالتقوی کسبیل للنجاة حین وقف علی حافة خطر هاویة الذنب: «قَالَ مَعَاذَ اللّهِ. . .» (1).

حقاً إنّ التقوی کهف حصین وأمین وراسخ إزاء السیول الجارفة لأهواء النفس ووساوس الشیطان وحصن حصین للنجاة من نار جهنّم یوم القیامة وأفضل زاد ومتاع فی هذا السفر الملیء بالخوف والخطر.

ثم واصل علیه السلام کلامه بالحدیث عن أهمیّة التقوی فی أنّ من دعا إلیها أسمع داع نافذ الکلمة (إشارة اللّه تبارک وتعالی، أو النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، أو جمیع الأنبیاء والأولیاء) وقد وعی تلک الدعوة خیر واع (إشارة إلی کافة التقاة وأتباع مدارس الأنبیاء) : «دَعَا إِلَیْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ، وَوَعَاهَا خَیْرُ وَاعٍ. فَأَسْمَعَ دَاعِیهَا وَفَازَ وَاعِیهَا» .

ذهب البعض إلی أنّ المراد بالداع إلی التقوی قد یکون اللّه سبحانه وتعالی أو شخص النبی صلی الله علیه و آله الذی ینطق عن اللّه تعالی، والمقصود بواع التقوی هو علی علیه السلام، ولا یبعد أن یکون لهما مفهوم عام یشمل جمیع دعاة الحق ووعاته، علی أنّ المنبع الأصلی هو الحق تبارک وتعالی والنبی صلی الله علیه و آله وإمام المتقین علی بن أبی طالب علیه السلام.

ثم خاض علیه السلام فی الآثار القیّمة للتقوی فی خاصة عباد اللّه فقال: «عِبَادَ اللّهِ، إِنَّ تَقْوَی اللّهِ حَمَتْ (2)أَوْلِیَاءَ اللّهِ مَحَارِمَهُ. وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ، حَتَّی أَسْهَرَتْ لَیَالِیَهُمْ، وَأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ (3)» .

طبعاً العبارتان المذکورتان بشأن اللیل والنهار هما تعبیران کنائیان لطیفان، حیث المراد أصحاب اللیل الذین یفیقون فی جوف اللیل، فیقومون للعبادة والتهجد وقد أحجموا عن النوم وانهمکوا بالدعاء والمناجاة، إلی جانب صومهم نهارهم وذکرهم اللّه علی کل حال، فالعبارة تشیر إلی أنّ تقوی اللّه هی مادة الحرکة نحو جمیع الفضائل والخیرات، وذلک لأنّ الإنسان حین یشعر بالمسؤولیة ینطلق فی الحرکة نحو إمتثال الطاعات واجتناب المعاصی

ص:60


1- 1) سورة یوسف / 23. [1]
2- 2) «حمت» : من مادة «حمایة» بمعنی المنع، ولذلک یقال الحامی للذی یمنع عن الآخرین الخصوم والأعداء.
3- 3) «هواجر» : جمع «هاجرة» وسط النهار فی الجو الحار.

والمحرمات، وما إحیاء اللیل والصوم إلّاجانب من آثار خشیة اللّه تعالی التی تسمی بالتقوی.

ثم إختتم هذا المقطع من الخطبة بوصف طریقة عبودیتهم لربّهم بأنّهم آثروا المشقة والتعب علی الراحة والکسل والعطش علی الریّ، وقد شعروا بقصر الدنیا ودنو الأجل وهذا ما دعاهم إلی المسارعة فی الخیرات ومبادرة الأعمال الصالحة، وعدم الخلود إلی الأمل بعد أن جعلوا الموت نصب أعینهم: «فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ (1)، وَالرِّیَّ (2)بِالظَّمَإِ. وَاسْتَقْرَبُوا الْأَجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ، وَکَذَّبُوا الْأَمَلَ فَلاحَظُوا الْأَجَلَ» .

نعم، ففی الوقت الذی ینغمس فیه أهل الدعة والراحة فی مختلف الذنوب والأرجاس تری هؤلاء یغضون الطرف عن الراحة بهدف مجانبة الذنوب والإتیان بالصالحات، وهم لیسوا کأهل الدنیا الذین خدعوا بها فوقعوا فی حبائلها وآمالها الکاذبة.

والواقع هو أنّ العبارة «فبادروا» و «فلاحظوا» هی نتیجة ومعلول للعبارة «واستقربوا» و «کذبوا» یعنی من یری قرب الأجل وسرعة العمر یبادر بالعمل، ومن یکذب الآمال یفکر بالموت ویراه أمام عینیه، والطبع فانّ تحمل مصاعب وشدائد هذا العالم یؤدّی إلی سکینتهم الخالدة واستقرارهم التام، وهو ما عبّر عنه الإمام علیه السلام فی موضع آخر بقوله: «صَبَرُوا أَیَّاماً قَصِیرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِیلَةً» (3).

ص:61


1- 1) أعظم الفضائل «نصب» : بمعنی العناء والتعب.
2- 2) «الریّ» : بمعنی الارتواء من الماء.
3- 3) نهج البلاغة، الخطبة 193 ( [1]همّام) .

ص:62

القسم الثالث: العبر والاعتبار

«ثُمَّ إِنَّ الدُّنْیَا دَارُ فَنَاءٍ وَعَنَاءٍ، وَغِیَرٍ وَعِبَرٍ؛ فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ، لاَ تُخْطِیءُ سِهَامُهُ، وَلاَ تُؤْسَی جِرَاحُهُ. یَرْمِی الْحَیَّ بِالْمَوْتِ وَالصَّحِیحَ بِالسَّقْمِ، وَالنَّاجِیَ بِالْعَطَبِ. آکِلٌ لاَ یَشْبَعُ، وَشَارِبٌ لاَ یَنْقَعُ. وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ یَجْمَعُ مَا لاَ یَأْکُلُ وَیَبْنِی مَالا یَسْکُنُ. ثُمَّ یَخْرُجُ إِلَی اللّهِ تَعَالَی لاَ مَالاً حَمَلَ، وَلاَ بِنَاءً نَقَلَ. وَمِنْ غِیَرِهَا أَنَّکَ تَرَی الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً، وَالْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً؛ لَیْسَ ذلِکَ إِلاَّ نَعِیماً زَلَّ، وَبُؤْساً نَزَلَ. وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْمَرْءَ یُشْرِفُ عَلَی أَمَلِهِ فَیَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ. فَلاَ أَمَلٌ یُدْرَکُ وَلاَ مُؤَمَّلٌ یُتْرَکُ، فَسُبْحَانَ اللّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا وَأَظْمَأَ رِیَّها وَأَضْحَی فَیْئَهَا، لاَ جَاءٍ یُرَدُّ، وَلاَ مَاضٍ یَرْتَدُّ. فَسُبْحَانَ اللّهِ، مَا أَقْرَبَ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ، وَأَبْعَدَ الْمَیِّتَ مِنَ الْحَیِ ّ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُ!» .

الشرح والتفسیر

لما کان الانغماس فی الدنیا والتکالب علیها وفقدان النفس لتوازنها إزاء زخارف عالم المادة من أهم العوامل لعدم التقوی، فقد ورد الحدیث هنا عن تفاهة الدنیا وتقلب أحوالها وما تنطوی علیه من شدائد ونوازل بهدف اجتثاث جذور التحلل وعدم استشعار الورع والتقوی فقال علیه السلام: «ثُمَّ إِنَّ الدُّنْیَا دَارُ فَنَاءٍ وَعَنَاءٍ، وَغِیَرٍ وَعِبَرٍ» .

حیث تشیر العبارة إلی أربع خصائص تمتاز بها الدنیا والتی یقود التفکیر بها الإنسان إلی التعرف علی الصورة الحقیقیة للدنیا، ثم خاضت العبارات التالیة فی شرحها الواحدة بعد

ص:63

الاُخری مع التطرق إلی بعض التفاصیل الدقیقة لکل واحدة منها، فأشارت فی البدایة إلی خاصیة فناء الدنیا، حیث صورت بعض علامات هذا الفناء فی أنّ الدهر یشبه الرامی الماهر الذی یطلق سهامه دون أن تطیش وتخطیء الهدف، کما یتعذر علاج جروح من أصابته تلک السهام: «فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ، لاَ تُخْطِیءُ سِهَامُهُ، وَلاَ تُؤْسَی (1)جِرَاحُهُ» .

فلا خلاص لأحد من الموت والعجز والمشیب والمرض والألم والعناء، ولذلک قال الإمام علیه السلام فی شرحه لهذه العبارة: «یَرْمِی الْحَیَّ بِالْمَوْتِ وَالصَّحِیحَ بِالسَّقْمِ، وَالنَّاجِیَ بِالْعَطَبِ» . فأقوی أفراد البشر یستسلم یوماً للموت، کما یمرض أصح الأصحاء ویهزم حتی الأبطال.

نعم، هذه طبیعة الحیاة الدنیا، وهذا هو القانون الذی لا یعرف لاستثناء، والغریب فی الأمر أنّ الجمیع یعرف ذلک ویرونه بأعینهم ورغم کل ذلک فهم یتعلّقون بالدنیا ویخلدون إلیها ویغترّون بها.

ثم یختتم علیه السلام کلامه بشأن توضیح فناء الدنیا قائلاً: «آکِلٌ لاَ یَشْبَعُ، وَشَارِبٌ لاَ یَنْقَعُ (2)» .

فقد کشف الإمام علیه السلام حقیقة فناء الدنیا من خلال العبارات الثمان التی أوردها فی وصف الدنیا، بحیث لا یشک من کان له أدنی عقل بفناء الدنیا وعدم دوامها.

ثم خاض علیه السلام فی شرح وتفسیر عناء الدنیا ومن ذلک جمعه الأموال التی لا یستفیدها جمیعاً والمبانی التی یشیّدها دون أن یسکنها وأخیراً یودع کل ذلک وینتقل إلی عالم آخر دون أن یحمل معه شیئاً من الأموال أو الدور: «وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ یَجْمَعُ مَا لاَ یَأْکُلُ وَیَبْنِی مَالا یَسْکُنُ. ثُمَّ یَخْرُجُ إِلَی اللّهِ تَعَالَی لاَ مَالاً حَمَلَ، وَلاَ بِنَاءً نَقَلَ» .

نعم، کثیرون هم الأفراد الذین یدّخرون أمولاً طائلة، إلّاأنّهم لا یستفیدون إلّامن جزء یسیر منها وما أکثر اُولئک الذین یبنون لأنفسهم أعظم القصور والدور فلا یقیمون فیها إلّا مدّة قلیلة، بل قد لا یسکنونها حتی لیوم واحد، وقد رأینا بأم أعیننا إقامة مراسم العزاء علی أرواحهم فی تلک القصور الفخمة، فهم یترکونها فی خاتمة المطاف ولا یحملون من مال الدنیا

ص:64


1- 1) «توسی» : من مادة «اَسو» بمعنی علاج الجرح.
2- 2) «ینقع» : من مادة «نقع» علی وزن نفع بمعنی إرواء وارتواء.

سوی الکفن، بل ربّما لم یحملوا حتی ذلک الکفن، فتکون ثیابهم أکفانهم وبیوتهم قبورهم.

ورد فی البحار عن العلّامة المجلسی أنّ علی علیه السلام قال: «کَمْ مِنْ غافِلٍ یَنْسَجُ ثَوباً لِیَلْبَسَهُ وَإِنَّما هُوَ کَفَنُهُ وَیَبْنِی بَیتَاً لیَسکُنَهُ وَإنَّما هُوَ مَوضِعُ قَبرِةِ» (1).

ثم خاض الإمام علیه السلام فی شرح الصفة الثالثة للدنیا فقال: «وَمِنْ غِیَرِهَا أَنَّکَ تَرَی الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً، وَالْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً؛ لَیْسَ ذلِکَ إِلاَّ نَعِیماً زَلَّ (2)، وَبُؤْساً نَزَلَ» .

حیث رأینا کراراً لیس فی صفحات التاریخ فحسب، بل فی حیاتنا الیومیة عدّة أفراد کانوا من أهل السطوة وقمة القدرة حتی یتمنی الجمیع الحصول علی شیء من قدرتهم، لکنّهم هووا فی مستنقع السقوط بما جعل الکل یترحم علیهم، وبالعکس فإننا نعرف بعض الأفراد ممن یشعر من یراهم بالأسی والحزن لصعوبة أوضاعهم ومعاناتهم، بینما تسلقوا فجأة سلّم القدرة لیحظوا باعجاب الجمیع وغبطتهم.

نعم، لم یکن «قارون» لوحده الذی استعرض یوماً کل تلک القدرة و الثروة التی خطفت أبصار قصار النظر من بنی اسرائیل الذین اعتراهم الحسد والأمل، فتمنوا الحصول علی تلک الثروة بدله، ولم تمض مدّة حتی شقت الأرض لتبتلع کل کنوزه وثرواته، ممّا دفع من تمنی تلک الثروة إلی شکر اللّه أن لم یجعلهم بدلاً منه ولم یغدق علیهم الثروة والسطوة، أجل لقد تکررت هذه الصورة مراراً فی التاریخ ثم قال علیه السلام فی الصفة الرابعة للدنیا والتی تختص بکونها عبرة: «وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْمَرْءَ یُشْرِفُ عَلَی أَمَلِهِ فَیَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ. فَلاَ أَمَلٌ یُدْرَکُ وَلاَ مُؤَمَّلٌ یُتْرَکُ» .

فأحیاناً یعدّ الإنسان عدّة مقدمات بغیة الحصول علی المال والثروة أو الجاه والمنزلة ولا یکاد یقترب من الوصول إلی أهدافه حتی یتخطفه الموت فیقضی علی جمیع طموحاته ورغباته ویحول دون تحقیقها، بل لا یدوم له حتی المال الذی یجنیه والمنصب الذی یشغله.

ثم یعرب الإمام علیه السلام فی آخر کلامه عن وحشته لمن یغترّ بمثل هذه الدنیا الملیئة بالفناء والعناء والموصوفة بالغیر والعبر: «فَسُبْحَانَ اللّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا وَأَظْمَأَ رِیَّها (3)وَأَضْحَی

ص:65


1- 1) بحار الانوار 6/132. [1]
2- 2) «زلّ» : من مادة «زل» علی وزن حل بمعنی الانزلاق والسقوط.
3- 3) «ریّ» : بمعنی الارتواء.

فَیْئَهَا، لاَ جَاءٍ یُرَدُّ، وَلاَ مَاضٍ یَرْتَدُّ» .

نعم، عابرة جدّاً لحظات الفرح والسرور وهی أشبه بلحظات الإرتواء من النعم وزوال الفییء والظل.

یمکن أن تکون العبارة «لا جاء یرد ولا ماض یرتد» إشارة إلی الناس حیث تأتی طائفة لا یقدر أحد علی صدها، کما تنتقل طائفة من هذا العالم ولیس لأحد من قدرة علی إعادتها، کما یمکن أن تکون إشارة إلی حوادث الدهر شرّها وخیرها والتی لا یسع أحد الحیلولة دون وقوعها إن أبرمت وأصبحت قطعیة حتمیة، کما لا یمکن عودة ما تولی من أمور ودهور، فلا عودة للطفولة فی الشباب ولا الشباب فی المشیب.

ثمّ إختتم علیه السلام هذا المقطع من الخطبة بهذه العبارة التی تکمل سابقتها من العبارات قائلاً: «فَسُبْحَانَ اللّهِ، مَا أَقْرَبَ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ، وَأَبْعَدَ الْمَیِّتَ مِنَ الْحَیِ ّ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُ!» .

نعم، فالفاصلة بین الموت والحیاة قصیرة جدّاً حتی صورتها الروایات بأنّها تکاد تکون کطرفة العین، ومن ما ورد فی الحدیث عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «وَالّذِی نَفسُ مُحِمِّدٍ بِیَدِهِ مَا طَرَفْتْ عَینَای إلّاظَنَنتُ أَنَّ سَفَرِی لا یَلْتَقِیانِ حَتّی یَقْبِضَ اللّهُ رُوحِی وَلا رَفَعْتُ طَرفِی وظَنَنْتُ أَنِّی حافِضُهُ حَتّی اُقبَضَ وَلا تَلَقَّنُ لُقْمَةً إلّاظَنَنْتُ أَنِّی لا اُسِیغُها حَتّی اُعَضَّ بِها مِنَ المَوتِ» (1).

إنّ من له أدنی إلمام ببنیة جسم الإنسان لیعلم بمدی قرب هذه الفاصلة، فیکفی تخثر مقدار قلیل من الدم لیغلق منافذ شرایین الفاصلة أوالدماغ فیؤدّی بحیاة الإنسان، بل یکفی نفوذ جزء یسیر من الطعام إلی لسان المزمار بدلاً من إتجاهه إلی المعدة لیختنق الإنسان ویموت من فوره، کما تکفی صدمة طبیعیة لهذا الإنسان قد توقف قلبه عن الدق وإلی الأبد.

أمّا بالنسبة للحوادث الخارجیة فبمجرّد اهتزاز الأرض للحظة قد تنقلب مدینة رأساً علی عقب، کما قد تأتی عاصفة أو سیل علی کل شیء فتحیله خراباً لا حرکة فیه ولا حیاة، بل لصاعقة من السماء أن تحیل کل شیء إلی رماد.

ص:66


1- 1) بحار الانوار 7/166. [1]

إلی جانب ذلک هنالک الحوادث الیومیة فی حیاتنا المعاصرة من قبیل الاصطدامات وسقوط الطائرات والحرائق والانفجارات التی تنهی حیاة الأفراد خلال لحظات، نعم، تکاد تکون معدومة هی الفاصلة بین الحیاة والموت، ولکن من جانب آخر فانّ هذه الفاصلة قد تکون فی غایة البعد، فلو اجتمع کافة الأطباء وأعدّوا مختلف الوسائل الطبیة، فلیس لهم أن یهبوا الحیاة للأموات، علی غرار الولید الذی لا یسعه الرجوع إلی بطون اُمه و الثمار التی لا تعود ثانیة إلی الأشجار بعد سقوطها.

نختتم الکلام بما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «ثَلاثَةُ أَشیاءٍ لایَنبَغِی لِللعاقِلِ أَن یَنساهُنَّ عَلی کُلِّ حالٍ، فَناءُ الدُّنیا وَتصَرُّفُ الأَحوالِ والآفاتُ الَّتی لاأمانَ لَها» (1).

ص:67


1- 1) بحار الانوار 75/238. [1]

ص:68

القسم الرابع: الحرص علی الدنیا

اشارة

«إِنَّهُ لَیْسَ شَیْءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلاَّ عِقَابُهُ، وَلَیْسَ شَیٍ ٌ بِخَیْرٍ مِنَ الْخَیْرِ إِلاَّ ثَوَابُهُ. وَکُلُّ شَیْءٍ مِنَ الدُّنْیا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِیَانِهِ. وَکُلُّ شَیءٍ مِنَ الْآخِرَةِ عِیَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ. فَلْیَکْفِکُمْ مِنَ الْعِیَانِ السَّمَاعُ، وَمِنَ الْغَیْبِ الْخَبَرُ. وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْیَا وَزَادَ فِیِ الآخِرَةِ خَیْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الآخِرَةِ وَزَادَ فی الدُّنْیَا. فَکَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابِحٍ وَمَزِیدٍ خَاسِرٍ! إِنَّ الَّذِی أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِی نُهِیْتُمْ عَنْهُ وَمَا أُحِلَّ لَکُمْ أَکْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَیْکُمْ. فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا کَثُرَ، وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ. قَدْ تَکَفَّلَ لَکُمْ بِالرِّزْقِ وَأُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ فَلا یَکُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَکُمْ طَلَبُهُ أَوْلَی بِکُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَیْکُمْ عَمَلُهُ، مَعَ أَنَّهُ وَاللّهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّکُّ وَدَخِلَ الْیَقِینُ، حَتَّی کَأَنَّ الَّذِی ضُمِنَ لَکُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَیْکُمْ، وَکَأَنَّ الَّذِی قَدْ فُرِضَ عَلَیْکُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْکُمْ. فَبَادِرُوا الْعَمَلَ، وَخَافُوا بَغْتَةَ الْأَجَلِ، فَإِنَّهُ لاَ یُرْجَی مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا یُرْجَی مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ. مَا فَاتَ الْیَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِیَ غَداً زِیَادَتُهُ. وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ یُرْجَ الیَوْمَ رَجْعَتُهُ. الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائی، وَالْیَأْسُ مَعَ الْمَاضِی. فَاتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» .

الشرح والتفسیر

بیّن الإمام علیه السلام سلسلة من النصائح والمواعظ فی هذا المقطع من الخطبة والذی یمثل آخرها بهدف إعداد المخاطبین بحیث لو تأملها الإنسان وفکر فیها وسعه تحقیق السعادة والنجاة فقال:

ص:69

«إِنَّهُ لَیْسَ شَیْءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلاَّ عِقَابُهُ، وَلَیْسَ شَیٍ ٌ بِخَیْرٍ مِنَ الْخَیْرِ إِلاَّ ثَوَابُهُ» .

فالإنسان بصورة عامّة یهرب من السوء والشر ویجنح نحو الخیر، وقد جبل علی السعی نحو جنی منفعة ودفع الضرر، فقد اعتمد الإمام علیه السلام هذا الأمر الفطری لیدعو الناس إلی طاعة اللّه تعالی والابتعاد عن المعصیة والذنب فقال إنّ الأسوأ من السوء هو عقاب اللّه تعالی ومؤاخذته علی الذنوب والأفضل من الخیر هو جزاء اللّه تعالی وثوابه علی الطاعة والاحسان، من الواضح أنّ المراد من الشر والخیر (بقرینة الثواب والعقاب) هو المعصیة والطاعة، بینما یتسع معنی الشر والخیر إن توسعنا فی معنی العقاب والثواب لیشمل العقاب والثواب التکوینی (أی جزاء وبرکات الأعمال فی الدنیا) .

وقد أورد الإمام علیه السلام مثل هذه العبارة فی موضع آخر حیث قال: «فَاعِلُ الْخَیْرِ خَیْرٌ مِنْهُ، وَفَاعِلُ الشَّرِّ شَرُّ مِنْهُ» (1).

فقد إهتم الإمام فی النظرة الاُولی إلی النتائج ومن ثم إلی الأسباب والعلل، حقّاً إنّ الذی یضمره فاعل الخیر والشر أعظم ممّا یقوم به من عمل، لأنّه لا یری توفر أرضیته وأسبابه، من جانب آخر فانّ نتائج الأعمال خالدة بینما تزول الأعمال وهذا بحدّ ذاته دلیل علی أفضلیة النتائج علی نفس الأعمال.

ثم أضاف الإمام علیه السلام نقطة مهمّة أخری بهذا الخصوص فقال: «وَکُلُّ شَیْءٍ مِنَ الدُّنْیا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِیَانِهِ. وَکُلُّ شَیءٍ مِنَ الآخِرَةِ عِیَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ» ، هذه حقیقة فی أنّ المتع المادیة کالسراب له منظر خاص من بعید، ولکن لا یبدو شیئاً یذکر حین یصله الإنسان، فللقصور والثروات والقدرات واللذات والمتع ظاهر أنیق من بعید، ولکن ما أن یقترب منها الإنسان حتی یری سیل المشاکل والمصائب، فیتمنی أحیاناً أنّه لم یبلغها ویحصل علیها، فی حین ورد بشأن النعم الإلهیّة الجمّة فی الآخرة: «أَعْدَتُ لِعبادِی ما لاعَینٌ رأَتْ ولا اُذنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَل قَلبِ بَشَرٍ» (2).

بل لیشعر الإنسان بالعجز عن وصف اللذة التی یعیشها فی هذه الدنیا حین مناجاته للّه

ص:70


1- 1) نهج البلاغة، الکلمات القصار 32.
2- 2) بحار الانوار 8/191، ح168. [1]

وإحساسه بالقرب منه والفوز برضاه.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بأنّ الأمر إذا کان کذلک لابدّ أن یغنیکم سماع الحقائق المرتبطة بالآخرة بواسطة الأنبیاء وأولیاء اللّه سبحانه وتعالی عن رؤیتها: «فَلْیَکْفِکُمْ مِنَ الْعِیَانِ السَّمَاعُ، وَمِنَ الْغَیْبِ الْخَبَرُ» ، من البدیهی أن یعجز الإنسان عن العالم الخارجی مادامه فی زنزانة الجسد وفی دار الدنیا الظلماء الضیقة، فلا سبیل لإدراک أوضاع الآخرة وتفاصیلها سوی ما یوصله له هؤلاء العظام من أخبار یکتفی بها.

ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی أمرین منطقیین بهدف التشجیع علی الإتیان بالصالحات وإجتناب السیئات فقال: «وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْیَا وَزَادَ فِیِ الآخِرَةِ خَیْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الآخِرَةِ وَزَادَ فی الدُّنْیَا. فَکَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابِحٍ وَمَزِیدٍ خَاسِرٍ!» ، وهذا هو الأمر الذی أشار إلیه القرآن الکریم بوضوح إذ قال: «مَثَلُ الَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ کَمَثَلِ حَبَّةٍ. . .» (1).

وکما قال فی موضع آخر: «إِنَّ اللّهَ اشْتَرَی مِنْ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ. . .» (2).

وبناءاً علی هذا فالأموال والأعمار والإمکانات التی توظف فی مسار الآخرة إن قللت فی الظاهر شیئاً من الدنیا، ولکن فی الواقع قد تضیف أحیاناً مئة ضعف إلی ثواب الآخرة، وبالعکس فانّ الإنسان یدفع الثمن باهضاً إن أخلّ بشیء من آخرته وتنازل عن دینه وإیمانه وإنهمک بدنیاه لینال شیئاً من حطامها، قال القرآن الکریم بهذا الخصوص: «إِنَّ الَّذِینَ یَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَیْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِیلاً أُوْلَئِکَ لَاخَلَاقَ لَهُمْ فِی الْآخِرَةِ. . .» (3).

فهل هناک من عاقل مستعد لمعاوضة الصفقة الاُولی المربحة بالثانیة الخاسرة؟ !

ثم قال الإمام علیه السلام فی الأمر الثانی: «إِنَّ الَّذِی أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِی نُهِیْتُمْ عَنْهُ وَمَا أُحِلَّ لَکُمْ أَکْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَیْکُمْ. فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا کَثُرَ» .

المراد من «ما أمرتم به» هنا الأمر فی مقابل الحظر، یعنی ما أجیز لکم بالنسبة إلی الذنوب

ص:71


1- 1) سورة البقرة / 261. [1]
2- 2) سورة التوبة / 111. [2]
3- 3) سورة آل عمران / 77. [3]

هو أوسع وأشمل، وترک الذنب لا یؤدّی بکم إلی الضیق والعسر، بل أمامکم مسار واسع وشامل بهدف الحصول علی الدین والدنیا، قطعاً إننا نصل إلی عدد محدود حین نحصی الذنوب ولا سیّما الکبائر، بینما نواجه دائرة واسعة جدّاً إن أردنا إحصاء ما أجازه الشرع المقدس، ویصدق هذا الأمر علی الحلال والحرام، فما أکثر الأغذیة الحلال بالنسبه للطعام الحرام، وما أکثر معاملات الحلال قیاساً بمعاملات الحرام، کما أنّ النساء اللاتی یحلّ الزواج منهن أکثر بکثیر من تلک اللاتی یحرم الزواج منهن (1)، وعلیه فطاعة أوامر اللّه تعالی ورعایة الحلال والحرام لا تجعل الإنسان فی حرج، وهذا فی والواقع ردّ قاطع علی اُولئک الذین یرون دین اللّه سلسلة من المحظورات والممنوعات، وهکذا یحث الإمام علیه السلام الجمیع علی ترک الذنوب والمعاصی والمحرمات، وهکذا والمحدودة والحرکة باتجاه السبیل الرحب للحلال والمباح، فلیست هنالک من مشکلة فی حیاتهم المادیة ولا المعنویة.

والواقع هو أنّ هذه العبارة إشارة لما ورد فی القرآن الکریم: «وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ. . .» (2).

وجاء فی الحدیث النبوی الشریف: «بَعَثَنِی بِالحَنَفِیةِ السَّمحَةِ» (3).

کما صرّح القرآن الکریم قائلاً: «فَکُلُوا مِمَّا رَزَقَکُمْ اللّهُ حَلَالاً طَیِّباً وَاشْکُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ إِنْ کُنْتُمْ إِیَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیْکُمْ الْمَیْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِیرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَیْرِ اللّهِ بِهِ. . .» (4).

ولما کان السعی من أجل المعاش والحرص لنیل الرزق یشکل أحد العوامل المهمّة للغفلة والکسل عن الإتیان بالفرائض الإلهیّة والخوض فی تهذیب النفس وتزکیتها، فانّ الإمام علیه السلام أشار إلی مسألة دقیقة، وهی ضرورة علمهم بأنّ اللّه قد ضمن أرزاقهم وأمرهم بالقیام

ص:72


1- 1) الواقع أنّ العبارة «إنّ الذی أمرتم به. .» إشارة إلی الأحکام التکلیفیة الخمسة، والعبارة «ما أحل لکم. . .» ناظرةإلی الأحکام الوضعیة، وعلیه فلا داعی لأنّ نعتبر العبارتین مترادفتین للتأکید کما ذهب إلی ذلک بعض شرّاح نهج البلاغة.
2- 2) سورة الحج / 78. [1]
3- 3) بحار الانوار 22/264. [2]
4- 4) سورة النحل / 114 - 115. [3]

بالواجبات، وعلیه فلا ینبغی لهم منح الأولویة لما ضمن والغفلة عمّا یجب علیهم الإتیان به فقال: «قَدْ تَکَفَّلَ لَکُمْ بِالرِّزْقِ وَأُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ فَلا یَکُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَکُمْ طَلَبُهُ أَوْلَی بِکُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَیْکُمْ عَمَلُهُ» (1).

وبعبارة أخری فانّ لدینا شیئین: الأول تحصیل الرزق والثانی القیام بالفرائض الإلهیّة، وقد تکفّل اللّه تعالی بضمان الأول وقلدنا مسؤولیة الأمر الثانی، ومن هنا لابدّ أن نبذل ما فی وسعنا بالأمر الثانی، والحال القضیة علی العکس فی أنّ أغلب الناس یرکزون جهودهم ویبذلون قصاری سعیهم ویشغلون فکرهم من أجل تحصیل الرزق والمعاش ویولون ظهورهم لیتناسوا الواجبات والفرائض الملقاة علی عاتقهم.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه قائلاً: «مَعَ أَنَّهُ وَاللّهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّکُّ وَدَخِلَ (2)الْیَقِینُ، حَتَّی کَأَنَّ الَّذِی ضُمِنَ لَکُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَیْکُمْ، وَکَأَنَّ الَّذِی قَدْ فُرِضَ عَلَیْکُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْکُمْ» .

ویبدو أنّ هذه العبارة تشبه ما ورد عن أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی مقارنته لطلب العلم بطلب المال حیث قال: «أَیُّها النّاسُ اعلَمُوا أَنَّ کَمالَ الدِّینِ طَلَبُ العِلمِ وَالعَمَلُ بِهِ، ألا وَإنَّ طَلَبَ العِلمِ أَوجَبُ عَلَیکُم مِنْ طَلَبَ المالِ إِنَّ المالَ مَقسُومٌ مَضمُونٌ لَکُم قَدْ قَسَّمَهُ عادِلٌ بَینَکُم وَضَمِنَهُ وَسَیَفِی لَکُم وَالعِلمُ مخْزُونٌ عِندَ أَهلِهِ وَقَدْ أُرتُم بِطَلَبِهِ مِنْ أَهلِهِ فَاطْلُبُوهُ» (3).

لا شک أنّ المقصود بالعبارات المذکورة لیس إیقاف الناس لأنشطتهم الاقتصادیة الإیجابیة ویتخلون عن مساعیهم من أجل ضمان الحیاة المشرفة، بل الهدف هو الحدّ من الحرص

ص:73


1- 1) یعتقد بعض شرّاح نهج البلاغة [1]أنّ «طلبه» فی العبارة المذکورة لیست نائب فاعل للمضمون ونائب الفاعل هو «الرزق» التی وردت فی العبارات السابقة، وإلّا أدنی تأمل یکشف أنّ هذا المطلب ینقض نسق العبارتین المذکورتین (المضمون لکم. . . المفروض علیکم) والحال یقتضی الانسجام بین هاتین العبارتین أن یکون کل من «طلب» و «عمل» نائب فاعل أحدهما للمضمون والآخری للمفروض، وعلیه یصبح معنی الجملة «لا ینبغی أن تولون الأهمیّة للشیء الذی ضمنه لکم اللّه وتغفلون عمّا وجب علیکم من عمل» بعبارة أخری فانّ الطلب هنا بمعنی تحصیل وإعداد الرزق من جانب اللّه تعالی.
2- 2) «دخل» : یعنی الفساد فی مثل هذه الأمور ودخل علی وزن دعل بمعنی الأمور الفاسدة التی تتسلل داخل الإنسان فتؤثر علی عقله.
3- 3) اصول الکافی 1/30. [2]

والتکالب علی الدنیا والجنوح نحو الشره الذی یصد الإنسان عن العلم والمعرفة والأمور المعنویة.

ثم خلص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة: «فَبَادِرُوا الْعَمَلَ، وَخَافُوا بَغْتَةَ (1)الْأَجَلِ، فَإِنَّهُ لاَ یُرْجَی مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا یُرْجَی مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ. مَا فَاتَ الْیَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِیَ غَداً زِیَادَتُهُ. وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ یُرْجَ الیَوْمَ رَجْعَتُهُ» ، نعم، «الرَّجاءُ مَعَ الجَائِی وَالیأسُ مَعَ المَاضِی» .

حقاً إنّه منطق بلیغ واضح فی عدم إمکانیة عودة ساعات العمر بأی شکل من الأشکال، فی حین یمکن استعادة متع الدنیا وفی کل الظروف وتدارکها، بناءاً علی هذا فالذی یقوله العقل لابدّ من الحزم والحساسیة تجاه الأمور التی یمکن عودتها، لا الأمور التی إن فقدت الیوم أمکن الحصول علیها بالغد، والحال أنّ أغلب الناس یتصرفون علی العکس من هذا الأمر، فأصواتهم ترتفع بالصراخ إلی عنان السماء لمجرّد فقدانهم لشیء من حطام الدنیا، بینما لا یأبهون لتصرم الأیام والأسابیع والأشهر والسنوات، وهذا یدعو إلی الدهشة والعجب، وهذا ما دفع بالإمام علیه السلام للتأکید علی هذا المطلب وشبهه فی هذه الخطبة وسائر الخطب.

ورد فی الخبر أنّ شخصاً أتی إلی الإمام السجاد علیه السلام وقد شکی إلیه وضعه وکأنّه کان یعانی من قلّة الرزق فرد علیه الإمام علیه السلام أنّ بنی آدم علیه السلام مساکین یشهدون ثلاث مصائب کل یوم ولا یعتبرون بها ولو اعتبروا بها لهانت علیهم المصائب، المصیبة الأولی: کل یوم یمر علیهم یذهب من عمرهم (لکنهم لا یأسفون علی ذلک) لکنهم یحزنون إن قلّ مالهم، والحال هناک خلف للدنیار والدرهم بینما لیس للعمر من عودة قط، المصیبة الثانیة: هو أنّ الإنسان یرتزق کل یوم فان کان رزقه حلالاً کان فیه حساب وإن کان من الحرام فیه عقاب، المصیبة الثالثة وهی أعظمها جمیعاً: «مَا مِنْ یَومٍ یُمسِی إلّاوَقَدْ دَنا مِنَ الآخرَةِ مَرحَلَةً لایَدرِی عَلَی الجَنَّة أم عَلی النَّارِ» (2).

وفی ختام الخطبة نصح الناس من خلال الوعظ بالآیات القرآنیة فقال: «فاتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» .

ص:74


1- 1) «بغتة» : من مادة «بغت» علی وزن وقت یعنی الشیء الذی یحدث فجأة.
2- 2) بحار الانوار 75/16. [1]

والقول مستوحی من قوله تبارک وتعالی: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا فاتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (1).

تأمّلات

1 - غرور عن بعد ورعب من قرب

إنّ المتع الدنیویة المادیة والبهرجة لهذا العالم تبدو خلّابة ساحرة من بعید، لکن ما إن یبلغها الإنسان حتی یراها غایة فی الصغر والضحالة، بل تکون مقلقة ومرعبة أحیاناً، مثلاً یری الإنسان من بعید حیاة الملوک فیظن لو إعتلی یوماً عرش السلطة، فقد سیطر علی العالم بأسره وقد نال السعادة والموفقیة، ولکنّه ما إن یبلغ ذلک حتی یشعر أنّه فقد علی الأقل ثلاثة أشیاء من رکائز الحیاة:

الأول: الأمن فهو یشعر فی ذلک المنصب بالخوف من أقرب مقربیه، فهو مطالب بالحذر من بطانته دائماً حتی فی قصره وغرفة نومه فلا أمن ولا أمان، فما أکثر السلاطین الذین قتلوا علی ید مقربیهم.

الثانی: الحریة، علی سبیل المثال لا یستطیع ممارسة حیاته کالأفراد العادیین من قبیل الخروج فی نزهة مع زوجته وأولاده أو الحضور بحریة فی المجالس والحفلات التی یقیمها الأصدقاء والأقرباء.

الثالث: راحة البال، فهو مشغول علی الدوام ولا یهدأ أبداً، فما زلنا نذکر بعض رؤوسا الجمهویات الذین صرّحوا علنا بأنّهم لم یذوقوا طعم النوم الهادیء طیلة لیالی حکومتهم وأن حاشیتهم کانوا یوقظونهم من نومهم لیطلعوهم علی الحوادث التی تقع هنا هناک من العالم، نعم لم یذوقوا طعم النوم إلّابعد أن تمت مدّة حکومتهم.

ومثال آخر لما ذکرنا آفاق حیاة الأثریاء من بعید فیظن الناظر أنّها مفعمة بالسعادة والرفاه، ولکن إن قدّر له أن یعیش ذلک الثراء فسیشعر أنّ بحاجة إلی جزء یسیر من هذه

ص:75


1- 1) سورة آل عمران / 102. [1]

الثروة فی حیاته بینما تثقل باقی الثروة کاهله، فالحرص علی حفظ هذه الثروة وصیانتها من الأعمال الشاقة، والعداوة والبغض الحسد الذی یعانیه من الآخرین والذی یمثل کابوساً مرعباً یقض مضجعه، ومن هنا عبّر الإمام علیه السلام بتلک العبارة الرائعة التی أوردها فی هذه الخطبة فی أنّ کل شیء فی الدنیا سماعه أعظم من عیانه، وبالعکس بالنسبة للآخرة فانّ کل شیء فیها عیانه أعظم من سماعه، فهل لعاقل بعد کل هذا أن یؤثر الدنیا علی الآخرة.

نعم، إن نشد الإنسان المقامات المادیة وثروات هذا العالم من أجل خدمة خلق اللّه تعالی، علی حدّ تعبیر القرآن الکریم فی إطار خطابه لقارون: «وَابْتَغِ فِیمَا آتَاکَ اللّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ. . .» (1).

وتحمل کل ما یترتب علی ذلک من مشاکل وصعاب فذلک له حساب آخر، فقد ورد فی الخبر إنّ أحد أصحاب الإمام الصادق علیه السلام شکی إلیه طلب الدنیا والتعلق بها، فقال له علیه السلام لم تطلب الدنیا؟ قال: لأصل بها رحمی وأنفق علی عیالی وأعطی وأحج وأعتمر، فقال: «لَیسَ هذا طلَبُ الدُّنیا، هذا طَلَبُ الآخرة» . (2)

2 - الدنیا وآراء الناس

الکل یعلم أنّ هذه الدنیا والحیاة فی هذا العالم لا تدوم لأحد، فهم یرون بأم أعینهم مراحل انتقال الطفولة إلی الشباب ومنه إلی الکهولة ثم العالم الآخر تطالعنا صفحات النعی فی الصحف المسائیة کل یوم بالإعلان عن موت بعض الأعزة الذین یثکل بهم الأقرباء والأهل، ولا سیّما فی عصرنا الراهن الذی أصبح فیه الموت والحیاة قریب جدّاً من الإنسان مقارنة الأزمنة الماضیة ومتوسط عمر الإنسان، فقد نسمع بسقوط مفاجیء لطائرة فتتناثر أجساد رکابّها فی الهواء لتقع هنا هناک، والحوادث الاُخری التی تزید من عدد الوفیات کل یوم وفی مختلف الأماکن، حتی أنّ ضحایا الوسائل النقلیة فی المناطق والمدن لتفوق ضحایا الحروب، وبغض

ص:76


1- 1) سورة القصص / 77. [1]
2- 2) وسائل الشیعة 12/19. [2]

النظر عما سبق فانّ هذه الحیاة القصیرة ملیئة بأنواع المعاناة والألم والمشاق، ویکفی فی ذلک أن نلقی نظرة عابرة علی مستشفی لنری مختلف الأمراض التی یعانی منها الأطفال والشباب والکهول، أو نتطلع أحد السجون ونشاهد عن کثب الأفراد الذین زجت بهم المظالم والشهوات والأخطاء والنزوات فی ذلک المکان، ولکن مع ذلک أغلب الناس یتناسون کل هذه المسائل لیحصلوا علی استقرار کاذب مزّیف، والاستقرار الذی یشبه ذلک الذی یشعر به الحیوان الذی یخفی جسده فی الرمال مخافة الصیّاد، والحال یراه الصیاد ویسارع إلی افتراسه.

ومن هنا فانّ الإمام علیه السلام یورد وصایاه فی أغلب مواضع نهج البلاغة بهدف التنبیه إلی تلک الغفلة والنسیان الممیت وایقاظ الضمیر البشری الذی یغط فی سبات عمیق، وقد اتبع الإمام مختلف الأسالیب من أجل تحقیق هذا الغرض فتارة یذکر الدنیا علی أنّها دار عناء وفناء وغیر وعبر وأخری یذکر إنزوائها علی أنواع الشدائد والمشاکل، کما یتطرق إلی قصر المسافة بین الحیاة والموت، إلی جانب ذلک یلفت الانتباه إلی هذه الحقیقة فی عدم إمکانیة عودة ما یتصرم من ساعات العمر، فی حین یمکن تدارک کافة سائر النعم المادیة، والحق لو تأمل کل إنسان مرّة واحدة فی الاسبوع هذه الخطبة لما عانی من الغفلة قط.

3 - کیف نبحث عن سعادة الآخرة فی الدنیا؟

ربّما یطلب الإنسان الدنیا من أجل إشباع أهوائه ورغباته إلی جانب الامتیاز علی الآخرین واستغلالهم واستعمارهم، کما قد یطلبها بهدف الحصول علی الرفاه المتوازن، وأحیاناً ینشدها بغیة وفرة الإمکانات لخدمة الآخرین، أخیراً قد یریدها لترسیخ دعائم اقتصاد المجتمع الإسلامی وتحقیق مجده وعظمته ورفعته وإبعاده عن کافة أشکال التبعیة للآخرین، ومن البدیهی أنّ هذه الأهداف تتفاوت فیما بینها تفاوتاً تاماً.

فعلی ضوء الهدف الأول یتصف بأبشع الصفات الرذیلة، والثانی یتّجه نحو الأهداف

ص:77

المباحة والاستفادة من النعم الإلهیّة، والثالث یمارس أرفع عبادة وأخیراً الرابع یسدی أعظم الخدمات الإنسانیة والإسلامیة، وکل ما ورد من ذمّ فی هذه الخطبة وسائر الأخبار والروایات عن أئمة العصمة علیه السلام وکذلک القرآن الکریم إنّما یشیر فی والواقع إلی الطائفة الأولی من الناس وهو الموصوف برأس کل خطیئة ومصدر جمیع الذنوب، ولا عاقبة له سوی جهنّم وبئس المصیر.

ومن هنا فلا ینبغی تفسیر ذمّ الدنیا والمتکالبین علیها بأنّ الإسلام یرتضی للمجتمع حالة الفقر والحرمان ویوصی بذلک، قد ورد هذا المضمون فی الروایات الإسلامیة، فقد قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «مَلعُونٌ مَلعُونٌ مَن عَبدَ الدِّینار والدّرهم» (1).

وقال المرحوم الشیخ الصدوق فی تفسیر هذا الحدیث: «یعنی به من یمنع زکاة ماله ویبخل بمواساة إخوانه، فیکون قد آثر عبادة الدینار والدرهم علی عبادة خالقه» (2).

وجاء فی الخبر أنّ علیاً علیه السلام یفخر برفاه أهل الکوفة خلال مدّة حکومته رغم ما هو علیه من الزهد والعزوف عن الدنیا فقال: «ما أَصبَحَ بِالکُوفَةِ أَحَدٌ إلّاناعِماً، إِنَّ أَدناهُم مَنزِلَةً لَیَأکُلُ البُّرَ وَیَجلِسُ فِی الظِّلِّ وَیَشرَبُ مِن ماءِ الفُراتِ» (3)

ص:78


1- 1) بحار الانوار 7/140. [1]
2- 2) المصدر السابق. [2]
3- 3) المصدر السابق 40/327. [3]

الخطبة المأة و خمسه عشرة

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطْبِةٍ لَهُ علیه السلام

فی الاستسقاء

نظرة إلی الخطبة

کما ورد فی عنوان الخطبة فانّها دعاء فی الاستسقاء، وقد أوردها الإمام فی عصر حکومته حین أصاب الناس الجفاف، حیث أشار علیه السلام فی البدایة إلی الأسباب التی تدعو إلی حبس المطر وشیاع الجفاف فی أنّ أغلب الحوادث من هذا القبیل معلولة لمعاصی الناس وذنوبهم وسوء أعمالهم، ثم یبتهل إلی اللّه تعالی بالدعاء بعبارات رصینة عمیقة المعنی سائلاً الحق تبارک وتعالی التلطف بنزول المطر، حتی أنّ عباراته لتخترق شغاف القلب وتملأه بالمعنویات والشد للّه سبحانه.

وما أحرانا بالتوسل بهذه العبارات والمضامین الواردة فی هذ الخطبة من أجل الاستسقاء.

ص:79


1- 1) سند الخطبة: رواها قبل السید الرضی المرحوم الشیخ الصدوق فی کتابه «من لا یحضره الفقیه» فی آداب صلاة الاستسقاء مع اختلاف کبیر وإضافات تدلّ علی أنّ ما نقله السید الرضی فی نهج البلاغة هو بعض ما اختاره من تلک الخطبة «من لا یحضره الفقیه 2/235» کما نقلها المرحوم الشیخ الطوسی فی «التهذیب ج2، ص151» وفی «المصباح المتهجد» فی آداب صلاة الاستسقاء مع اختلاف وما ورد فی نقل السید الرضی فی نهج البلاغة ممّا یدلّ علی وجود مصدر آخر اعتمده الشیخ، ونقلها من علماء العامّة الزمخشری فی «ربیع الابرار» وابن الأثیر فی «النهایة» (مصادر نهج البلاغة 2/256) . [1]

ص:80

القسم الاوّل: الأمل باللّه فی القحط والجفاف

«اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا، وَاغیَرَّتْ أَرْضُنَا، وَهَامَتْ دَوَابُّنَا. وَتَحَیَّرَتْ فی مَرَابِضِهَا، وَعَجَّتْ عَجِیجَ الثَّکَالَی عَلَی أَوْلادِهَا، وَمَلَّتِ التَّرَدُّدَ فِی مَرَاتِعِهَا، وَالْحَنِینَ إِلَی مَوَارِدِهَا! اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِینَ الْآنَّةِ، وَحَنِینَ الْحَانَّةِ! اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَیْرَتَهَا فِی مَذَاهِبِهَا، وَاَنِینَهَا فِی مَوَالِجِهَا! اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَیْکَ حِین اعْتَکَرَتْ عَلَیْنَا حَدَابِیرُ السِّنِینَ، وَأَخْلَفَتْنَا مَخَایِلُ الْجَوْدِ. فَکُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ، وَالْبَلاَغَ لِلْمُلْتَمِسِ. نَدْعُوکَ حِینَ قَنَطَ الْأَنَامُ، وَمُنِعَ الْغَمَامُ، وَهَلَکَ السَّوَامُ، أَنْ لاَ تُؤَاخِذَنَا بِأَعْمَالِنَا، وَلاَ تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا. وَانْشُرْ عَلَیْنَا رَحْمَتَکَ بِالسَّحابِ الْمُنْبَعِقِ، وَالرَّبِیعِ الْمُغْدِقِ، وَالنَّبَاتِ الْمُونِقِ. سَحًّا وَابِلاً، تُحْیِی بِهِ مَا قَدْ مَاتَ، وَتَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ» .

الشرح والتفسیر

بیّن الإمام علیه السلام فی بدایة هذه الخطبة الوضع المأساوی الذی أصاب الناس إثر الجفاف ومع السماء بعبارات رائعة بعیدة المعنی، حیث استهلها بستة جمل قائلاً: «اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ (1)جِبَالُنَا، وَاغیَرَّتْ (2)أَرْضُنَا، وَهَامَتْ (3)دَوَابُّنَا. وَتَحَیَّرَتْ فی مَرَابِضِهَا (4)، وَعَجَّتْ (5)عَجِیجَ

ص:81


1- 1) «انصاحت» : من مادة «صوح» علی وزن صوم بمعنی الانشقاق وقیل بمعنی الجفاف والتشقق والزوال الملازمة لبعضها البعض الآخر.
2- 2) «اغبرت» : من مادة «غبار» وهی هنا إشارة إلی الجدب الذی یؤدّی إلی جفاف الأرض.
3- 3) «هامت» : من مادة «هیم» علی وزن حیف بمعنی الحیرة وتستعمل أحیاناً بشأن الإنسان أو الحیوان الذی لا یدری أین یذهب من شدّة العطش.
4- 4) «مرابض» : جمع «مربض» موضع الماشیة ومبرک الغنم.
5- 5) «عجت» : من مادة «عجیج» بمعنی الصراخ والصیاح بأعلی الصوت.

الثَّکَالَی (1)عَلَی أَوْلادِهَا، وَمَلَّتِ التَّرَدُّدَ فِی مَرَاتِعِهَا، وَالْحَنِینَ إِلَی مَوَارِدِهَا!» .

فققد رسم الإمام علیه السلام صورة واضحة بعبارات فصیحة عن الجفاف الشدید الذی أصاب الناس فی ذلک الزمان، وکشف النقاب عن وضع الجبال والأراضی والمراتع والدواب، ثم رفع یدیه بالدعاء مبتهلاً إلی اللّه: «اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِینَ الْآنَّةِ (2)، وَحَنِینَ الْحَانَّةِ! (3)» .

کما شکی شدّة عطش الدواب وجوعها وصراخها فی أماکنها: «اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَیْرَتَهَا فِی مَذَاهِبِهَا، وَاَنِینَهَا فِی مَوَالِجِهَا! (4)» .

وأردف قائلاً: «اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَیْکَ حِین اعْتَکَرَتْ (5)عَلَیْنَا حَدَابِیرُ السِّنِینَ (6)، وَأَخْلَفَتْنَا (7)مَخَایِلُ (8)الْجَوْدِ (9)» .

إنّ دقّة العبارات التی استخدمها الإمام علیه السلام فی هذا الدعاء تشیر إلی مدی حرقة الإمام علیه السلام والناس من جانب، ومن جانب آخر تستبطن تصویراً عمیقاً لتلک الحادثة، فحدابیر جمع حدبار تستخدم بشأن الجمل الذی تبین عظام سنامه وقد حز لحمه بصورة تامة إثر شدّة الضعف (بسبب الجوع أو کثرة المشی) .

فقد شبّه الإمام علیه السلام الجفاف المتواصل بهذا الجمل، ومن الطبیعی أن یدعو منظره إلی الأسی والحزن، کما أنّ رکوبه یبدو متعذراً شاقاً.

أمّا العبارة التی تضمنت «آنّة» و «حانّة» التی تستخدم کله منهما بشأ تألم الحیوان حیث

ص:82


1- 1) «ثکالی» : جمع «ثکلی» المرأة التی مات إبنها.
2- 2) «آنة» : من مادة «أنین» وعادة ما تطلق علی الشاة التی تتألم.
3- 3) «حانة» : من مادة «حنین» التی تطلق علی الجمل حین یتألم.
4- 4) «موالج» : جمع «مولج» مدخل الشیء.
5- 5) «اعتکرت» : من مادة «عکر» علی وزن مکر بمعنی الهجوم.
6- 6) «سنین» : اسم جمع السنوات، لکنّها ترد عادة فی العبارات کالعبارة المذکورة بمعنی القحط والجفاف (ورد معنیان لسنین فی قاموس اللغة أحدهما بمعنی السنة والآخر بمعنی الجفاف والقحط) .
7- 7) «أخلفتنا» : من مادة «خلاف» بمعنی المخالفة.
8- 8) «مخایل» : جمع «مخیلة» علی وزن قبیلة بمعنی الغیوم التی یأمل الإنسان بنزول المطر منها لکنّها لیست بماطرة.
9- 9) «جود» : لفتح الجیم جمع «جائد» المطر الکثیر والجود بالضم بمعنی السخاء والهبة.

تشیر الاُولی إلی الشاة والثانیة إلی الجمل، فانّما تشیر إلی حالة الألم التی کانت تعیشها جمیع الحیوانات فی ذلک القی الشدید، وبالالتفات إلی أنّ القسم الأعظم من أراضی العراق تقع بین النهرین العظیمین دجلة والفرات المروفان بوفرة المیاههما مقارنة بأنهار المنطقة یتبیّن أنّ القحط تلک السنوات علی درجة من الشدّة بحیث ضیّق علی أهل العراق حتی فی تلبیة الحاجات الأولیة للحیوانات (تشیر القرائن إلی أنّ الإمام علیه السلام ألقی هذه الخطبة بعد صلاة الاستستقاء حین کان فی الکوفة) .

ثم ابتهل إلی اللّه سبحانه وتعالی فی أنّک الأمل والرجاء لکل بائس وحلّال مشاکل کل طالب حاجة وقد سیطر الیأس علی الناس وقد منعت السماء برکاتها والغیوم میاهها وأشرفت الحیوانات علی الهلکة فنسألک ألّا تؤاخذنا بسیئات أعمالنا ولا بوائق ذنوبنا: «فَکُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ (1)، وَالْبَلاَغَ (2)لِلْمُلْتَمِسِ. نَدْعُوکَ حِینَ قَنَطَ الْأَنَامُ، وَمُنِعَ الْغَمَامُ، وَهَلَکَ السَّوَامُ (3)، أَنْ لاَ تُؤَاخِذَنَا بِأَعْمَالِنَا، وَلاَ تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا» .

تفید هذه العبارة أنّ أغلب الآفات والبلاء والشدّة معلولة لذنوب الناس، ولا تزال مشاکلهم قائمة مستعصیة ما لم یتوبوا إلی اللّه ویسألوه العفو والمغفرة، والعبارة تشبه الشکوی التی بثها نبی اللّه نوح علیه السلام إلی ربّه بشأن قومه: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ غَفَّاراً * یُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَیْکُمْ مِدْرَاراً» (4)

کما ورد فی سورة الأعراف قوله: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَی آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَیْهِمْ بَرَکَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَکِنْ کَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا کَانُوا یَکْسِبُونَ» (5).

ثم طرح الإمام طلبته الأصلیة علی الحق تبارک وتعالی قائلاً: «وَانْشُرْ عَلَیْنَا رَحْمَتَکَ

ص:83


1- 1) «مبتئس» : من مادة «بؤس» علی وزن قرص الفقر وشدة الحاجة.
2- 2) «البلاغ» : بمعنی الکفایة وحل المشکلة.
3- 3) «سوام» : وسائمة الحیوان الذی یرعی فی الصحراء.
4- 4) سورة نوح / 10 - 11. [1]
5- 5) سورة الأعراف / 96. [2]

بِالسَّحابِ الْمُنْبَعِقِ (1)، وَالرَّبِیعِ الْمُغْدِقِ (2)، وَالنَّبَاتِ الْمُونِقِ (3). سَحًّا (4)وَابِلاً (5)، تُحْیِی بِهِ مَا قَدْ مَاتَ، وَتَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ» .

فما ورد فی عبارات الإمام علیه السلام إنعکاس تام لما عاناه الناس من قحط شدید ومصائب عضال من جهة، ومن جهة أخری تضمنت طلباً للغیوم الملبدة بالأمطار، وکذلک ربیعاً مبارکاً ونباتات طریة جمیلة وأخیراً تتجه صوب نتیجة نهائیة هی الأمطار التی تحیی الأرض وتستعید کل ما فقد؟ ولا تکون تلک السنة سنة عامرة بالبرکة فحسب، بل سنة تتلافی سنوات الجفاف السابقة.

ص:84


1- 1) «منبعق» : من مادة «انبعاق» بمعنی انشقاق ولما کانت الغیوم حین نزول المطر تبدو منشقة وتجری منهاالأمطار فقد استخدمت هذه المفردة بشأن نزول المطر.
2- 2) «مغدق» : من مادة «غدق» علی وزن شفق الماء الوفیر وتستعمل کنایة بشأن السنوات المفعمة بالخیر والبرکة.
3- 3) «مونق» : من مادة «أنق» علی وزن شفق بمعنی السرور والاعجاب بالشیء.
4- 4) «سحّ» : بمعنی انسیاب الماء الوفیر وبصورة مستمرة.
5- 5) «وابل» : المطر الشدید الضخم القطر.

القسم الثانی: اللّهم أمطرنا بوابل رحمتک

اشارة

«اللَّهُمَّ سُقْیَا مِنْکَ مُحْیِیَةً مُرْوِیَةً، تَامَّةً عَامَّةً، طَیِّبَةً مُبَارَکَةً، هَنِیئَةً مَرِیعَةً. زَاکیاً نَبْتُهَا، ثَامِراً فَرْعُهَا، نَاضِراً وَرَقُهَا، تُنْعِشُ بِهَا الضَّعِیفَ مِنْ عِبَادِکَ، وَتُحْیِی بِهَا الْمَیِّتَ مِنْ بِلادِکَ! اللَّهُمَّ سُقْیَا مِنْکَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنا، وَتَجْرِی بِهَا وِهَادُنَا وَیُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا، وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمارُنَا، وَتَعِیشُ بِهَا مَوَاشِینا، وَتَنْدَی بِهَا أَقَاصِینَا، وَتَسْتَعِینُ بِهَا ضَوَاحِینَا. مِنْ بَرَکاتِکَ الْوَاسِعَةِ، وَعَطَایَاکَ الْجَزِیَلَةِ عَلَی بَرِیَّتِکَ الْمُرْمِلَةِ، وَوَحْشِکَ الْمُهْمَلَةِ. وَأَنْزِلْ عَلَیْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً، مِدْرَاراً هَاطِلَةً، یُدَافِعُ الْوَدْقُ مِنْهَا الْوَدْقَ، وَیَحْفِزُ الْقَطْرُ مِنْهَا الْقَطْرَ، غَیْرَ خُلَّبٍ بَرْقُهَا، وَلاَجَهَامٍ عَارِضُهَا، وَلاَ قَزَعٍ رَبَابُهَا، وَلاَ شَفَّانٍ ذِهَابُهَا، حَتَّی یُخْصِبَ لِإِمْرَاعِهَا الُْمجْدِبُونَ، وَیَحْیَا بِبَرَکَتِهَا الْمُسْنِتُونَ، فَإِنَّکَ تُنْزِلُ الْغَیْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا، وَتَنْشُرُ رَحْمَتَکَ وَأَنْتَ الْوَلِیُّ الْحَمِیدُ» .

الشرح والتفسیر

طرح الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة طلبه وصحبه الرئیسی والذی یتمثل بنزول المطر المبارک فسأل اللّه سبحانه وتعالی مطراً ذات عشرین صفة تشیر کل واحدة منها إلی قضیة رائعة، وما أورع أن یذکر الإمام کل هذه الأوصاف للمطر المطلوب، وهی الأوصاف التی تجعل الإنسان یتواضع ویشعر بالخضوع أمام عظمة الخلاق، کما تفهم السامع عمق الآثار والبرکات التی تختزنها هذه القطرات من المطر: «اللَّهُمَّ سُقْیَا مِنْکَ مُحْیِیَةً مُرْوِیَةً، تَامَّةً عَامَّةً،

ص:85

طَیِّبَةً مُبَارَکَةً، هَنِیئَةً مَرِیعَةً (1). زَاکیاً نَبْتُهَا، ثَامِراً (2)فَرْعُهَا، نَاضِراً (3)وَرَقُهَا، تُنْعِشُ (4)بِهَا الضَّعِیفَ مِنْ عِبَادِکَ، وَتُحْیِی بِهَا الْمَیِّتَ مِنْ بِلادِکَ!» .

الواقع هو أنّ الإمام علیه السلام سأل اللّه تعالی مطرا تتوفر فیه الشرائط وبعیداً عن کل الموانع، فقد لوحظ فی أغلب الأحیان نزول الأمطار علی شکل سیول، لکنّها تحطم کل شیء تأتی علیه، أو إنّها تترکز فی نقطة معینة لیست لها منفعة عامة، أو أنّها مصحوبة ببرد شدید قارس لا تخفی آثاره السلبیة، أو یکون مصحوباً ببعض الموانع من قبیل الریاح الحارة والعواصف الشدیدة والآفات التی تصیب النباتات کالجراد والحشرات المؤذیة وأمثال ذلک التی تقضی علی أثار الأمطار، فالإمام علیه السلام یأخذ جمیع هذه الأمور بنظر الاعتبار فیسأل اللّه تعالی اجتماع کافة الشرائط ودفع جمیع الموانع.

ثم واصل الإمام علیه السلام الدعاء بذکر سبعة أوصاف أخری لیکتمل عدد الصفات عشرین صفة فقال: «اللَّهُمَّ سُقْیَا مِنْکَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنا (5)، وَتَجْرِی بِهَا وِهَادُنَا (6)وَیُخْصِبُ (7)بِهَا جَنَابُنَا (8)، وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمارُنَا، وَتَعِیشُ بِهَا مَوَاشِینا، وَتَنْدَی (9)بِهَا أَقَاصِینَا (10)، وَتَسْتَعِینُ بِهَا ضَوَاحِینَا (11). مِنْ بَرَکاتِکَ الْوَاسِعَةِ، وَعَطَایَاکَ الْجَزِیَلَةِ عَلَی بَرِیَّتِکَ الْمُرْمِلَةِ (12)، وَوَحْشِکَ

ص:86


1- 1) «مریع» : من مادة «مرع» علی وزن کثیف النبات.
2- 2) «ثامر» : بمعنی ذو ثمر.
3- 3) «ناصر» : بمعنی ذو نضرة.
4- 4) «تنعش» : من مادة «نعش» علی وزن فرش بمعنی الإثارة و اقامة.
5- 5) «نجاد» : من مادة «نجود» علی وزن سجود ما ارتفع من الأرض حیث تصطلح العرب بالنجد علی الأرض المرتفعة.
6- 6) «وهاد» : جمع «وهدة» علی وزن غفلة ما انخفض من الأرض.
7- 7) «یخصب» : من مادة «خصب» علی وزن فکر کثیر النبات.
8- 8) «جناب» : ناحیة الدار أو المدینة.
9- 9) «تندی» : من مادة «نداوة» الرطوبة و هی هنا کنایة عن الجود والسخاء.
10- 10) «أقاصی» : جمع «أقصی» النقطة البعیدة.
11- 11) «ضواحی» : جمع «ضاحیة» المنطقة الخارجة عن المدینة.
12- 12) «مرملة» : من مادة «إرمال» الفقر ونفاد المتاع والزاد.

الْمُهْمَلَةِ» .

فقد کشف الإمام علیه السلام النقاب بهذا الدعاء عن سعة صدره وعمق نظره وعمومیة شفقته ورحمته، ذلک لأنّه أخذ بنطر الاعتبار المناطق القاصیة والدانیة ولم یهمل الدواب حتی حیوانات الصحراء الوحشیة، فدعاءه یشمل الجمیع وسؤاله یهدف حاجة الجمیع وهذا هو معنی لطف إمام المسلمین ورحمته العامّة.

وأضاف الإمام علیه السلام فی معرض مواصلة لطلب الماء ونزول المطر الذی یفیض بالخیر والبرکة قائلاً: «وَأَنْزِلْ عَلَیْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً (1)، مِدْرَاراً هَاطِلَةً (2)، یُدَافِعُ الْوَدْقُ مِنْهَا الْوَدْقَ (3)، وَیَحْفِزُ (4)الْقَطْرُ مِنْهَا الْقَطْرَ» .

کما واصل علیه السلام وصف الأمطار: «غَیْرَ خُلَّبٍ (5)بَرْقُهَا، وَلاَ جَهَامٍ (6)عَارِضُهَا، وَلاَ قَزَعٍ (7)رَبَابُهَا (8)، وَلاَ شَفَّانٍ (9)ذِهَابُهَا (10)» .

ثم واصل الإمام علیه السلام الدعاء قائلاً: «حَتَّی یُخْصِبَ لِإِمْرَاعِهَا (11)الُْمجْدِبُونَ (12)، وَیَحْیَا

ص:87


1- 1) «مخضلة» : من مادة «خضل» علی وزن عمل الیلل والرطوبة وتستخدم کنایة للسنوات الملیئة بالأمطارونزول البرکة.
2- 2) «هاطلة» : من مادة «هطل» علی وزن سطل السیول والقطرات الضخمة.
3- 3) «الودق» : حبات المطر، کما تطلق علی ذرات الماء الصغیرة التی تتعلق کغبار فی الجو حین نزول المطر، والمعنی الأول هنا أنسب.
4- 4) «یحفز» : من مادة «حفز» علی وزن نبض الدفع بشدّة.
5- 5) «خلّب» : بمعنی خارع من مادة «الخلّابة» وهی هنا إشارة إلی الغیوم ذات البرق والرعد الخالیة من المطر.
6- 6) «جهام» : بالفتح السحاب الذی لا مطر فیه.
7- 7) «قزع» : القطع الصغیرة المتفرقة من السحب.
8- 8) «رباب» : السحاب الأبیض (الذی لا مطر فیه) .
9- 9) «شفان» : الریاح الباردة أو الجو البارد المقرون بالرطوبة (لسان العرب ومعجم دهخدا) وأصلها شفون علی وزن فنون النظر بطرف العین أو النظرة باعتراض، ولعل اطلاقها هنا علی الریاح الشدیدة لأنّها تسبب انزاعاج الطرف المقابل.
10- 10) «ذهاب» : جمع «ذهبة» بالکسر الأمطار القلیلة.
11- 11) «امراع» : بمعنی کثیر البرکة.
12- 12) «مجدب» : من مادة الجفاف بسبب قطع الماء ویقال مجدب لمن اُصیب بالجفاف والقحط.

بِبَرَکَتِهَا الْمُسْنِتُونَ (1)، فَإِنَّکَ تُنْزِلُ الْغَیْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا، وَتَنْشُرُ رَحْمَتَکَ وَأَنْتَ الْوَلِیُّ الْحَمِیدُ (2)» .

فقد بیّن الإمام فی هذه العبارة تسع أوصاف أخری للأمطار المفیدة النافعة ذات الخیر والبرکة، حیث یبلغ عدد الصفات مع ذکر سابقاً 29 صفة، حقّاً إنّه لمن دواعی العجب والدهشة أن یستسقی الإمام علیه السلام ویوصف المطر بتسع وعشرین صفة بینما یصف ذلک الطالبون عادة بصفة، أو صفتین فیبتهلون إلی اللّه سبحانه وتعالی أن أسقنا الغیث المبارک، ومن هنا لا یشعر الإنسان سوی بالحیرة والذهول حین یتأمل عبارات أمیر المؤمنین علی علیه السلام، لقد استفرغ الإمام أقصی فصاحته وبلاغته فی هذه الخطبة وشرح طلبه إلی اللّه تعالی بما یعرّف الناس بلطف اللّه تعالی وفضله ورحمته ویفهمهم أنّ مسار النعمة ملییء بکثیر من الموانع بحیث لا یسعهم بلوغ الکمال المنشود ما لم تشملهم رعایة اللّه ورحمته، والحق یتعذر مثل هذا المنطق علی من لم یکن مؤیداً من عند اللّه ویؤید بروح القدس.

تفسیر ما فی هذه الخطبة من الغریب

نقرأ فی ختام هذه الخطبة:

«قَالَ السَّیدُ الشَّرِیفُ رِضیَ اللّهُ عَنْهُ قَولِهِ: (انصَاحَتْ جِبِالنَا) أی تَشَقَّقَتْ مَنَ الَمحولِ یُقالُ: لنصاحَ الثّوبُ إِذا انْشَقَّ وَیُقالُ أَیضاً: انصَاحَ انَّبتُ وَضَاحَ وَصَوّحَ إذا جَفَّ وَیَبِسَ کُلُّهُ وَقَولُهُ (ؤزهامَتْ دَوَابّنا) أی عَطِشَتْ وَالهُیَامُ: العَطَشُ، وَقَولُهُ (حَدَابِیرُ السّنِینَ) جمع جِدبار، وهیَ النّاقَةَ الّتِی أنضاهَا السّیرُ، فَشَبِّهُ بِها السنّة الّتی فَشا فِیها الجَدبُ، قَالَ ذو الرّمّةِ:

ص:88


1- 1) «المسنت» : هو المقحط.
2- 2) إقتباس من الآیة الشریفة: «وَهُوَ الَّذِی یُنَزِّلُ الْغَیْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَیَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِیُّ الْحَمِیدُ» (سورة الشوری / 48) . [1]

حِدابَیرُ مَا تَنْفَّکُ إلّا مُناخَةً عَلَی الخَسفِ أو نَرمِی بِها بَلَداً فَقْراً

وَقَولُهُ: (وَلاَ فَزَع ِرَبابَها) القَزَع: القَطعُ الصّغارُ المُتَفَرّقَة مِنَ السّحاب.

وَقَولُهُ: (وَلاَ شَفَّانٍ ذِهَابُها) فانِّ تَقدیرَهِ: ولاَ ذَاتَ شَفّان ذَهابُها، والشَفّان: الرّیحُ الباردَةُ، والذّهِابُ: الأَمطارُ اللّیّنة، فَخَذَفَ (ذاتَ) لِعلمِ السامِعِ بِهِ» .

تأمّلان

1 - صلاة الاستسقاء

صلاة الاستسقاء واحدة من التعالیم الإسلامیة القیمة والتی ذکرها عامّة فقهاء المسلمین من الفریقین فی کتبهم الفقهیة، ومن جملة الآداب التی أوردتها مصادر أتباع أهل البیت علیهم السلام بشأن هذه الصلاة أن یصوم الناس ثلاثة أیّام ویتجهون فی الیوم الثالث وهم صیام إلی خارج المدینة، ویأتون برکعتین علی غرار رکعتی عید الفطر والأضحی حیث تشتمل الرکعة الأولی علی خمس قنوتات والثانیة علی أربع قنوتات، ولکن یقنتون بالأدعیة الواردة بشأن الاستسقاء ونزول الرحمة والمغفرة بدلاً من الدعاء المأثور المختص بالعید، فیصلون علی النبی وآله قبل کل دعاء، فان فرغ الإمام من الصلاة قلّب العباء رجاء نزول المطر واستقبل القبلة وکبر بأعلی صوته مئة مرّة (ویکبر الناس معه) ثم یلتفت إلی الناس ویتّجه یمیناً ویسبّح اللّه سبحانه بصوت عال مئة مرّة ثم یلتفت شمالاً ویهلل بصوت عال مئة مرّة، ثم یستقبل الناس ویحمد اللّه مئة مرّة ویردد الناس من بعده، آنذاک یرفع یدیه إلی السماء ویتضرع مع الناس إلی اللّه سبحانه وتعالی یسأله الرحمة ویؤمن الناس علی دعائه.

وقد ورد فی بعض الروایات التصریح بأن یحملوا معهم إلی الصحراء الشیوخ و النساء والأطفال وحتی الحیوانات الجائعة العطشی وأن یفرّق بین الآباء وأولادهم بهدف التأثیر علی الناس حین یتّجهون إلی اللّه فی الدعاء (1).

فانّ تعذر علیهم القیام بکل هذه الأمور تابوا إلی اللّه واستغفروه من ذنوبهم ورفعوا أیدیهم

ص:89


1- 1) ذکرت آداب صلاة الاستسقاء فی أغلب المصادر الفقهیة وکتب الحدیث ومنها جواهر الکلام 12/127 وتحریر الوسیلة للإمام الخمینی، ج1 و ج5، [1] ص162 من وسائل الشیعة.

بالدعاء جمعة سائلین اللّه سبحانه العفو الرحمة.

حقّاً إنّها لمراسم ذات آثار عجیبة أدناها حالة التضرع والخشوع التی یعیشها الداعی إلی اللّه تعالی، فهی تربط الفرد بالذات الإلهیّة المقدّسة للّه سبحانه الرحمن الرحیم وتؤدّی إلی نزول الرحمة وشموله بها.

أضف إلی ذلک فانّ لهذه الصلاة أثارها الکبیرة فی تربیة النفوس والتوبة من الذنوب والعودة إلی الطهر والعفاف، والذی یستتبع أحیاناً نزول المطر الذی یعود علی الجمیع بالخیر والبرکة ویستفاد من الروایات أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان یدعو بدعاء الاستسقاء حین یشکو إلیه الناس من القحط والجدب، فکانت تنزل الأمطار بما یجعل الناس یطلبون توقفها (1).

وتفید القرائن أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام أورد هذه الخطبة بعد صلاة الاستسقاء حیث جاء فی بعض الروایات التی نقلت هذه الخطبة بصورة تامة العبارة: «اللّهُمّ إنّا خَرجنا إِلَیک» التی تکشف اتجاهه علیه السلام مع الناس إلی الصحراء ویختص هذا العمل عادة بصلاة الاستسقاء، وورد فی بعض الروایات أنّ علیاً علیه السلام بکی آخر هذه الخطبة وقد سأل اللّه سبحانه وتعالی بعبارات تفیض لوعة وحرقة.

وسیأتی تفاصیل ذلک حین شرحنا للخطبة 143 من نهج البلاغة الواردة بشأن صلاة الاستسقاء.

2 - الذنب وزوال البرکة

وردت عدّة أبحاث فی الکتب الفلسفیة والکلامیة والتفسیریة بشأن فلسفة الآفات والبلاء، فالذی یستفاد من القرآن الکریم هو تشدید البلاء علی الاُمم حین ظهور الأنبیاء بغیة إیقاظهم، حیث صرّح القرآن الکریم قائلاً: «وَمَا أَرْسَلْنَا فِی قَرْیَةٍ مِنْ نَبِیٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ یَضَّرَّعُونَ» (2).

ص:90


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/272؛ بحار الانوار 88/329. [1]
2- 2) سورة الاعراف / 94. [2]

فالآیة تشیر إلی أنّ هذا القانون عام ودائمی یهدف إلی الاستعداد لتقبل دعوة الأنبیاء، فکانت تقع الحوادث الألیمة من جانب اللّه طیلة تاریخ الاُمم وحین بروز الغفلة وذلک بهدف القضاء علی تلک الغفلة وایقاظ تلک الاُمم، وربّما تکون هذه الحوادث الألیمة والمفجعة نتیجة لذنوب الناس، والهدف أیضاً الفساد والإنابة والعودة إلی اللّه، فقد جاء فی الآیة القرآنیة: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا کَسَبَتْ أَیْدِی النَّاسِ لِیُذِیقَهُمْ بَعْضَ الَّذِی عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ» (1).

وهکذا یتضح أنّ أحد طرق التربیة الإلهیّة هو هذه الحوادث الألیمة الطبیعیة أو الاجتماعیة، والقحط یمکن أن یکون أحد هذه الحوادث، کما أشار الإمام علیه السلام إلی ذلک فی الخطبة المذکورة، حیث قال فی هذه الخطبة: «نَدْعُوکَ حِینَ قَنَطَ الْأَنَامُ، وَمُنِعَ الْغَمَامُ، وَهَلَکَ السَّوَامُ، أَنْ لاَ تُؤَاخِذَنَا بِأَعْمَالِنَا، وَلاَ تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا» .

وقد ورد هذا المطلب بصورة أوضح فی الخطبة 143، حیث حذر فیه الناس حین القحط بالنزوع عن المعاصی والاحتراز من الذنوب والإنابة إلی اللّه سبحانه وتعالی، واستشهد علیه السلام بآیات من سورة نوح بهذا الخصوص وهذا ما سیرد ذکره إن شاء اللّه فی محلّه.

ونختتم هذا الکلام بما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «إِذا فَشَتْ أَربَعَةٌ ظَهَرَتْ أَبَعَةٌ فَشَتْ لزِّنا ظَهَرَتْ الزَّلازِلُ وَإِذا أَمسَکَتْ الزَّکاهُ هَلَکَتْ المَاشِیَةُ وإِذا جَارِ الحُکَّامُ فِی القَضاءِ أَمسَکَ القَطَرُ مِنَ السَّماءِ وإِذا خَفَرتْ الذِّمَّةُ نَصرَ المُشرِکُونَ عَلَی المُسلِمِینَ» (2).

وورد فی الحدیث المعتبر والمعروف عن أبی ولّاد أنّ الإمام الصادق علیه السلام لما سمع الفتاوی غیر الصحیحة لأبی حنیفة فی بعض المسائل الفقهیة قال: «فِی مِثلِ هذا القَضاءِ وَشِبهِهِ تَحبِسُ السَّماءُ ماءَها وَتَمنَعُ الأَرضُ بَرکاتَها» (3).

ص:91


1- 1) سورة الروم / 41. [1]
2- 2) بحار الانوار 76/21، ح13. [2]
3- 3) وسائل الشیعة 13/256. [3]

ص:92

الخطبة المأة و سادسة عشرة

اشارة

(1)

مِنْ خُطْبِةٍ لَهُ علیه السلام

وفیها ینصح أصحابه

نظرة إلی الخطبة

تتألف هذ الخطبة فی الواقع من عدّة أقسام:

القسم الأول: وصف بلیغ للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله وجهاده العظیم فی إبلاغ الرسالة ودعوة الناس إلی الإسلام.

القسم الثانی: التوجه إلی الناس بالوعظ والإرشاد والنصیحة، المواعظ المؤثرة والبالغة.

القسم الثالث: الشکوی من الأصحاب ورجاء اللّه فی مفارقتهم وإلحاقه بصنوه من الأفراد.

القسم الرابع والأخیر: الذی یختص بالإخبار عن فتنة طاغ واستعراض جانب من جنایاته وجرائمه أملاً فی ایقاظ الناس والوقوف بوجه هذه الجرائم من خلال التوبة إلی اللّه سبحانه والعودة إلی وحدة ونبذ الخلافات والفرقة.

ص:93


1- 1) سند الخطبة: تتضمن الخطبة إشارة إلی موضوع خلافة الحجاج للکوفة وما إرتکب فیها من جرائم، وقد نقل أغلب المؤرخین والمحدّثین هذا الجانب من الخطبة ومنهم ابن عبد ربه فی العقد الفرید، والمسعودی فی مروج الذهب، والأزهری فی تهذیب اللغة، وابن الفقیه فی کتاب البلدان، وابن أثیر فی النهایة، والدیلمی فی الإرشاد (مصادر نهج البلاغة 2/259) .

ص:94

القسم الاوّل: عدم التوانی فی الجهاد

«أَرْسَلَهُ دَاعِیاً إِلَی الْحَقِ ّ وَشَاهِداً عَلَی الْخَلْقِ. فَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ غَیْرَ وَانٍ وَلاَ مُقَصِّرٍ، وَجَاهَدَ فِی اللّهِ أَعْدَاءَهُ غَیْرَ وَاهِنٍ وَلاَ مُعَذِّرٍ. إِمَامُ مَنِ اتَّقَی. وَبَصَرُ مَنِ اهْتَدَی» .

الشرح والتفسیر

کما صرّح البعض من شرّاح نهج البلاغة یبدو أنّ هذه الخطبة جزء من خطبة طویلة حیث تطرق الإمام علیه السلام فیها إلی تشجیع صحبه علی الجهاد والوقوف بوجه بغاة الشام وبین الأخطار التی تتهددهم فی حالة الضعف وترک الجهاد ومقاتلة العدو فأتم الحجّة علیهم.

ففی القسم الأول من هذه الخطبة أشار إلی الجهود الجبارة التی بذلها رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی إبلاغ الوحی ونشر الرسالة من أجل ترقیق قلوب المخاطبین فیتعرفوا علی أهمیّة هذا المیراث العظیم ولا یتوانوا فی الدفاع عنه والتصدی لهجمات خصوم الدعوة، فقال علیه السلام: «أَرْسَلَهُ دَاعِیاً إِلَی الْحَقِ ّ وَشَاهِداً عَلَی الْخَلْقِ» .

فالواقع أخلص الإمام علیه السلام الرسالة الإسلامیة التی نهض بها النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی هاتین العبارتین، قد دعی إلی الحق وإبلاغ الأحکام الشرعیة من جانب، وأشرف علی حسن تطبیقها من جانب آخر، أمّا شهادة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فقد قیل المراد بها الشهادة علی أعمال الناس أو الشهادة علی الأنبیاء فی یوم القیامة حیث ورد فی القرآن الکریم: «فَکَیْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ کُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِیدٍ وَجِئْنَا بِکَ عَلَی هَؤُلَاءِ شَهِیداً» (1).

ص:95


1- 1) سورة النساء / 41. [1]

لکن ظاهر کلام الإمام علیه السلام یشیر إلی أنّ المراد بالشهادة إطلاع النبی صلی الله علیه و آله علی أعمال الناس من أجل إمتثال الأوامر الإلهیّة فی هذه الدنیا، وبعبارة أخری فانّ وظیفة النبی صلی الله علیه و آله لا تقتصر علی إبلاغ الدعوة إلی الحق، بل تتبع إجراء وتطبیق تلک الدعوة وهذا هو معنی إمامته وولایته التشریعیة، ولا مانع طبعاً من الجمع بین المعنیین فی أنّه شاهد علی الأعمال فی هذا العالم وکذلک شاهد علیها فی العالم الآخر. ثم خاض فی بیان أوصاف نبی الإسلام صلی الله علیه و آله لیذکر ست صفات آخر فقال: صلی الله علیه و سلم فَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ غَیْرَ وَانٍ (1)وَلاَ مُقَصِّرٍ، وَجَاهَدَ فِی اللّهِ أَعْدَاءَهُ غَیْرَ وَاهِنٍ وَلاَ مُعَذِّرٍ (2). إِمَامُ مَنِ اتَّقَی. وَبَصَرُ مَنِ اهْتَدَی» .

فقد تضمنت هذه العبارة القصیرة جمیع الخصائص التی ینبغی توفرها فی القائد الشجاع المقتدر، عدم الضعف والوهن والتقصیر ومجاهدة العدو وعدم الاعتذار والتذرع، ومن جانب آخر فانّه عدّ النبی صلی الله علیه و آله إمام المتقین ووسیلة هدایة المبصرین، حیث یذود عنه الأفراد من المفسدین ویقصی المضلین المعاندین.

نعم، الکثیرون هم الأفراد الذین یخلقون الذرائع والحجج الواهیة بهدف التغطیة علی تقصیرهم وعدم جدّهم واجتهادهم، ویستبعد ذلک من زعیم شجاع ومدیر مدبّر فلا یتّجه صوب الحجج والذرائع.

فالعبارات المذکورة تشیر فی الواقع إلی مدی ضعف أهل الکوفة ووهنهم وترکهم للجهاد وتشبثهم بالذرائع من أجل الفرار من المسؤولیات، فالإمام صلی الله علیه و آله یذکرهم بأنّ نبیّکم لم یکن کذلک فما بالکم تقیمون علی هذا الحال.

ص:96


1- 1) «وانٍ» : من مادة «ونی» علی وزن وحی بمعنی الضعف والتثاقل، ویقال الوانی لمن یتباطیء فی الأعمال.
2- 2) «معذر» : من مادة «عذر» تقال لمن یعتذر ولا یثبت له عذر.

القسم الثانی: الآفات المظلمة من ورائکم

اشارة

و منها: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِیَ عَنْکُمْ غَیْبُهُ، إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَی الصُّعُدَاتِ تَبْکُونَ عَلَی أَعْمَالِکُمْ، وَتَلْتَدِمُونَ عَلَی أَنْفُسِکُمْ، وَلَتَرَکْتُمْ أَمْوَالَکُمْ لاَ حَارِسَ لَهَا وَلاَ خَالِفَ عَلَیْهَا، وَلَهَمَّتْ کُلَّ امْرِیءٍ مِنْکُمْ نَفْسُهُ، لاَ یَلْتَفِتُ إِلَی غَیْرِهَا. وَلَکِنَّکُمْ نَسِیْتُمْ مَا ذُکِّرْتُمْ، وَأَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ، فَتَاهَ عَنْکُمْ رَأْیُکُمْ، وَتَشَتَّتَ عَلَیْکُمْ أَمْرُکُمْ. وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللّهَ فَرَّقَ بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ، وَأَلْحَقْنِی بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِی مِنْکُمْ. قَوْمٌ وَاللّهِ مَیَامِینُ الرَّأیِ، مَرَاجِیحُ الْحِلْمِ، مَقَاوِیلُ بِالْحَقِ ّ، مَتَارِیکُ لِلْبَغْیِ. مَضَوْا قُدُماً عَلَی الطَّرِیقَةِ وَأَوْجَفُوا عَلَی الَْمحَجَّةِ، فَظَفِرُوا بِالْعُقْبَی الدَّائِمَةِ، وَالْکَرَامَةِ الْبَارِدَةِ» .

الشرح والتفسیر

یحذر الإمام صلی الله علیه و آله فی هذا المقطع من الخطبة کافة الأفراد الذین یبدون الضعف فی مجاهدة العدو الغادر والغاشم، ویتهربون من المسؤولیة من خلال اللجوء إلی بعض الحجج والأعذار، فی أنّ الآفاق المعتمة إنّما تکمن أمامکم، والمستقبل المظلم الذی یتسلط فیه العدو علیکم ویهیمن علی مقدراتکم وسیصبون علیکم جام غضبهم بما یجعلکم تفقدون صوابکم وعقلکم: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِیَ (1)عَنْکُمْ غَیْبُهُ، إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَی الصُّعُدَاتِ (2)تَبْکُونَ عَلَی أَعْمَالِکُمْ، وَتَلْتَدِمُونَ (3)عَلَی أَنْفُسِکُمْ» .

ص:97


1- 1) «طوی» : من مادة «طی» بمعنی الکتمان والاخفاء واُرید بها هنا الکتمان.
2- 2) «صعدات» : جمع «صعید» بمعنی بقعة الأرض والتراب والمواضع المرتفعة من الأرض، وهی هنا إشارة إلی الصحراء والجبل والسهل، وصرّح البعض بأنّ صعدات جمع صعد علی وزن دهل وصعدات جمع الجموع.
3- 3) «تلتدمون» : من مادة «لدم» علی وزن لفظ بمعنی الضرب وإلتدام بمعنی ضرب النساء صدورهن للنیاحة.

بل قد لا تکتفون بذلک: «وَلَتَرَکْتُمْ أَمْوَالَکُمْ لاَ حَارِسَ لَهَا وَلاَ خَالِفَ (1)عَلَیْهَا، وَلَهَمَّتْ کُلَّ امْرِیءٍ مِنْکُمْ نَفْسُهُ، لاَ یَلْتَفِتُ إِلَی غَیْرِهَا» .

فهذه العبارات تجسد حال الشخص الذی یبتلی بمصائب عظمیة بحیث ینسی کل شیء سوی إنقاذ نفسه، فقد إتّجه صوب الصحراء ویتابع لطم وجهه ورأسه یسکب دموعه ویتعالی صراخه، کما یسعی إلی التخلی عن أموال رغم مالها من أهمّیة لدیه ومدی الجهود التی بذلها من أجل الحفاظ علیها، إلی جانب ذلک فهو لا یعیر أهمّیة لمن خلفه حتی أنّه لینسی أعزّته وبطانته.

ویری بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ هذه العبارات ترتبط بأهوال یوم القیامة والتی وردت فی مختلف الآیات القرآنیة، لکن بالنظر إلی ذیل الخطبة الذی یتحدث عن جرائم الحجاج وسبب الخطبة الذی یفید ضعف أهل الکوفة فی جهاد العدو، فانّ المعنی المذکور یبدو بعیداً، والظاهر أنّها ناظرة إلی سلطة بنی اُمیة والجرائم المروعة التی إرتکبها الحجاج وأمثاله.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بالإشارة إلی المصدر الرئیسی الذی انبثقت منه هذه الحوادث: «وَلَکِنَّکُمْ نَسِیْتُمْ مَا ذُکِّرْتُمْ، وَأَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ، فَتَاهَ (2)عَنْکُمْ رَأْیُکُمْ، وَتَشَتَّتَ عَلَیْکُمْ أَمْرُکُمْ» .

لا ینبغی لکم أن تتصوروا أبداً بأنّ الحوادث الألیمة التی تنتظرکم إنّما تأتیکم بغتة، کلا لیس الأمر کذلک، فقد حذرتکم مراراً، وأدّیت لکم حق الوعظ والنصح، وکشفت لکم المستور، ثم أنذرتکم، لکن للأسف لم تعیروا وعظی ونصحی آدانا صاغیة، فقد نسیتم کل ما ذکرته لکم وتجاهلتم کل الإرشاد، ومن هنا لم تمارسوا ما ینبغی علیکم فی موقعه وأوانه ولم تعدوا الخطط اللازمة للوقوف بوجه الأعداء فلم تکن نتیجة ذلک الذی لا مثیل له فی التاریخ.

ثم قال الإمام علیه السلام: «وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللّهَ فَرَّقَ بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ، وَأَلْحَقْنِی بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِی مِنْکُمْ» .

إشارة إلی أنّه طالما تعذر إصلاحکم فیا لیتنی فارقتکم، ولیت القدر الإلهی أذن بالتحاقی

ص:98


1- 1) «خالف» : من مادة «خلوف» من یخلف فی الأهل والمال حین الخروج إلی السفر أو الحرب، کما وردت بمعنی الفرد الکثیر الخلاف، إلّاأنّ المراد هنا هو المعنی الأول.
2- 2) «تاه» : من مادة «تیه» الحیرة والقلق.

بمن ینسجم معی فی الأفکار والتطلعات.

ثم خاض علیه السلام فی شرح خصائص القوم الذین یراهم ینسجمون وأفکاره وتوجهاته: «قَوْمٌ وَاللّهِ مَیَامِینُ (1)الرَّأیِ، مَرَاجِیحُ (2)الْحِلْمِ، مَقَاوِیلُ بِالْحَقِ ّ، مَتَارِیکُ (3)لِلْبَغْیِ. مَضَوْا قُدُماً (4)عَلَی الطَّرِیقَةِ وَأَوْجَفُوا عَلَی الَْمحَجَّةِ، فَظَفِرُوا بِالْعُقْبَی الدَّائِمَةِ، وَالْکَرَامَةِ الْبَارِدَةِ» .

فهذه العبارات إشارة واضحة إلی النبی صلی الله علیه و آله وطائفة من صحبه ممن یتصف بالخصائص المذکورة الست، صفتان فی برامج الحیاة (نصرة الحق ومصارعة الظلم) وصفتان فی العمل (الانطلاق باتجاه الحق والسرعة من أجل بلوغ الهدف) وصفتان فی الفکر (التحلی بالفکر الناضج والعقل التام) ، فبیّن أیضاً نتیجة هذه الصفات والتی تتمثل بالسعادة المطلقة والحیاة الحرّة الکریمة.

مظلومیة أمیر المؤمنین علی علیه السلام

لا تقتصر المظلومیة علی أن یقتل الإنسان من قبل فئة ظالمة جبارة ناقضة للعهود وغادرة فی معرکة لیست متکافئة فحسب، بل من أسوأ نماذج المظلومیة أن یری الإنسان الکفوء والمدیر الناجح والآمر المقتدر والخبیر الماهر والسیاسی الیقظ والواعی نفسه وسط طائفة لا تنسجم وأفکاره وکفاءته ولا یسعها الحرکة باتجاهه، فهی تفعل علی العکس من کل ما یقول ولا تتحرک خلفه مهما حذرها وأنذرها، فهی فرقة مشتتة وجاهلة وضعیفة وهنة مسلوبة الإرادة، فابتلاء مثل هذا الزعیم بمثل هؤلاء الأتباع یؤدّی إلی ضیاع القیم وتناسی الأفکار، بل أبعد من ذلک یذهب بعض الجهّال إلی إتهام هذا الزعیم بعدم القدرة علی إدارة الأمور.

هذا هو أحد نماذج المظلومیة والذی عاشه أمیر المؤمنین علیه السلام فی عصره، وقد أشار إلی ذلک

ص:99


1- 1) «میامین» : جمع «میمون» بمعنی مبارک.
2- 2) «مراجیح» : جمع «مرجاح» علی وزن مثقال ذو حلم.
3- 3) «متاریک» : جمع «متراک» علی وزن مسواک من یترک الشیء تماماً.
4- 4) «قدم» : من «مادة» قدوم بمعنی السبق، وهی هنا إمّا ظرف بمعنی فی مسار السبق وإمّا معنی جمعی بمعنی السابقون.

الإمام نفسه علیه السلام فی أکثر من خطبة من خطب نهج البلاغة، فتارة یقول علیه السلام: «لَوَدِدْتُ وَاللّهِ أَنّ مُعَاوِیَةَ صَارَفَنی بِکُمْ صَرْفَ الدِّینَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّی عَشَرَةً مِنْکُمْ وَأَعْطَانِی رَجُلاً مِنْهُمْ» (1).

وأخری یقول: «مَلَکَتْنی عَیْنِی وَأَنَا جَالِسٌ، فَسَنَحَ لیَ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله و سلم، فَقُلْتُ: یَا رَسولَ اللّهِ، مَاذَا لَقِیتُ مِنْ أُمَّتِکَ مِنَ الْأَوَدِ وَاللَّدَدِ؟ فَقَالَ: «ادْعُ عَلَیْهِمْ» فَقُلْتُ: أَبْدَلَنی اللّهُ بِهِمْ خَیْراً مِنْهُمْ، وَأبْدَلَهُمْ بِی شَرًّا لَهُمْ مِنّی» (2).

ویقول فی الثالثة: «یا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلاَ رِجَالَ! حُلُومُ الْأَطْفَالِ، وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ، لَوَدِدْتُ أَنِّی لَمْ أَرَکُمْ» (3).

والحق لعلنا لا نعثر طیلة التاریخ علی زعیم وولی من أولیاء اللّه قد واجه فی مدّة قصیرة من حکومته بکل هذه العداوة والبغضاء والقسوة والجلادة والعنف والطغوی، وهذا أبشع أنواع المظلومیة، ومن هنا قیل: «علی علیه السلام أول مظلوم فی العالم» .

ص:100


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 97. [1]
2- 2) المصدر السابق، الخطبة 70. [2]
3- 3) المصدر السابق، الخطبة 27. [3]

القسم الثالث: الانتقام الإلهی

اشارة

«أَمَا وَاللّهِ لَیُسَلِّطَنَّ عَلَیْکُمْ غُلاَمُ ثَقِیفٍ الذَّیَّالُ الْمَیَّالُ. یَأْکُلُ خَضِرَتَکُمْ وَیُذِیبُ شَحْمَتَکُمْ إِیهٍ أَبا وَذَحَةَ!» .

الشرح والتفسیر

إختتم الإمام علیه السلام الخطبة باستعراض صریح لا لبس فیه للإخبار عن المصیر الأسود الذی ینتظر أهل الکوفة فقال: «أَمَا وَاللّهِ لَیُسَلِّطَنَّ عَلَیْکُمْ غُلاَمُ ثَقِیفٍ الذَّیَّالُ (1)الْمَیَّالُ (2). یَأْکُلُ خَضِرَتَکُمْ وَیُذِیبُ شَحْمَتَکُمْ» .

ثم أردفها بالقول: «إِیهٍ أَبا وَذَحَةَ! (3)» .

أجمع شرّاح نهج البلاغة علی أنّ المراد بغلام ثقیف هو الحجاج بن یوسف الثقفی الذی ینسب إلی قبیلة بنی ثقیف والذی ولّی الکوفة علی عهد عبدالملک بن مروان، کان مشهوراً بقسوته وتعطشه للدماء وقد إختاره عبدالملک بن مروان للانتقام من أهل الکوفة وإخماد الثورة ضد حکومة بنی اُمیة، وکما أخبر الإمام علیه السلام فی هذا الکلام، فهو لم یرحم أحد وقد نهب أموال الاُمة وسفک دماءها، وقد صور الإمام أوضاع الناس علی عهده بقوله: «یَأْکُلُ خَضِرَتَکُمْ وَیُذِیبُ شَحْمَتَکُمْ» .

ص:101


1- 1) «الذیال» : من ماده «ذیل» آخر کل شیء وتصطلح العرب بالذیال علی الشخص الذی تخط ذیال ثوبه علی الأرض، ولما کان هذا العمل یقوم به المتکبرون من الأفراد، فقد أطلقت الذیال علی الأفراد الذین یتصفون بالکبر والأنانیه.
2- 2) «المیّال» : من مادة «میل» الفرد الطائش.
3- 3) «وذحة» : کما سیرد فی المتن بعرة الشاة أو بولها والذی یلتصق بصوفها، کما ورد بمعنی الخنفساء، إلّاأنّ ابن أبی الحدید صرّح بأنّ المعنی الثانی لم یرد فی أی من لغات العرب، والحال إذا رجعنا إلی متون اللغة لرأینا أنّ أغلب أرباب اللغة ذکروا هذا المعنی لمفردة الوذحة.

لابدّ من الالتفات إلی أنّ «خضرة» وإن کانت بمعنی محصول الحقول والأراضی الزارعیة، لکنها هنا تشیر إلی کافة الأموال التی نهبها الحجاج والعبارة یذیب شحمتکم کنایة عن شدة الضغط الذی یتعرض له الناس فیصبحوا علی درجة من الضعف، وکأنّه لم یبق لهم سوی الجلد والعظم، وهذا هو مصیر الأفراد الذین یتمردون علی القائد الفذ والشفیق الرؤوف بالاُمة العادل معها کعلی علیه السلام. والمفردة «أیه» بالکسر والتنوین حسب تصریح أغلب أرباب اللغة تستخدم حین یراد تشجیع الشخص علی مواصلة الکلام أو العمل وایها بتنوین الفتح تستعمل حین یراد دعوة شخص للسکوت أوالامتناع عن العمل، بالنظر إلی أنّ «ایه» وردت فی نسخ نهج البلاغة بتنوین مکسور فالمفهوم ضاعف یا حجاج من ضغوطک علی الأفراد الطلحاء وضعفاء الإیمان جاحدی الحق الطغاة الذین یتمردون علی إمامهم العادل! وبعبارة أخری فانّ هذه المفردة کنایة فی أنّ اُولئک الأفراد یستحقون ما یحل بهم من عذاب إلهی، لا یعنی ذلک رضی الإمام علیه السلام بأی مقدار من ظلم الحجاج.

فالکلام أشبه بما نقوله لشخص إنّ هذا الدواء وإن کان مرّاً لکنه العلاج الذی یشفیک فلا یصغی لما یقال له، فان اشتدّ ألمه وتعالی صراخه وارتفع صوته نقول له: تألم أکثر! فهذه نتیجة عملک، فمن البدیهی أنّ مفهوم ذلک لیس رضانا بألمه ووجعه، بل معناه أنّ تلک هی النتیجة الطبیعیة لعدم إمتثاله لأوامر الأطباء والحکماء، وهذا الکلام شبیه ما أورده الإمام علیه السلام فی الخطبة 28 حیث قال: «أَلاَ وَإِنَّهُ مَن لا یَنْفَعُهُ الْحَقُّ یَضْرُّهُ الْبَاطِلُ، وَمَنْ لاَ یَسْتَقِیمُ بِهِ الْهُدَی، یَجُرُّ بِهِ الضّلاَلُ إِلَی الرَّدَی» .

وأمّا وذحة فقد صرحت أغلب المصادر اللغویة من قبیل (لسان العرب، مجمع البحرین، أقرب الموارد) ، أنّها تعنی الخنفساء، وقال البعض کصاحب القاموس والخلیل بن أحمد فی کتاب «العین» أنّها تعنی بعرة الحیوان بوله الذی یلتصف بصوفه.

وأمّا بشأن انتخاب کنیة «أبا وذحة» للحجاج فقد وردت فیها عدّة أراء ذکرتها التواریخ وشروح نهج البلاغة، أنسبها أنّ الحجاج رأی یوماً خنفساء قرب موضع صلاته فدفعها عنه، فأتته ثانیة فدفعها، فلما أتته ثالثة أمسکها بیده وعصرها فعضته فورمت یده فأدی به الورم إلی الموت، وکأنّ اللّه تعالی أراد أن یری هذا السفّاح مدی قدرته حیث قضی علیه وبواسطة

ص:102

أحقر مخلوقاته، علی غرار النمرود ذلک الطاغیة المعروف والذی ولجت أنفه بعوضة قضت علیه.

وقال البعض أنّ الحجاج کان یتنفر من الخنفساء فلم تکد تقع عینیه علیها حتی یأمر غلمانه بدفعها، ومن هنا إصطلحت علیه الناس أبا وذحة، ولا یبدو مناسباً أن نذکر هنا سائر ما ورد فی هذا الشأن وخلاصته أنّ الحجاج کان یشکو من مرض جنسی، فکان یعالج مرضه بالخنفساء، وقد صرّح ابن أبی الحدید بعد ذکره لهذه الروایات أنّ الإمام علیه السلام إختار هذه الکنیة للحجاج لأنّ عادة العرب جرت علی ذکر الفرد بکنیته حین الاحترام وذلک للعظمة، وإن أرادواتحقیره ذکروه بالکنیة أیضاً من قبیل کنیة عبدالملک بن مروان بأبی الذبّان، حیث کان الذباب یتجمع علی فمه لخبث رائحته (أو کان حتی الذباب ینفر منه کما صرّح بذلک البعض) ، وکذلک کنیة یزید بن معاویة بأبی زنة (1).

قال الشریف الرضی آخر هذه الخطبة: «الوذحة الخنفساء» وهذا القول یؤمی به إلی الحجاج وله مع الوذحة حدیث لیس هذا موضع ذکره.

من هو الحجاج؟

الحجاج من أبشع الطغاة الذین عرفهم التاریخ البشری، وقد ألفت مختلف القصص التی تعنی بجرائمه وجنایاته والتی یصعق لها کل من طیلع علیها، کان والی عبدالملک بن مروان علی الکوفة، وعبدالملک خامس الخلفاء بنی اُمیة، وقیل فی صفة الحجاج أنّه کان دمیم الخلقة کریه المنظر قصیر القامة ضعیف أعوج الرجلین أبرص ولعل سفکه للدماء وولعه بها ناشیء من تلک العقدة والشعور بالحقارة، وقد ذکر المؤرخ المعروف المسعودی فی «مروج الذهب» : «بأنّه کان یعترف بأنّ أعظم لذته فی سفک الدماء والإتیان بالأفعال التی لا یقوم بها الآخرون» (2).

ص:103


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/279. [1]
2- 2) مروج الذهب 3/125.

تولی إمارة الحجاز «مکة والمدینة» من قبل عبدالملک بن مروان لسنتین فارتکب أبشع الفضائع ومنها قصفه الکعبة بالمنجنیق، ثم وضع النار علی طائفة من صحابة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله المعروفین مثل جابر بن عبداللّه الإنصاری، وأنس بن مالک، وسهل بن الساعدی علی أنّهم اشترکوا فی قتل عثمان، ثم وجهه عبدالملک إلی العراق وولاه البصرة والکوفة، حکم الحجاج مدّة عشرین سنة وبلغ من قتلهم الحجاج مئة الف وعشرین من غیر الذین قتلوا علی یدیه وأعوانه فی الحروب، کان فی سجنه حین مات خمسون ألف رجل ثلاثین ألف وإمرأة ستة عشر ألف منهم عراة، وکان یضع النساء مع الرجال ولم یکن لسجنه سقف فکانوا یعانون من شدّة الحرارة فی الصیف والبرودة فی الشتاء.

وقال ابن الجوری: أنّ حرس السجن کانوا یرمون السجین بالحجر إن لاذ بالجدار من شدّة حرارة الشمس، وکان طعامهم قلیلاً من الخبز المخلوط بالملح والرماد، فکان یسود وجه من یدخل السجن بحیث لا تعرفه اُمه حین تأتی لرؤیته.

ولعل أبلغ کلام قیل فی الحجاج ما ذکره الشعبی حین قال: «لو أخرجت کل اُمة خبیثها وفاسقها وأخرجنا الحجاج بمقابلتهم لغلبناهم» .

وکان موته ذا عبرة أیضاً حیث أصیب بمرض شدید فکان یصرخ بشدّة من الألم حیث کانت تسیطر علیه برودة شدیدة فیضعون قربه ظروفاً مملوءة بالنار حتی کان یحترق جلده وهو یرتعش من البرد.

نعم، لقد احترق بنار الدنیا قبل نار الآخرة، توفی فی الرابعة والخمسین من عمره عام 95 ه فإلی جهنّم وبئس المصیر. (1)

ص:104


1- 1) مروج الذهب 36/166؛ وتاریخ ابن الجوزی حسب نقل سفینة البحار، وسیرة الأئمة، /244؛ وشرح نهج البلاغة للمرحوم التستری 6/12.

الخطبة المأة و سبعة عشرة

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لَهُ علیه السلام

یُوبّخ البخلاء بالمال والنفس

نظرة إلی الخطبة

یبدوا أنّ هذه الخطبة القصیرة هی جزء من خطبة طویلة فصلها المرحوم السید الرضی، ومن هنا لم یتضح سبب ووردها ولا أقسامها الأولی: والآخرة، مع ذلک فهی تشتمل علی عبارات مؤثرة ومعبّرة رغم قصرها.

ویستفاد من بعض المصادر (2)أنّ الإمام علیه السلام أورد هذه العبارات ضمن خطبة فی نهایة معرکة صفین فهی تناسب تلک الأجواء تماماً.

علی کل حال فانّ الإمام علیه السلام عرض بالذم المخاطبیه الذین یسحّون فی بذل الأموال والأنفس فی سبیل اللّه سبحانه وتعالی فقال لهم اعتبروا بتاریخ أسلافکم واتعظوا بحیاتهم کیف ترکوا کل شیء وارتحلوا عنه.

ص:105


1- 1) سند الخطبة: ورد فی مصادر نهج البلاغة أنّ أی مصدر غیر نهج البلاغة لم یتعرض لنقل هذه الخطبة، ویکتفی بالإشارة إلی کلام ابن أبی الحدید فی آخر هذه الخطبة وقال: جاء فی بعض الروایات «أصل اخوانکم» بدلاً من «أوصل إخوانکم» ویستفاد إجمالاً من هذا الکلام أنّ هناک مصدراً آخر لابن أبی الحدید فی هذه الخطبة.
2- 2) تمام نهج البلاغة، ص659.

ص:106

«فَلاَ أَمْوَالَ بَذَلُْتمُوهَا لِلَّذِی رَزَقَهَا، وَلاَ أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِی خَلَقَهَا. تَکْرُمُونَ بِاللّهِ عَلَی عِبَادِهِ، وَلا تُکْرِمُونَ اللّهَ فِی عِبَادِهِ! فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِکُمْ مَنَازِلَ مَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ، وَانْقِطَاعِکُمْ عَنْ أَوْصَلِ إِخْوَانِکُمْ» .

الشرح والتفسیر

الفکر والاعتبار

إستهل الإمام علیه السلام هذه الخطبة بذمّ طائفة من أصحابه وهو یعتب غلیهم ویوبخهم فقال: «فَلاَ أَمْوَالَ بَذَلُْتمُوهَا لِلَّذِی رَزَقَهَا، وَلاَ أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِی خَلَقَهَا» .

فالواقع هو أنّ اللّه تبارک وتعالی خالق الأنفس هو المالک الأصلی لهذه الأموال، وهذه الأموال والأنفس أمانة استودعها اللّه سبحانه الناس مدّة من الزمان، وإلّا أنّکم أخلدتم إلیها وإلتصقتم بها وکأنّکم أنتم المالک الأصلی والخالق لها، وهذا قمة الجهل بالواقع، فالعبارة تبدو متناسبة تماماً وإلقاء هذا الکلام بعد معرکة صفین، حیث کانت هناک فئة فی جیش الإمام علیه السلام لم تکن مستعدة للمخاطرة بأرواحها دفاعاً عن الحق ولم تکن حاضرة لبذل ما فی أیدیها من أموال لتجهیز جند الإسلام.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه قائلاً: «تَکْرُمُونَ (1)بِاللّهِ عَلَی عِبَادِهِ، وَلا تُکْرِمُونَ اللّهَ فِی عِبَادِهِ!» .

حقاً إنّ هذا الإزدواج لشیء عجیب فی أن یتوقع الإنسان أن یعزّه ویکرمه الناس علی أنّه عبد من عباد اللّه، بینما لا یکرم أی من عبید اللّه سبحانه، فهو لا ینفق شیئاً من ماله ولا یضحی

ص:107


1- 1) ورد الفعل تکرمون بصیغة الفعل الثلاثی المجرد المعلوم الذی یعنی الإکرام والاحترام، وهی هنا بمعنی انتظار الإکرام.

بنفسه من أجل الوقوف بوجه الظالم ونصرة المظلوم.

ثم یختتم الإمام علیه السلام کلامه بتحذیرهم وضرورة الاعتبار بمن سبقهم حیث سیجری علیهم نفس الحکم، وإن کانوا رحلوا فسترحلون ویأتی قوم آخرین یسکنون مساکنکم کما سکنتم منازل من کان قبلکم کما علیهم الإتعاظ بانفصام عری القرابة حتی مع أقرب إخوانکم، فقد رأیتم بأعینکم ذهاب بعض أعزتکم وقریباً ما تلحقون بهم: «فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِکُمْ مَنَازِلَ مَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ، وَانْقِطَاعِکُمْ عَنْ أَوْصَلِ إِخْوَانِکُمْ» .

فهذا دلیل آخر علی أنّ کافة الأموال والأنفس ودائع وهی مخلوقة جمیعاً للّه، وأنّه سبحانه یداول هذه الأموال والمساکن والمناصب بین الناس إلی أجل مسمی، والتاریخ أعظم شاهد علی هذا الأمر.

فلسنا أول من وطأنا هذا العالم، ولسنا بأخر من یغادره، إننا حلقة صغیرة ضمن هذه السلسلة الطویلة الممتدة منذ بدایة الخلیقة حتی نهایة العالم، فمن الغفلة ألا نری الحلقات السابقة واللاحقة، فلا نعرف موقعنا فی هذا العالم ونری هذه الدنیا خالدة دائمة لنا.

وزبدة الکلام فانّ الإمام علیه السلام کشف النقاب عن المکنون بهذه العبارات بما یوقظ النائم الغافل ویقض مضجع من یشهد سکر المال والمقام والجاه.

ص:108

الخطبة المأة و ثامنة عشرة

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

فی الصالحین من أصحابه

نظرة إلی الخطبة

کما ذکر فی سند هذه الخطبة فقد صرّح بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ الإمام علیه السلام أورد هذا الکلام بعد معرکة الجمل، حیث کان أصحاب الإمام علیه السلام وحدة واحدة وصفوف متراصة مطیعة لأوامره وتوجیهاته فحققوا نصراً سریعاً باهراً بعد أن قضوا بکل شجاعة وبسالة علی فلول العدو وأخمدوا نار الفتنة.

فققد أثنی الإمام علیه السلام علیهم بهذه العبارات البلیغة القصیرة، ثم أوصاهم بمواصلة السیر علی هذا النهج، وأخیراً إختتم خطبته بإشارة عابرة إلی مقام ولایته

ص:109


1- 1) سند الخطبة: نقل هذه الخطبة المؤرخ المعروف الطبری فی کتابه «تاریخ الاُمم والملوک» ، وابن قتیبة الدینوری فی کتاب «الإمام والسیاسیة» ، وابن أبی الحدید الذی قال فی شرح هذه الخطبة، قال علی علیه السلام هذا الکلام بعد معرکة الجمل، کما نقلها المدائنی، والواقدی فی کتبهما (مصادر نهج البلاغة 2/261) .

ص:110

«أَنْتُمُ الْأَنْصَارُ عَلَی الْحَقِ ّ، وَالْإِخْوَانُ فِی الدِّینِ، وَالْجُنَنُ یَوْمَ الْبَأْسِ، وَالْبِطَانَةُ دُونَ النَّاسِ. بِکُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ، وَأَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ. فَأَعِینُونِی بِمُنَاصَحَةٍ خَلِیَّةٍ مِنَ الْغِشِ ّ، سَلِیمَةٍ مِنَ الرَّیْبِ. فَواللّهِ إِنِّی لَأَوْلَی النَّاسِ بِالنَّاسِ!» .

الشرح والتفسیر

الأصحاب الأوفیاء

شحنت أغلب خطب نهج البلاغة بالذم الشدید بالنسبة لطائفة من أصحاب الإمام علیه السلام خاصة بعد معرکة صفین علی ما أبدوه من ضعف وفرقة وغدر فی میدان المعرکة، لکن فی هذه الخطبة التی وردت بعد معرکة الجمل، فانّ الإمام علیه السلام یعرض بالمدح والثناء البلیغ علی أصحابه الأوفیاء، ویدل هذا بوضوح علی أنّ الإمام علیه السلام کان علی الدوام یحث المحسنین من أصحابه ویرغبهم فی الأعمال الصالحة، کما کان یذم المسیئین منهم، لیخلص الفریق الأول فی عمله ویلتصق به، ویرعوی الفریق الثانی ویهم بإصلاح نفسه، فقد خاطب الإمام الصالحین من صحبه بأربع عبارات: «أَنْتُمُ الْأَنْصَارُ عَلَی الْحَقِ ّ، وَالْإِخْوَانُ فِی الدِّینِ، وَالْجُنَنُ (1)یَوْمَ الْبَأْسِ، وَالْبِطَانَةُ (2)دُونَ النَّاسِ» .

نعم، أنتم إخوانی فی الدین وقد أثبتم عدم تقصیرکم فی نصرة الحق، تقفون بکل شموخ فی میادین القتل بوجه الأعداء، إلی جانب ذلک فأنتم ثقة فی حفظ الأسرار المتعلقة بالحرب والسلام.

ثم قال علیه السلام: «بِکُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ، وَأَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ» .

ص:111


1- 1) «جنن» : جمع «جنة» علی وزن قوّة الوقایة.
2- 2) «بطانة» : من مادة «بطن» صاحب السر وخاصة الرجل.

إشارة إلی أنّ الناس علی صنفین: صنف أدار ظهره للحق وهبّ لمقارعته ولا سبیل هناک سوی التصدی له والوقوف بوجهه، وأنتم الأنصار فی هذا القتال، وصنف آخر أقبل علی الحق ولکن لا یتمتع بالمعرفة اللازمة والطاعة الکافیة، وسأعمل علی تربیتهم بواسطتکم لکی ینقادوا للّه ویطیعوه.

والخلاصة: فأنتم أنصاری فی مقاتلة العدو وکذلک فی المجال الفکری تجاه الصدیق، ثم نصح علیه السلام صحبه الأوفیاء بعبارتین عمیقتین المعنی فقال: «فَأَعِینُونِی بِمُنَاصَحَةٍ خَلِیَّةٍ مِنَ الْغِشِ ّ، سَلِیمَةٍ مِنَ الرَّیْبِ» .

ففی العبارة إشارة إلی نقطة مهمّة وهی أنّ بطانة الأمراء ومشاوری الحکّام غالباً ما یقدمون مصالحهم الشخصیة أو منافع قرابتهم ومن لهم علاقة بهم، ثم یعرضونها للحّکام علی أساس إرادة الخیر والخدمة، بل أحیاناً یطرحون بعض الاقتراحات التی لا یقتنعون بها أنفسهم وهذا ما یؤدّی بدوره إلی الإحباط والفشل فی أغلب الخطط، فالإمام علیه السلام یؤکد علی أصحابه الإخلاص فی ما یطرحونه من أراء واقتراحات وابعادها عن کل ما یشوبها وعدم الأخذ بنظر الاعتبار سوی الخیر وصلاح دین الحق وعباد اللّه.

وأخیراً یختتم خطبته بهذه العبارة: «فَواللّهِ إِنِّی لَأَوْلَی النَّاسِ بِالنَّاسِ!» .

ولعل هذه العبارة دلیل علی العبارات السابقة، أی إنّی إن توقعت نصرتکم ووقوفکم إلی جانبی فذلک کونی ولی أمر الناس باذن اللّه، بل إنّی أولی بهم حتی من أنفسهم، وهذا ما ینبغی أن یجعلکم تشعرون بالرضی والسرور علی إنّکم تسیرون خلف مثل هذا الإمام وتطیعون أوامره.

الثناء علی الأصحاب

أثنی الإمام علیه السلام ثناءاً بلیغاً علی أصحابه بعد معرکة الجمل، حیث استطاعوا بمدّة قیاسیة ومن خلال إتحادهم وصمودهم وقوّة إیمانهم من القضاء علی قدرات العدو وإخماد نار الفتنة فی تلک المنطقة الإسلامیة الحساسة (البصرة) .

ص:112

بینما توالت الخطب التی تعرض بالذمّ لطائفة أخری من أصحابه، وذلک بعد معرکة صفین التی انتهت بفشلهم بفعل اختلاف کلمتهم وضعفهم فی عقیدتهم وإرادتهم وعدم طاعتهم وإمتثالهم للأوامر، ولم یکن ذیک سوی فی اللحظات الأخیرة التی أوشک النصر فیها علی التحقق والرسوخ، فذلک الثناء وهذا الذم یفید أن کل ذلک یتمّ علی أساس حساب تخطیط ولیس هناک من تناقض فی الأمر، کما لم تطلق کلمة فی هذا المجال تتعارض والحکمة والمصلحة، الأمر الذی ربّما یلتبس علی البعض الذین لا یعلمون بشأن وورد هذه الخطبة.

النقطة الأخری هی أنّ الإمام علیه السلام عین فی هذا الکلام القصیر وظیفة الاُمة تجاه الحکومة، فیجب علیها من جانب الوقوف من أجل استقطاب الأوفیاء ودفع الحاقدین، ومن جانب آخر التمعن فی کافة الأنشطة السیاسیة والاجتماعیة والعسکریة وإبداء المقترحات النافعة والانتقادات البناءة بهذا الخصوص.

ثم یشیر فی آخر عبارة من هذه الخطبة إلی نقطة مهمّة وهی مسألة الولایة الإلهیّة، وهو الأمر الذی أکدّه النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی خطبة الغدیر حیث قال: «أَلَستُ أَولی بِکُم مِنْ أَنفُسِکُم» ، فردّ المسلمون: بلی یا رسول اللّه، ثمّ قال صلی الله علیه و آله: «مَنْ کُنتُ مَولاهُ فَهذا عَلِیٌّ مولاُ» . . هکذا قطع رسول اللّه صلی الله علیه و آله الأعذار علی جمیع من یتشبث بالحجج الواهیة ویختلق الذرائع لیقول الولی هنا بمعنی الصدیق.

والطریف فی الأمر أنّ العلّامة الأمینی صاحب کتاب الغدیر قد نقل العبارة: «أَلَستُ أَولی بِکُم مِنْ أَنفُسِکُم» من أربعة وستین محدّثاً ومؤرخاً إسلامیاً، وهذا ما یؤکد إتفاق الجمیع علی هذه العبارة (1)، فالإمام علیه السلام ذکر هذه النقطة فی الخطبة وأقسم قائلاً: «فَواللّهِ إِنِّی لَأَوْلَی النَّاسِ بِالنَّاسِ!» .

من الواضح أنّ المراد من هذ العبارة هو أنّ أوامر الإمام المعصوم کأوامر اللّه تبارک وتعالی مقدمة علی رغبات الناس، وإن کانت هذه الأوامر تصبّ فی طریق مصالح المجتمع ومنافعه.

ص:113


1- 1) الغدیر 1/371.

ص:114

الخطبة المأة و تاسعه عشرة

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

وقد جمع الناس وحضهم علی الجهاد فسکتوا ملیّاً

نظرة إلی الخطبة

کما ورد فی سند الخطبة فانّ الإمام علیه السلام أورد هذه الخطبة إثر إحدی حملات معاویة وجیش الشام علی أطراف العراق، فیعرض الإمام علیه السلام بالنقد اللاذع فی هذه الخطبة لذلک الصمت السلبی وعدم الإکتراث من قبل الناس تجاه تلک الأحدث المؤذیة التی تضعف معنویات جند الإسلام وروحیاتهم، وحین ردّ البعض علی الإمام علیه السلام إن سرت سرنا معک، شدد الإمام علیه السلام من ذمّهم وتوبیخهم علی أنّ وظیفة الإمام وزعیم الجماعة لیست فی أن یدفع بشخصه لإخماد أی تمرّد ومطاردة عدو وترک مرکز الحکومة الإسلامیة والتخلی عن مختلف وظائفه، فالإمام لابدّ أن یقوم بهذا العمل فی الأحداث الغایة فی الأهمیّة ویترک لبعض الأمراء الصغار ممن دونه التعامل مع سائر الأحداث، فهذا أحد الاُصول المسلمة للإدارة والإمرة وللأسف لم یکن أهل الکوفة علی علم بذلک أو أنّهم لم یریدوا العلم بذلک.

ص:115


1- 1) سند الخطبة: نقلت مصادر أخری هذه الخطبة وکذلک فسّر ابن الأثیر فی «النهایة» بعض المفردات من هذه الخطبة، کما أشار إلی بعض عباراتها. قال ابن أبی الحدید فی شرح لهذه الخطبة أنّ الإمام خطبها بعد معرکة صفین والنهروان بعد غارات أهل الشام علی مناطق البلاد الإسلامیة، وهذا یفید وجود مصدر آخر لابن أبی الحدید غیر الذی إعتمده السید الرضی (مصادر نهج البلاغة 2/263) .

ص:116

القسم الأول: المخلّفون الضعفاء والجهّال

«فَقَالَ علیه السلام: مَا بَالُکُمْ أَمُخْرَسُونَ أَنْتُمْ؟

فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: یَا أَمِیرَالْمُؤْمِنِینَ، إِنْ سِرْتَ سِرْنَا مَعَکَ.

فَقَالَ علیه السلام: مَا بَالُکُمْ! لاَ سُدِّدْتُمْ لِرُشْدٍ! وَلاَ هُدِیتُمْ لِقَصْدٍ! أَفِی مِثْلِ هذَا یَنْبَغِی لِی أَنْ أَخْرُجَ؟ وَإِنَّمَا یَخْرُجُ فِی مِثْلِ هذَا رَجُلُ مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِکُمْ وَذَوِی بَأْسِکُمْ، وَلاَ یَنْبَغِی لِی أَنْ أَدَعَ الْجُنْدَ وَالْمِصْرَ وَبَیْتَ الْمَالِ وَجِبَایَةَ الْأَرْضِ، وَالْقَضَاءَ بَیْنَ الْمُسْلِمیْنَ، وَالنَّظَرَ فِی حُقُوقِ الْمُطَالِبینَ، ثُمَّ أَخْرُجَ فِی کَتِیبَةٍ أَتْبَعُ أُخْرَی، أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ الْقِدْحِ فِی الْجَفِیرِ الْفَارِغِ، وَإِنَّمَا أَنا قُطْبُ الرَّحَی، تَدُورُ عَلَیَّ وَأَنَا بِمَکَانِی، فَإِذَا فَارَقْتُهُ اسْتَحَارَ مَدَارُهَا، وَاضْطَرَبَ ثِفَالُهَا. هذَا لَعَمْرُ اللّهِ الرَّأْیُ السُّوءُ!» .

الشرح والتفسیر

حین بلغ الإمام علیه السلام هجوم أعوان معاویة علی بعض المناطق الحدودیة، جمع الناس وأمرهم بالحرکة إلی الجهاد، لکن وکما ورد فی الخطبة المذکورة سکت الناس ولم یجیبوه، فامتعظ الإمام علیه السلام وتأثر شدیداً فقال: فَقَالَ علیه السلام: «مَا بَالُکُمْ أَمُخْرَسُونَ أَنْتُمْ؟

فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: یَا أَمِیرَالْمُؤْمِنِینَ، إِنْ سِرْتَ سِرْنَا مَعَکَ» .

فردّ علیهم الإمام بعنف بعدم التوفیق وبلوغ الهدف (1)، فلا ینبغی للإمام الحرکة فی مثل تلک

ص:117


1- 1) هنالک خلاف بین شرّاح نهج البلاغة [1]بشأن هذه الجملة هل هی جملة خبریة تخبر عن وضع جماعةالکوفة الضعیفة والمسلوبة الإرادة علی أنّهم سلکوا سبیلاً لا یدعهم یتوفقون فی حیاتهم أبداً، أم أنّها جملة إنشائیة ونوع من الاشمئزاز، یبدو المعنی الثانی هو الأنسب.

الظروف: «فَقَالَ علیه السلام: مَا بَالُکُمْ! لاَ سُدِّدْتُمْ (1)لِرُشْدٍ! وَلاَ هُدِیتُمْ لِقَصْدٍ! أَفِی مِثْلِ هذَا یَنْبَغِی لِی أَنْ أَخْرُجَ؟ وَإِنَّمَا یَخْرُجُ فِی مِثْلِ هذَا رَجُلُ مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِکُمْ وَذَوِی بَأْسِکُمْ» .

فلم یکم متعارفاً فی أی مکان من الدنیا ولا عصر من العصور أن ینهض زعیم فرقة أو رئیس دولة بشخصه للتدخل فی حادثة صغیرة وبلبلة معینة، بل عادة ما یوجه لها أحد آمریه برفقة مجموعة من العناصر الشجاعة والوفیة من أجل إخماد الفتنة وحل النزاع، وذلک لأنّ التخلی عن مرکز الحکومة من شأنه أن یقود إلی عدّة مخاطر جانبیة، ومن هنا واصل الإمام کلامه قائلاً: «وَلاَ یَنْبَغِی لِی أَنْ أَدَعَ الْجُنْدَ وَالْمِصْرَ وَبَیْتَ الْمَالِ وَجِبَایَةَ الْأَرْضِ، وَالْقَضَاءَ بَیْنَ الْمُسْلِمیْنَ، وَالنَّظَرَ فِی حُقُوقِ الْمُطَالِبینَ، ثُمَّ أَخْرُجَ فِی کَتِیبَةٍ (2)أَتْبَعُ أُخْرَی، أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ (3)الْقِدْحِ (4)فِی الْجَفِیرِ (5)الْفَارِغِ (6)» .

فقد أشار الإمام علیه السلام بهذه العبارة إلی ستة جوانب تتضمن الوظائف المهمّة لرئیس الدولة یمکنها الإنهیار جمیعاً فیما إذا شغر مرکز الحکومة من ذلک الرئیس، وهی الاشراف علی الجند وأمور العسکر والجیش والحفاظ علی مرکز الدولة وحفظ بین مال المسلمین وجبایة الخراج والضرائب والقضاء بینهم والدفاع عن حقوق عنهم.

فمن البدیهی یمکن لرئیس الدولة أن یشخص بنفسه للتعامل مع الحوادث الضحمة ویهب لمواجهة العدو، أمّا فی غیرها من الحوادث ذات الطبیعة العادیة، فیمکن لغیره التعامل معها، وتشیر سیرة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه کان یشخص بنفسه الشریفة فی الغزوات المهمّة المصیریة، فیتزعم الجند، وکان ینصب بعض الأفراد فی الغزوات العادیة فیسلمه الرایة

ص:118


1- 1) «سددتم» : من مادة «سد» المعروف المعنی ولما کان السد هو البناء المحکم فالتسدید یعنی الإحکام والترسیخ وسدده وفقه للسداد.
2- 2) «کتیبة» : طائفة من الجیش قال بعض أرباب اللغة یتراوح عددها من مئة إلی ألف.
3- 3) «تقلقل» : الحرکة من جانب إلی آخر.
4- 4) «قدح» : بکسر القاف السهم أو القطعة من الخشب وقیل أیضاً هو السهم قبل أن یراش وینصل.
5- 5) «جفیر» : الکنانة التی توضع جانب الفرس وتوضع فیها السهام.
6- 6) «الفراغ» : بمعنی الخالی.

ویوصیه ببعض التعالیم کما یوصی الجیش بطاعة أوامره، وهکذا کانت تحصل أغلب الغزوات فی تاریخ الإسلام والتی یصطلح علیها عادة بالسریة، غایة ما فی الأمر أنّ صحابة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله کانوا یأتمرون بأوامره بحیث یطیعونه فی کل ما یقول ولم یکن یرد علیه أحد بأن سرت سرنا معک.

نعم، صحیح لکل قسم مسؤول علی أساس تقسیم وتنظیم شؤون البلاد، لکن لا یخفی الدور الحیوی الذی یلعبه الرئیس المشرف علی اُولئک المسؤولین فی تقدم الأعمال والنهوض بها قدماً، هذا الأمر واضح تماماً، بل هو من البدیهیات، لکن اُولئک المتقاعسون المسلوبون الإرادة والضعاف الذین یتذرعون بمختلف الذرائع من أجل إجتناب مواجهة العدو فیشترطون شرطاً غایة فی البعد عن المنطق لخروجهم، وبعبارة أخری شرطهم هو تعلیق علی المحال، ویواصل الإمام علیه السلام کلامه من خلال تشبیه رائع لشخصه بقطب الرحا ومحورها والذی یفید ضرورة بقائه فی موضعه (بحیث تدور کل الأمور من خلاله) فان إبتعد هذا المحور عن مرکزه اختلت حرکة جمیع الأشیاء: «وَإِنَّمَا أَنا قُطْبُ الرَّحَی، تَدُورُ عَلَیَّ وَأَنَا بِمَکَانِی، فَإِذَا فَارَقْتُهُ اسْتَحَارَ (1)مَدَارُهَا، وَاضْطَرَبَ ثِفَالُهَا» .

فقد جرت العادة سابقاً علی الاستفادة من الرحی الیدویة أو المائیة والهوائیة من أجل طحن الحنطة والشعیر، وکانت بنیة هذه الآلیات بسیطة وواضحة، فقد کانت هناک حجرة ثابتة فی الأسفل وأخری تتحرک فی الأمام بواسطة حرکة الید أو ضغط الماء الذی یعبر من تحتها أو الریاح، وکان وسط الحجرین قطب یدور حول محوره الحجر لو کسر القطب لخرج الحجر عن مساره ووقع جانباً إلی جانب ذلک کان هناک جلد کبیر أو قطعة من القماش تبسط تحت الرحا لجمع الدقیق بسهولة، حیث إذا خرج الدقیق من وسط الحجرین وقع علیه، ولو زال ذلک القطب والمحور الأصلی لوقفت الرحا عن الحرکة ووقع الحجر علی تلک القطعة من القماش أو الجلد وإضطراب.

هذا ما أشار إلیه الإمام بقوله: «اسْتَحَارَ مَدَارُهَا، وَاضْطَرَبَ ثِفَالُهَا» ، إضافة إلی ذلک فانّ

ص:119


1- 1) «استحار» : من مادة «تحیر وحیرة» بمعنی التردد والاضطراب وتطلق علی السحب الثقیلة التی لا تدعها الریاح تتحرک فی مسارها وکأنّها تبقی مضطربة مترددة.

الشیء الذی یحرک الحجر فی الرحا هو ذلک الواقع فی وسط الحجر والذی یتصل من الأسفل بمحور أکبر یصب علیه الماء من جانب ویحرکه، وهکذا یکون القطب عامل حرکة وعامل تنظیم، وهذه هی منزلة الإمام والقائد.

وأخیر یخلص الإمام إلی النتیجة صریحة بأنّ ذلک الاقتراح مرفوض تماماً فی أنّ یشخص بنفسه لإطفاء کل فتنة هنا وهناک تارکاً لمرکز الحکومة: «هذَا لَعَمْرُ اللّهِ الرَّأْیُ السُّوءُ!» .

حقاً أنّه لإقتراح فاشل بشهادة کل مدیر ومسؤول له علم بهذه الأمور فی أنّ القائد لا یفارق موقعه ومرکز ثقله ومهامه سوی فی الحوادث المهمّة.

ص:120

القسم الثانی: لولا رجآء الشهادة

اشارة

«وَاللّهِ لَوْلاَ رَجَائِی الشَّهَادَةَ عِنْدَ لِقَائِی الْعَدُوَّ - وَلَوْ قَدْ حُمَّ لِی لِقَاؤُهُ - لَقَرَّبْتُ رِکابِی ثُمَّ شَخَصْتُ عَنْکُمْ فَلا أَطْلُبُکُمْ مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَشَمَالٌ؛ طَعَّانِینَ عَیَّابِینَ، حَیَّادِینَ رَوَّاغِینَ. إِنَّهُ لاَغَنَاءَ فِی کَثْرَةِ عَدَدِکُمْ مَعَ قِلَّةِ اجْتَِماعِ قُلُوبِکُمْ لَقَدْ حَمَلْتُکُمْ عَلَی الطَّرِیقِ الْواضِحِ الَّتی لاَ یَهْلِکُ عَلَیْهَا إِلاَّ هَالِکٌ، مَنِ اسْتَقَامَ فَإِلَی الْجَنَّةِ، وَمَنْ زَلَّ فَإِلَی النَّارِ» .

الشرح والتفسیر

شدد الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة من ذمّه وتوبیخه لأهل الکوفة وعین نقاط ضعفهم وأعرب عن یأسه وعدم أمله فی مستقبلهم وعاقبة أمرهم، فقال: «وَاللّهِ لَوْ لاَ رَجَائِی الشَّهَادَةَ عِنْدَ لِقَائِی الْعَدُوَّ - وَلَوْ قَدْ حُمَّ (1)لِی لِقَاؤُهُ - لَقَرَّبْتُ رِکابِی ثُمَّ شَخَصْتُ عَنْکُمْ فَلا أَطْلُبُکُمْ مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَشَمَالٌ» .

العبارة «مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَشَمَالٌ» ، إشارة إلی مراده أننی لم آتی إلیکم أبداً، فالعبارة أشبه بما ورد فی إحدی کلماته علیه السلام حین أقترح علیه عدم التسویة فی العطاء من بیت مال المسلمین، فقال علیه السلام: «أَتَأْمُرُونِّی أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِیمَنْ وُلِّیتُ عَلَیْهِ! وَاللّهِ لَاأَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِیرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِی السَّمَاءِ نَجْماً!» (2).

ص:121


1- 1) «حمّ» : من مادة «حم» علی وزن غم بمعنی قدّر، وعلیه فمفهوم العبارة قد حم لی لو قدر لی مثل هذا الأمر، أو إنّ وفقت لهذا الأمر.
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 126. [1]

تطالعنا هنا ثلاثة أسئلة تطرح نفسها:

الأول: کیف قال الإمام علیه السلام لولا رجائی الشهادة لما مکثت بینکم ولترکتکم، بینما ذکر سابقاً لا ینبغی لی أن أدع الجند والمصر وبیت المال وجبایة الأرض والقضاء بین المسلمین والنظر فی حقوق المطالبین، فکیف یمکن التوفیق بین هذین الأمرین؟

الثانی أنّ الإمام علیه السلام قد سمع بشارة رسول اللّه صلی الله علیه و آله له بالشهادة وکان یعلم أنّه سیقتل علی یدی أشقی الآخرین عبدالرحمن بن ملجم، فکیف قال لولا رجائی الشهادة عند لقائی العدو؟

الثالث: کیف یستطیع الإمام علیه السلام التخلی عن إمامته وزعامته ویخرج من الناس؟

وللإجابة علی السؤال الأول لابدّ من القول أن نیل فیض الشهادة کان یشکل أحد الأهداف المقدّسة للإمام علیه السلام فی بقائه وسط تلک الفئة ولا مانع من أن یکون له أهداف أخری، حیث بین ائر تلک الأهداف فلم تعد هناک من حاجة لدیه لذکرها هنا (1).

ونقول فی الردّ علی السؤال الثانی إنّ لقاء العدو یشتمل علی مفهوم غایة فی السعة وإن بدی فی الوهلة الاُولی یجسد مواجهة الخصم فی ساحة المعرکة والذی یمثل حزءاً من ذلک اللقاء، ونعلم أنّ شهادة الإمام علیه السلام کانت أحد مصادیق ذلک.

وامّا السؤال الثالث: فیمکن الإجابة علیه بالقول بأنّ ترک فئة فاسدة لا یمکن إصلاحها لا یعنی التخلی عن وظائف الإمامة أبداً، بل یمکن للإمام علیه السلام أن یتّجه صوب جماعة أعظم إستعداداً، علی غرار ما فعله رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین هاجر من مکة إلی المدینة.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بذکر الأدلّة التی تدعوه إلی عدم الإرتیاح منهم ویبیّن لهم نقاط ضعفهم علی أمل الإلتفات إلی أنفسهم فیهموا باصلاحها فقال: «طَعَّانِینَ عَیَّابِینَ، حَیَّادِینَ (2)رَوَّاغِینَ (3)» .

ص:122


1- 1) للأسف وحسب علمنا فانّ شرّاح نهج البلاغة لم یطرقوا هذا البحث ویردوا علی هذه الأسئلة، وشذ منهم أحد أعلام القرن السادس هو المرحوم البیهقی الذی أجاب عن السؤال الثالث بأنّ الإمام علیه السلام قال: ذلک بغض النظر عن مقام الإمامة، وإلّا فانّ مقام الإمامة یقتضی من الإمام أن یکون بین الناس مهما کانت الشرائط، وبعبارة أخری فانّ الإمام علیه السلام قال لولا مقام الإمامة وکنت حراً فی هذا الأمر لترکتکم.
2- 2) «حیادین» : من مادة «حید» علی وزن حرف بمعنی الانحراف ویقال الحیّاد، لمن ینحرف کثیراً عن جادةالحق.
3- 3) «رواغین» : من مادة «روغ» علی وزن ذوق بمعنی الذهاب إلی هذا الطرف وذاک وهی کنایة عن المکر والحیلة، ومن هنا تستخدم هذه المفردة بشأن الثعلب، فیقال (راغ الثعلب) .

فهذه الصفات الأربعة علی درجة من القبح والبشاعة بحیث یکفی وجود واحدة منها فی فرد لتدعو للنفرة منه والابتعاد عنه، فضلاً عن اجتماعها جمیعاً فیه، أی أنّ جلّ همّه الالتفات إلی المعایب والمثالب، بل یعطیها حجماً أکثر من واقعها فهو لا ینفک عن طرحها وتکرارها حتی شعر المقابل بالیأس، فلا یری الحق حتی یولی له ظهراً فتختلط حیاته بالمکر والأسی، فکیف لرجل صالح أن یعیش وسط مثل هذه الفئة فضلاً عن الإمام المعصوم علیه السلام الزعیم للخلق والذی لیست أمامه من نتیجة لهذا الوضع المأساوی سوی الحزن والمعاناة، ومن هنا یرجو الإمام علیه السلام مفارقتهم والانفصال عنهم.

ثم أضاف الإمام علیه السلام بأنّه إلی جانب تلک العیوب الشخصیة هناک عیب اجتماعی کبیر فیهم والذی یتمثل بعدم جدوی کثرة عددهم مع قلّة اجتماع أفکارهم: «إِنَّهُ لاَغَنَاءَ فِی کَثْرَةِ عَدَدِکُمْ مَعَ قِلَّةِ اجْتَِماعِ قُلُوبِکُمْ» .

صحیح أنّ عددکم یبدو کثیراً فی الظاهر، ولکن حیث تغیب الوحدة التی ینبغی أن تجمع قلوبکم وتوحدها وحیث ینفرد کل بإرادنه وقراره، فلم یعد هناک من خیر یؤمل فیکم، أو بعبارة أخری فانّ اجتماعکم الموتی وتجمعکم تجمع الوحشة.

ثم إختتم الإمام علیه السلام الخطبة بقوله أنّی قمت بوظیفتی تجاهکم: «لَقَدْ حَمَلْتُکُمْ عَلَی الطَّرِیقِ الْواضِحِ الَّتی لاَیَهْلِکُ عَلَیْهَا إِلاَّ هَالِکٌ، مَنِ اسْتَقَامَ فَإِلَی الْجَنَّةِ، وَمَنْ زَلَّ فَإِلَی النَّارِ» .

فالإمام علیه السلام أوضح بهذه العبارة حقیقة مفادها أنّی قلت لکم کل ما ینبغی قوله وأتممت علیکم الحجة وإن تمنیت الخروج عنکم ومفارقتکم فذلک لا یعنی أنّی قصرت فی مقام بوظیفتی تجاهکم، ولکن لأسف إنّکم لستم بالأفراد للائقین الذین یسعکم الاستفادة من البرامج التربویة التی یطرحها مرشد ربّانی شفیق علیکم.

القلوب الواعیة

أورد مؤرخ القرن الثالث المعروف أبو اسحاق الثقفی فی کتاب «الغارات» فی ذیل هذه الخطبة حین خطب الإمام علیه السلام هذه الخطبة قام «جاریة بن قدامة السعدی» فقال: «یا أَمِیرَالمُؤمِنِینَ لاأَعدَمَنا اللّهُ نَفْسَکَ وَلا أَرانَا فِرَاقَکَ أَنَا لِهؤلاء القَومِ فَسَرِّحنِی إِلَیهِم» .

ص:123

فسّر الإمام علیه السلام لکلامه وأثنی علیه، من جانب آخر قام إلیه «وهب بن مسعود الخثعمی» فقال: «أَنَا لَهُم» .

فأمر الإمام علیه السلام جاریة أن یسیر بألفین إلی البصرة والخثعمی بألفین إلی الکوفة، ثم أمرهما بتتبع بسر بن أبی ارطاة أینما وجدوه (1).

والذی یستفاد من هذا البحث التاریخی:

أولاً: إنّ شدّة کلمات الإمام علیه السلام کان لها فی خاتمة المطاف الأثر البالغ فی بعض القلوب الواعیة فاستعد أصحابها لمواجهة الأعداء.

ثانیاً: یتضح أنّ هذه الخطبة قد وردت قبل المرحوم الرضی فی کتاب «الغارات» .

ص:124


1- 1) الغارات 2/627.

الخطبة المأة و عشرون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

یذکر فضله ویعظ الناس

نظرة إلی الخطبة

بدایة الکلمات إشارة إلی وجود أبواب الحکم وکنوز العلم لدی أهل البیت علیهم السلام الذین تعلموا من رسول اللّه صلی الله علیه و آله تبلیغ الرسالة وتفسیر کلمات اللّه سبحانه وتعالی، ثم خاض الإمام فی إسداء مواعظه ونصائحه النافعة وحذر الناس فی ضرورة الاعتبار بالآخرین والخوف من نار جهنّم وأن یعملوا ما یجعل الناس یذکرونهم بکل خیر بعد إیمانهم، فالسمعة الحسنة أفضل من الأموال تلحق الإنسان بعد وفاته، الأموال التی قد لا یعرف الورثة عادة قیمتها ولا یشکرون جامعها.

ص:125


1- 1) سند الخطبة: جاء فی کتاب مصادر نهج البلاغة أنّ سلیم بن قیس الذی عاش قبل السید الرضی نقل القسم الأول من هذه الخطبة فی کتابه، کما وردت سائر أجزائها بصورة متفرقة فی کتاب «غرر الحکم» ، ولما کان هناک تفاوت بین بعض عبارتها، فانّ ذلک یعنی أنّها أخذت من کتاب آخر غیر نهج البلاغة، کما قال ابن أبی الحدید فی شرح بعض عبارات هذه الخطبة نقلها جماعة بشکل آخر وهذا یشیر إلی أنّه کان لدیه مصدراً آخر (مصادر نهج البلاغة 2/264) . [1]

ص:126

«تَاللّهِ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِیغَ الرِّسَالاتِ، وَإِتْمَامَ الْعِدَاتِ، وَتَمَامَ الْکَلِمَاتِ. وَعِنْدَنَا - أَهْلَ الْبَیْتِ - أَبْوَابُ الْحُکْمِ وَضِیَاءُ الْأَمْرِ. أَلاَ وَإِنَّ شَرَائِعَ الدِّینِ وَاحِدَةٌ، وَسُبُلَهُ قَاصِدَةٌ. مَنْ أَخَذَبِها لَحِقَ وَغَنِمَ، وَمَنْ وَقَفَ عَنْهَا ضَلَّ وَنَدِمَ. إِعْمَلُوا لِیَوْمٍ تُذْخَرُ لَهُ الذَّخَائِرُ، وَتُبْلَی فِیهِ السَّرَائِرُ. وَمَنْ لاَ یَنْفَعُهُ حَاضِرُ لُبِّهِ فَعَازِبُهُ عَنْهُ أَعْجَزُ، وَغَائِبُهُ أَعْوَزُ. وَاتَّقُوا ناراً حَرُّهَا شَدِیدٌ، وَقَعْرُهَا بَعِیدٌ، وَحِلْیَتُهَا حَدِیدٌ، وَشَرَابُهَا صَدِیدٌ. أَلاَ وَإِنَّ اللِّسَانَ الصَّالِحَ یَجْعَلُهُ اللّهُ تَعَالَی لِلْمَرْءِ فِی النَّاسِ؛ خَیْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ یُورِثُهُ مَنْ لاَ یَحْمَدُهُ» .

الشرح والتفسیر

المواعظ القیمة

إستهل الإمام علیه السلام خطبته بالحدیث عن العلوم التی تعلمها من رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال: «تَاللّهِ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِیغَ الرِّسَالاتِ، وَإِتْمَامَ الْعِدَاتِ، وَتَمَامَ الْکَلِمَاتِ» .

المراد بتبلیغ الرسالات أسالیب نشر المعارف الإسلامیة وأحکام الدین بمختلف الطرق وایصالها إلی الناس، إشارة إلی أنّی لم أتعلم الرسالات الإلهیّة فحسب، بل تعلمت من رسول اللّه صلی الله علیه و آله طرق التبلیغ، فکنت لا أنثنی فی هذا السبیل.

والمراد باتمام العدات «الوفاء بالعهود» تلک وعود اللّه تبارک وتعالی بصورة عامّة بالنسبة لجمیع المؤمنین والوعود بصورة خاصة بالنسبة له علیه السلام، کما ورد فی القرآن الکریم: «مِنْ الْمُؤْمِنِینَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَی نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِیلاً» (1).

ص:127


1- 1) سورة الأحزاب / 23. [1]

یمکن أن یکون هذا الوعد الإلهی هو الوعد بالشهادة فی سبیل اللّه، أو سائر الوعود من قبیل مقاتلة الناکثین والقاسطین والمارقین، أو غیر ذلک.

والمراد بتمام الکلمات یمکن أن یکون إشارة إلی تفسیر آیات القرآن وتفسیر کلمات النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، وتبیان وإکمال کافة الکلمات التی وصلت من الکتاب والسنّة.

کما یحتمل أن یکون المراد الإمام صلی الله علیه و آله أنّی أولی من جمیع الأفراد بخلافة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، وذلک لأنّی تعلمت طریق تبلیغ الرسالة وتحقیق وعوده صلی الله علیه و آله وتفسیر وتکمیل کلماته، وعلیه فإنّی أستطیع النهوض لمسؤولیة الخلافة، وقد ورد فی الحدیث النبوی الشریف أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال لعلی علیه السلام: «أَنْتَ وَصِی وَأَخِی فِی الدُّنیا وَالآخِرةِ وَتَقضِی دَینِی وَتُنجِزُ عِداتِی» (1).

الاحتمال الآخر الذی یمکن ذکره بالنسبة لهذه العبارة هو أنّ الإمام علیه السلام أراد أن یقول أنا أولی بالخلافة، لأنّی أقدر علی تبلیغ جمیع رسالات اللّه سبحانه، کما أستطیع العمل بالوعود التی أقطعها وکذلک أتم ما أورده من کلمات وأحادیث.

ثم واصل علیه السلام کلامه بالقول: «وَعِنْدَنَا - أَهْلَ الْبَیْتِ - أَبْوَابُ الْحُکْمِ وَضِیَاءُ الْأَمْرِ» .

والحکم بضم الحاء بمعنی الحکومةو القضاء، بناءاً علی هذا فالمراد بالعبارة عندنا أهل البیت طرق تدبیر الحکومة وإقامة العدل وبسط الأمن، والحکم بکسر الحاء وفتح الکاف جمع الحکمة بمعنی العلوم والمعارف، ولا شک ولا ریب أنّ لدی أهل البیت علیهم السلام أبواب الحکمة وکنوز العلم والمعرفة، کما قرنهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال فی حدیث الثقلین المعروف: «إِنِّی تارِکٌ فیکُم الثَّقَلَینِ کِتابَ اللّهِ وَعِترَتِی» (2).

ثم أورد الإمام علیه السلام خمس نصائح من شأنها نجاة العباد فی الدنیا والآخرة، وکأن العبارات الاُولی لهذه الخطبة قد وردت لإعداد القلوب من أجل تقبل هذه النصائح لیقول أنّ کلامی یستند إلی علم عمیق ودقیق بتعالیم الإسلام وتعالیم النبی صلی الله علیه و آله، فکانت النصحیة الاُولی مسألة الإتحاد ووحدة الکلمة وذلک لأنّ الاختلاف آفات سعادة الإنسان، فقال: «أَلاَ وَإِنَّ

ص:128


1- 1) بحار الانوار 36/311.
2- 2) للوقوف علی مصادر هذا الحدیث الشریف راجع کتاب نفحات القرآن 9/62 - 71. [1]

شَرَائِعَ الدِّینِ وَاحِدَةٌ، وَسُبُلَهُ قَاصِدَةٌ. مَنْ أَخَذَبِها لَحِقَ وَغَنِمَ، وَمَنْ وَقَفَ عَنْهَا ضَلَّ وَنَدِمَ» .

المقصود بشرائع الدین کافة التعلیمات التی صرّح بها الدین الحنیف بما فیها المعارف والعقائد والقوانین والوصایا والأمور الأخلاقیة، فجذروها واحدة فی جمیع الأدیان السماویة وإن إقتضت الظروف الزمانیة والتطور البشری أن یکون هناک بعض الاختلاف شرحها وتفصیلها وتنوع فروعها.

کما یحتمل أن یکون المراد بشرائع الدین مختلف الطرق إلی اللّه سبحانه فی الدین الإسلامی والتی تنتهی جمیعاً إلی طریق رئیسی واحد وهو القرب إلی اللّه والسعادة المطلقة للبشر، فالصلاة الصوم والجهاد والحج والزکاة وکافة مثل هذه التعلیمات إلی جانب التعالیم العقائدیة والأخلاقیة تتصل وتنتهی بنقطة واحدة ویؤکد علیه السلام علی أنّ بلوغ السبیل سهل وواضح وقریب، وعلیه فانّ الفرقة والاختلاف إنّها تحصل من مزج الأفکار الباطلة والأهواء ووساوس النفس والشیطان بشرائع الدین، فقال تعالی فی کتابه العزیز: «شَرَعَ لَکُمْ مِنْ الدِّینِ مَا وَصَّی بِهِ نُوحاً وَالَّذِی أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ وَمَا وَصَّیْنَا بِهِ إِبْرَاهِیمَ وَمُوسَی وَعِیسَی أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِیهِ. . .» (1).

وقال علیه السلام فی الموعظة الثانیة: «إِعْمَلُوا لِیَوْمٍ تُذْخَرُ لَهُ الذَّخَائِرُ، وَتُبْلَی فِیهِ السَّرَائِرُ» .

العبارة الاُولی إشارة إلی الآیة الشریفة: «مَا عِنْدَکُمْ یَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللّهِ بَاقٍ. . .» (2).

والعبارة الثانیة إشارة إلی الآیة القرآنیة: «یَوْمَ تُبْلَی السَّرَائِرُ» (3).

من البدیهی أنّ للإنسان قدرة محدودة ینبغی توظیفها فی أفضل سبیل، فالعقل یقول: لم تستهلک طاقتک فی طریق لا یدوم أکثر من أیّام، لم لا تستهلکها فی سبیل یرافقک علی الدوام ویخلد فیه معک، أضف إلی ذلک یوم تبلی فیه السرائر وکافة أعمال الإنسان الخفیة، فهو یوم عصیب وفضیحة بالنسبة للطالحین.

وقال علیه السلام: فی عظته الثالثة: «وَمَنْ لاَ یَنْفَعُهُ حَاضِرُ لُبِّهِ فَعَازِبُهُ (4)عَنْهُ أَعْجَزُ، وَغَائِبُهُ أَعْوَزُ (5)» .

ص:129


1- 1) سورة الشوری / 13. [1]
2- 2) سورة النحل / 96. [2]
3- 3) سورة الطارق / 9. [3]
4- 4) «عازب» : من مادة «عزوب» بمعنی الابتعاد وعازب بمعنی بعید.
5- 5) «أعوز» : من مادة «عوز» علی وزن مرض وعوز الشیء بمعنی لم یوجد ویراد به عدم وجودالشیء عندالحاجة.

فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام أراد بهذه العبارة مزج الأدلة العقلیة بالنقلیة وتعبئة الجمیع من أجل متابعة سبیل الحق، وقد قال الإمام علیه السلام هنا ثلاثة أنواع لعقل هی: العقل الحاضر والبعید والغائب، یمکن أن یکون الأول إشارة إلی المسائل العقلیة الواضحة، والثانی إلی المطالب النظریة التی یبلغها الإنسان من خلال الطرق الاستدلالیة الواضحة، و الأخیر إشارة إلی المواضع المعقدة التی یتعذر التوصل إلیها من خلال الدلیل والبرهان، فمن البدیهی أن یتعذر إدراک المطالب النظریة والمعقدة والبعیدة عن الفکر علی من لا یستفید من المسائل الفکریة البسیطة.

ففی المسائل النظریة تتضح تماماً معرفة اللّه یوم القیامة (بالمبدأ والمعاد) ، وذلک لأنّ آیاته قد ملأت جمیع العالم، والقیامة التی تمثل محکمته العادلة ثابتة بحکم العقل، وفی المسائل العلمیة فانّ حسن العدل وقبح الظلم ومدح الصدق والوفاء والعفة والورع والتقوی مسلم للجمیع، ولکن قد یحول التعصب الأعمی وأهواء الإنسان دون الوقوف علی هذه الأمور الواضحة، فأنی لمثل هذا الفرد أن یبدی رأیه فی المسائل النظریة والمعقدة ویبلغ الهدف المطلوب.

ثم خاطب الإمام علیه السلام الناس فی المواعظة الرابعة بصفته منذر عالم فقال: «وَاتَّقُوا ناراً حَرُّهَا شَدِیدٌ، وَقَعْرُهَا بَعِیدٌ، وَحِلْیَتُهَا حَدِیدٌ، وَشَرَابُهَا صَدِیدٌ (1)» .

والعبارات البلیغة التی أوردها الإمام علیه السلام بشأن نار جهنم والتی تکفی کل واحدة منها لصد الإنسان عن الذنب إنّما اُقتبست من الآیات القرآنیة والأحادیث النبویة، فقد جاء فی الآیة: «قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً. . .» (2).

وجاء فی أخری: «یَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِیدٍ. . .» (3).

یعنی أنّها علی قدر من الکبر والسعة بحیث لا تمتلیء بسهولة، وجاء فی أیة أخری: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِیمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِی سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُکُوهُ» (4).

وجاء فی آیة أخری: «مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَیُسْقَی مِنْ مَاءٍ صَدِیدٍ» (5)، قطعاً من یؤمن

ص:130


1- 1) «صدید» : الماء الساخن، کما ورد بمعنی ماء الجرح الرقیق.
2- 2) سورة التوبة / 81. [1]
3- 3) سورة ق / 30. [2]
4- 4) سورة الحاقة / 30 - 32. [3]
5- 5) سورة إبراهیم / 16. [4]

بالآخرة ومحکمة العدل الإلهی وشیء من العذاب الألیم، فانّه یتحکم ویسیطر علی أهوائه ویجتنب الظلم والجور ولا یقارف الذنب والمعصیة، أمّا اُولئک الذین لیس لهم من إیمان بهذه الأمور ولا یعتقدون بالحساب والکتاب والثواب والعقاب، فلیس هناک ما یدعوه إلی السیطرة علی أهواءه وکفّ الأذی عن الآخرین وعدم التعرض لحقوقهم.

نعم، یمکن للضمیر أن یجد من هوس الأفراد إلی حدود معینة، لکن من الیقین أن لیس لذلک من بعد عمومی وشامل، وتأثیره یبقی متواضعاً، أضف إلی ذلک فانّ نبتة الضمیر تذبل وتجف وتموت ما لم تسق بماء تعالیم الأنبیاء علیهم السلام.

أمّا الموعظة الأخیرة والخامسة فقد أشار إلی نقطة مهمّة جدّاً فقال: «أَلَا وَإِنَّ اللّسانِ الصّالِحِ یَجعَلُهُ اللّهُ تَعلی لِلمرءِ فِی النّاسِ، خَیرٌ لَهُ مِنَ المَالِ یُرِثُهُ مَنْ لَایَحْمَدُهُ» .

إنّ أغلب الناس وبدافع حبّهم لأولادهم وأزواجهم یبذلون قصاری جهدهم من أجل ضمان مستقبلهم ویفنون جانب عظمیاً من أعمارهم فی هذا المجال حتی أنّهم یخلطون أحیاناً الحلال بالحرام، لکنّهم یغفلون عن قضیة مهمّة دلّت علیها التجربة أنّه قلّما نجد وارثاً یحمد من ورثه علی ما خلفه لهم من میراث، بل غالباً ما تکون الأموال الموروثة مصدراً للشقاق والاختلاف والنزاع، ولا غرو فکل فرد یسعی لأن یحصل لنفسه علی السهم الأوفی، حتی قیل موت الغنی بدایة قتال الفقیر.

بل قد یتجاوز الأمر ذلک لنشهد سبّ الوارث والتشنیع علیه والتعرض له بالذم من جراء ما خلفه من مشاکل بسبب الارث.

والحال لو تجاوز الإنسان وهو علی قید الحیاة ذاته وأنفق قسماً من أمواله کصدقة جاریة وخدمة إنسانیة وثقافیة یسدیها إلی المجتمع لبقی ذکره الطیب بین النایس فلن ینسوه أبداً، ویثنون علیه دائماً ویسألون اللّه له المغفرة والرحمة، فهذا هو ثوابه فی الدنیا ولثواب الآخرة أعظم.

ص:131

ص:132

الخطبة المأة والحادی العشرون

اشارة

(1)

مِنْ خُطْبِةٍ لَهُ علیه السلام

بعد لیلة الهریر

وَقَدْ قَامَ إِلَیْهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: الْأَمْرَیْنِ أَرْشَدُ؟ فَصَفَّقَ علیه السلام إِحْدَی یَدَیْهِ عَلَی الْأُخْرَی ثُمَّ قَالَ:

نظرة إلی الخطبة

لابدّ من الالتفات إلی مناسبة وورد الخطبة من أجل الوقوف علی عمق محتواها ومضمونها، فهذا الکلام یرتبط بمعرکة صفین حین نهی الإمام علیه السلام الناس عن قبول التسلیم للتحکیم، ثم دعاهم إلی قبوله، والمعروف بهذا الشأن أنّ عمرو بن العاص فکر بخدعة حین شارف جیش الشام علی الهزیمة، فأمر برفع المصاحف ووضعها علی أسنة الرماح، ثم دعی أصحاب علی علیه السلام إلی تحکیم القرآن، فانخدع لذلک الکثیر من السذج من أصحاب علی علیه السلام فکفوا عن القتال واستجابوا لطلب أهل الشام، ثم أصروا علی تحکیم القرآن بشأن مصیر

ص:133


1- 1) سند الخطبة: وردت هذه الخطبة فی عدّة کتب ألفت قبل المرحوم السید الرضی مثل کتاب «العقد الفرید» لابن عبد ربّه و «الاختصاص» للشیخ المفید، والکتب التی اُلفت بعده «الکتب التی تفید عباراتها أنّها نقلت الخطبة من مصادر أخری غیر نهج البلاغة» مثل «مطالب السؤال» لمحمد بن طلحة الشافعی، و «الاحتجاج» للطبرسی، و «ربیع الابرار» للزمخشری مع اختلاف.

المعرکة فی أن ینهض حکم من جیش الإمام علیه السلام وآخر من جیش معاویة، وبلغ بهم الأمر أن هددوا الإمام قائلین: «إن لم تفعل قتلناک کما قتلنا عثمان» .

الإمام کان یعلم بأنّ تلک مصیدة خطیرة کمنت فی طریقهم ورغم مخالفته لهذا العمل، وإصراره علی مواصلة القتال، غیر أنّه اُجبر علی التسلیم للتحکیم، وهذا ما دفع بالبعض للإعتراض علی الإمام علی علیه السلام، وفحوی اعتراضهم إنّک نهیتنا عن التحکیم، والیوم تأمرنا به؟

فالخطبة ردّ علی هذا الاعتراض وقد أشار الإمام علیه السلام إلی عدّة أمور فی إطار الجواب فقال أولاً: هذه نتیجة طبیعیة لفعلکم وعدم تبعیتکم لإمامکم، فلو عملتم بما أمرتکم به وواصلتم القتال لما أصبحتم الیوم تعانون من هذه المشکلة، ثم بیّن الإمام نقاط ضعفهم التی أدّت إلی هذه المشکلة الکبیرة وفی المرحلة الثالثة ذکر طائفة من أوائل المسلمین فی صدر الإسلام کانت تهب مسرعة لتلبیة نداء الجهاد ومواجهة العدو بفعل قوّة إیمانها، فکانت تنتصر دائماً (إشارة إلی أن طریق النصر ما سلکوه، لا ما أنتم علیه) .

وأخیراً یعرض لهم بالنصح ثانیة فی مراقبة أنفسهم والحذر من مصائد الشیطان.

ص:134

القسم الأول: الداء ولیس الدواء

«هذَا جَزَاءُ مَن تَرَکَ الْعُقْدَةَ! أَمَا وَاللّهِ لَوْ أَنِّی حِینَ أَمَرْتُکُمْ بِهِ حَمَلْتُکُمْ عَلَی الْمَکْرُوهِ الَّذِی یَجْعَلُ اللّهُ فِیهِ خَیْراً، فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَیْتُکُمْ، وَإِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُکُمْ، وَإِنْ أَبَیْتُمْ تَدَارَکْتُکُمْ، لَکَانَتِ الْوُثْقَی، وَلکِنْ بِمَنْ وَإِلَی مَنْ؟ أُرِیدُ أَنْ أُدَاوِیَ بِکُمْ وَأَنْتُمْ دَائِی، کَنَاقِشِ الشَّوْکَةِ بِالشَّوْکَةِ، وَهُوَ یَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا! اللَّهُّمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هذَا الدَّاءِ الدَّوِیِّ، وَکَلَّتِ النَّزَعَةُ بِأَشْطَانِ الرَّکِیِّ!» . الشرح والتفسیر

ردّ الإمام علیه السلام بجواب قاطع علی من اعترض علیه فی أنّ هذه المصیبة التی عصفت بکم إنّما أفرزها التحکیم وهذا جزاء من ترک الرأی السلیم: «هذَا جَزَاءُ مَن تَرَکَ الْعُقْدَةَ (1)!» .

لقد صرخت بکم أن واصلوا القتال ولا تترکوه فی هذه المرحلة الحساسة فالنصر قریب، لکنکم ولیتم ظهورکم واستسلمتم لخدعة عمرو بن العاص، فأبیتم إلّاالتحکیم، کان مکر ابن العاص فی رفع المصاحف خدعة ظاهرها الإیمان وباطنها الکفر والنفاق علی ضوء ما أخبر به الإمام علیه السلام فی الخطبة القادمة.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه وقد أقسم باللّه لو أجبرتکم علی الجهاد - والذی لم یکن یروق لکم بینما فیه الخیر الکثیر - حین أمرتکم بقبول التحکیم (بفعل الاضطرار واصرار الجهّال) لکان خیراً لکم، فان سلکتم سبیل الحق هدیتکم وإن انحرفتم أعدتکم إلی الصواب، ولو

ص:135


1- 1) «عقدة» : ما حصل علیه «التعاقد» والمراد بها هنا الرأی الصحیح والعهد علی الطاعة.

تخلفت طائفة منکم لاستبدلتها بأخری (علی کل حال لو أطعتمونی فی مواصلة القتال) وهذا هو الحق الذی لیس بعده إلّاالضلال، لکن من المؤسف إنّکم لم تجیبونی، فبمن استظهر علی العدو وبمن أثق؟ «أَمَا وَاللّهِ لَوْ أَنِّی حِینَ أَمَرْتُکُمْ بِهِ حَمَلْتُکُمْ عَلَی الْمَکْرُوهِ الَّذِی یَجْعَلُ اللّهُ فِیهِ خَیْراً، فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَیْتُکُمْ، وَإِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُکُمْ، وَإِنْ أَبَیْتُمْ تَدَارَکْتُکُمْ، لَکَانَتِ الْوُثْقَی، وَلکِنْ بِمَنْ وَإِلَی مَنْ؟» .

فالإمام علیه السلام قد بیّن بهذا الردّ القاطع حقیقة فی أنّ نیّتی مواصلة الجهاد حتی تحقیق النصر، سیّما أننا علی أعتاب النصر، وکنت مستعداً لمواصلة هذا الطریق بکل قوّة وعزم، ولذلک نهیتکم عن التحکیم، لکنکم أفراد ضعاف لا إرادة لکم وطغاة عصاة لستم مستعدین للقیام بهذا العمل، وعلیه فلم یکن لی من سبیل سوی قبول التحکیم، والحال رجعتم الآن عن رأیکم وسوّلت لکم أنفسکم الاعتراض علیَّ.

ثم أعرب الإمام علیه السلام عن دهشته فقال: «أُرِیدُ أَنْ أُدَاوِیَ بِکُمْ وَأَنْتُمْ دَائِی، کَنَاقِشِ الشَّوْکَةِ بِالشَّوْکَةِ، وَهُوَ یَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا (1)مَعَهَا!» .

فالتشبیه المأخوذ من المثل المعروف تشبیه غایة فی الدقة والبلاغة، فعادة ما یخرجون الشوکة التی تغوص فی الرجل بإبرة أو منقاش، فان اُرید سلّها بشوکة أخری احتمل أن تغوص الثانیة فی الرجل أیضاً، فیزید الطین بلّة حتی أصبح الأمر بصیغة مثل تعارف عند العرب حیث یقول: «کَنَاقِشِ الشَّوْکَةِ بِالشَّوْکَةِ، وَهُوَ یَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا» .

فالمثل یصرب لمن یحکم آخر لرفع الاختلاف بینه وبین شخص آخر والحال یرغب ذلک الفرد بزیادة العداوة والنزاع، فمراد الإمام علیه السلام إنّی اُرید أن أدفع بکم عصاة الشام بینما أنتم العصاة الذین یجب تأدیبهم، علی کل حال، فانّ هذه العبارات التی تفیض معاناة تفید مدی الوضع العصیب الذی شهده الإمام علیه السلام، فانّ أمرهم بالهجوم ومواصلة القتال خالفوه وقالوا: علیک بالنزول لحکم القرآن، وإن طرح علیهم قضیة التحکیم اعترضوا علیه بالقول: لم تسلّم لمنطق العدو؟ فلکل هواه ورأیه، ولکل فکره ونهجه، بحیث انتهی بهم الأمر إلی إتهام أعظم

ص:136


1- 1) «ضلع» : من مادة «ضلع» علی وزن سبب بمعنی المیل نحو الشیء، وتعنی هنا الشبه والمثل.

إمام خلف رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی أنّه ضعیف فی التدبیر، ولیس ذلک إلّابسبب وجود فئة سیئة من الأتباع الضعاف، لم وکیف أصبح الأمر کذلک؟ کأنّ الحق سبحانه أراد امتحان الجمیع بهذا الزعیم الفذ.

وأخیراً شکی الإمام وعرض حاجته إلی اللّه سبحانه فقال: «اللَّهُّمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هذَا الدَّاءِ (1)الدَّوِیِّ، وَکَلَّتِ (2)النَّزَعَةُ (3)بِأَشْطَانِ (4)الرَّکِیِّ (5)!» .

یاله من تعبیر بلیغ وموجع فی نفس الوقت، فان أصیب شخص بمرض عضال ولم یجد معه نفعاً کل علاج یقدمه الطبیب المختص، فلا یشعر مثل هذا الطبیب سوی بالملل والإرهاق، علی غرار الفلّاح الذی یجهد نفسه فی استخراج الماء من البئر لیسقی به الأرض المالحة فلا تخرج بالنبات، وهذا بالضبط حال الإمام علی علیه السلام حین إبتلی بتلک العصابة من الجهّال المسلوبة الإیمان والإرادة لا خیر یرتجی فیهم.

ورد فی الحدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ عیسی بن مریم علیه السلام قال: «دَاوَیتُ المَرضی فَشَفَیتُهُم بِاذن اللّهِ وأبرأتُ الأکمَهَ والأبرصَ بإذنِ اللّهِ وِعالَجتُ المَوتی فأحییتُهم بإذن اللّهُ وَعَالَجتُ الأَحمَقَ فَلَم أَقدَرْ عَلَی إِصلاحِهِ» (6).

ص:137


1- 1) «داء» : من مادة «دوی» بمعنی المرض الشدید.
2- 2) «کلت» : من مادة «کلول» علی وزن ملول بمعنی الضعف.
3- 3) «نزعة» : من مادة «تزع» علی وزن جمع نازع بمعنی السحب.
4- 4) «أشطان» : جمع «شطن» علی وزن وطن الحبل الطویل الذی یسحب به الماء من البئر.
5- 5) «رکی» : جمع «رکیّة» البئر.
6- 6) بحار الانوار 14/323، ح 36. [1]

ص:138

القسم الثانی: إخوتی فی الجهاد

«أَیْنَ الْقَوْمُ الَّذِینَ دُعُوا إِلَی الْإِسْلَامِ فَقَبِلُوهُ، وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْکَمُوهُ، وَهِیجُوا إِلَی الْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اللِّقَاحِ إِلَی أَوْلَادِهَا، وَسَلَبُوا السُّیُوفَ أَغْمَادَهَا، وَأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً، وَصَفَّاً صَفّاً. بَعْضٌ هَلَکَ، وَبَعْضٌ نَجَا. لَایُبَشَّرُونَ بِالْأَحْیَاءِ، وَلَا یُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَی القتلی. مُرْهُ الْعُیُونِ مِنَ الْبُکَاءِ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّیَامِ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ، صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ. عَلَی وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِینَ. أُولئِکَ إِخْوَانِی الذَّاهِبُونَ. فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَیْهِمْ، وَنَعَضَّ الْأَیْدِیَ عَلَی فِرَاقِهِمْ» .

الشرح والتفسیر

ذکر الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة أصحابه الشجعان من أهل الإیمان بهدف إثارة قدراتهم وقواهم وحثّهم علی الجهاد، کما ذمّهم علی ضعفهم وتقصیرهم، أصحابه الذین تألقوا فی ساحات الحرب حین قتالهم للأعداء وکذلک فی میدان الطاعة والعبودیة حیث کانوا سبّاقین فی هذه المیادین فقد قال: «أَیْنَ الْقَوْمُ الَّذِینَ دُعُوا إِلَی الْإِسْلَامِ فَقَبِلُوهُ، وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْکَمُوهُ، وَهِیجُوا (1)إِلَی الْجِهَادِ فَوَلِهُوا (2)وَلَهَ اللِّقَاحِ (3)إِلَی أَوْلَادِهَا، وَسَلَبُوا السُّیُوفَ أَغْمَادَهَا (4)، وَأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً (5)، وَصَفَّاً صَفّاً. بَعْضٌ هَلَکَ، وَبَعْضٌ نَجَا» .

ص:139


1- 1) «هیجوا» : فعل مجهول من مادة «هیجان» وتعنی هنا أنّهم کانوا یندفعون إلی الجهاد.
2- 2) «ولهوا» : من مادة «وَلَهَ» علی وزن فرح شدّة الشوق أوالحزن.
3- 3) «لقاح» : من مادة «لقوح» الناقة.
4- 4) «اغماد» : جمع «غمد» علی وزن هند موضع السیف.
5- 5) «زحف» : تعنی فی الأصل المشی مع الثقل.

دقیقة هی الأوصاف التی أوردها الإمام علیه السلام فی هذه العبارة لهم، فقد إبتدأها بالإیمان بالإسلام والفهم والإدراک الصحیح للقرآن والعمل به والذی الدافع الرئیسی للحرکة نحو الجهاد، ومن ثم عشقهم للجهاد الذی یشبه بعشق الاُم لولدها وولهها إلیه، ویثنی علی شجاعتهم حیث لم یفکروا قط فی إغماد سیوفهم والتراجع عن الجهاد، وأخیراً مدح مدی حرکتهم الجماعیة - والذین کانوا یحضرون فی المیدان فی أی موضع کانوا - والحق من یتحلی بهذه الصفات، فهو منتصر علی الدوام.

ثم واصل الکلام بالحدیث عن سائر صفاتهم حیث یکشف النقاب عن علوّ معنویاتهم ومدی زهدهم وخضوعهم وخشوعهم للّه تبارک وتعالی فقال: «لَا یُبَشَّرُونَ بِالْأَحْیَاءِ، وَلَا یُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَی» .

وهذه علامة علو روحیتهم حیث لم یکونوا بفکر قیود الحیاة المادیة، بحیث ینزعجون لفقد الأحبة أو یهنی أحدهم الآخر علی البقاء علی قید الحیاة، إنّهم یفخرون بالشهادة فی سبیل اللّه سبحانه ویرونها حلمهم فی نیل السعادة الاُخرویة، ومن صفاتهم أیضاً: «مُرْهُ (1)الْعُیُونِ مِنَ الْبُکَاءِ، خُمْصُ (2)الْبُطُونِ مِنَ الصِّیَامِ، ذُبُلُ (3)الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ، صُفْرُ (4)الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ (5). عَلَی وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِینَ» .

نعم، فهم فی ساحات المعارک یزأرون کالأسد، وإن جن علیهم اللیل ارتفعت أصواتهم بالنحیب والبکاء وجرت دموعهم علی خدهم، هکذا هم فی الحالین.

ثم خلص الإمام علیه السلام بعد ذلک إلی الدرس والعبرة التی ینبغی الاحتذاء بها فقال: «أُولئِکَ إِخْوَانِی الذَّاهِبُونَ. فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَیْهِمْ، وَنَعَضَّ الْأَیْدِیَ عَلَی فِرَاقِهِمْ» .

لقد جرت عادة أرباب التربیة علی الاستشهاد بالنماذج البارزة القیّمة من أجل تهذیب الأفراد المطلوب تربیتهم لیتمکنوا من مقارنة أنفسهم بتلک النماذج فیحذو حذوهم، یقفون

ص:140


1- 1) «مره» : أمره من مضت عینه أو وجعت.
2- 2) «خمص» : جمع «أخمص» ضامر البطن.
3- 3) «ذبل» : جمع «ذابل» الجفاف والتیبس.
4- 4) «صفر» : جمع «أصفر» شاحب اللون.
5- 5) «سهر» : البقاء واعیاً فی اللیل.

علی أخطائهم فیهمون بتدارکها وإصلاح أنفسهم، وهذا هو الاُسلوب الذی إعتمده الإمام علیه السلام فی إطار تربیته للأفراد، ولکن وللأسف لم یکن اُولئک الأفراد آنذاک مستعدین لتقبل نصائحه ووصایاه وبرامجه التربویة، وبالطبع لا فائدة لأی مربّ ومعلم مهما کان بصیراً ومشفقاً ونموذجاً ما لم یکن هناک من إستعداد فی الطرف المقابل لتقبل أفکاره والاستجابة لها، فالأمطار المفعمة بالحیاة والخیر والبرکة تنزل علی کل مکان، ولکن لا تخرج الأرض المالحة إلّا الخبث ولا یسعها الاستفادة من تلک الأمطار، والشمس هی الأخری تضییء لکل ذی عینین، ولکن ماذا یسع الأعمی أن یری منها، والریاح المنعشة تهب فی کل مکان ولکن لا تنتفع بها قبور الموتی.

ص:141

ص:142

القسم الثالث: الحذار من وساوس الشیطان

«إِنَّ الشَّیْطَانَ یُسَنِّی لَکُمْ طُرُقَهُ، وَیُرِیدُ أَنْ یَحُلَّ دِینَکُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً، وَیُعْطِیَکُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ، وَبِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ. فَاصْدِقُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ، وَاقْبَلُوا النَّصِیحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَیْکُمْ، وَاعْقِلُوهَا عَلَی أَنْفُسِکُمْ» .

الشرح والتفسیر

إختتم الإمام علیه السلام خطبته بالحدیث عن الشیطان کون وساوسه تمثل مصدر البؤس والشقاء، حیث حذر صحبه ومخاطبیه من هذا المکر وضرورة مراقبة الشیطان والإلتفات إلی طرق نفوذه، وقد بیّن ذلک علی شکل خلاصة بأربع عبارات فقال: «إِنَّ الشَّیْطَانَ یُسَنِّی (1)لَکُمْ طُرُقَهُ» .

ولما کان الشیطان یتبع الأسالیب السیاسیة شیئاً فشیئاً فانّه یسعی لتقویض جموح الدین والقضاء علی العقائد والأعمال الواحدة بعد الأخری: «وَیُرِیدُ أَنْ یَحُلَّ دِینَکُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً» ، من ضمن برامجه وخططه أیضاً إیجاد الفرقة بدلاً من الإتحاد: «وَیُعْطِیَکُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ» ، فیثیر الفتن بواسطة هذه الفرقة: «وَبِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ» .

أجل أول برنامج للشیطان أن یبدی الطرق الوعرة والخطیرة معبدة سهلة فی نظر الإنسان، فیستقطب إلیه الجمیع من خلال المرونة والتساهل وتصویر طریق الطاعة علی أنّه معقد خطیر وصعب، فانّ سلک سبیله واتّبعه قاده کل یوم إلی ترک قانون من قوانین الشرع وعهد

ص:143


1- 1) «یسنیّ» : من مادة «سناء» بمعنی الضیاء وإن استعملت فی باب التفعیل وردت بمعنی یسهّل.

من عهوده المقدّسة، وهو الأمر الذی أکده القرآن الکریم أربع مرّات محذراً من اتّباع الشیطان: «وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّیْطَانِ. . .» (1).

وقال تعالی: «وَمَنْ یَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّیْطَانِ فَإِنَّهُ یَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْکَرِ. . .» (2).

فان جعل الإنسان غیر مکترث للأحکام الإلهیّة وسادت المجتمع الأهواء، آنذاک یستفید من تضارب المصالح المادیة والتعصبات الجاهلیة لیدعو الناس إلی الفرقة، کما أشار إلی ذلک القرآن الکریم: «إِنَّمَا یُرِیدُ الشَّیْطَانُ أَنْ یُوقِعَ بَیْنَکُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِی الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ. . .» (3).

ومن الطبیعی إن اشتعلت نیران الفرقة والاختلاف والنفاق فی المجتمع استتبع ذلک ظهور الفتن، وممّا لا شک فیه فانّ دین الأفراد ودنیاهم تتحطم بفعل تلک الفتن، ولعل هذا هو الأمر الذی أجراه الشیطان فی أحدث معرکة صفین، فقد لقنهم الشیطان بادیء الأمر أن قبول التحکیم هو أسهل الطرق لبلوغ الصلح والاستقرار، ثم دعاهم للتمرد علی أوامر المحکم أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی مجال الجهاد، آنذاک بث بذور الفرقة والنفاق بین صفوف الجیش حتی انتهی الأمر إلی فتنة عمرو بن العاص وأثرها فتنة الخوارج.

ثم قال الإمام علیه السلام بغیة عدم سقوط أصحابه فی شباک الشیطان: «فَاصْدِقُوا (4)عَنْ نَزَغَاتِهِ (5)وَنَفَثَاتِهِ (6)، وَاقْبَلُوا النَّصِیحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَیْکُمْ، وَاعْقِلُوهَا (7)عَلَی أَنْفُسِکُمْ» .

ویصدق هذا الأمر فی عصرنا وزماننا، فالشیطان یری طرقه المنحرفة سهلة وبسیطة بادیء الأمر، ویسحب الناس إلیه، ثم یسلبهم القیم الإسلامیة الواحدة بعد الأخری، ثم یبث بینهم بذور الفرقة والخلاف، وأخیراً تقود الفرقة إلی اشتعال نیران الفتن السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة.

ص:144


1- 1) سورة البقرة / 168. [1]
2- 2) سورة البقرة / 208؛ [2]سورة الانعام / 142؛ [3]سورة نور / 21. [4]
3- 3) سورة المائدة / 91. [5]
4- 4) «اصدقوا» : من مادة «صدق» علی وزن عطف بمعنی الإعراض.
5- 5) نزغات» : جمع «نزغة» علی وزن ضربة وساوس.
6- 6) «نفثات» : جمع «نفثة» تعنی هنا الوسوسة.
7- 7) «اعقلوها» : من مادة «عقل» علی وزن دغل احبسوها علی أنفسکم لا تترکوها فتضیع منکم، والعقل ربط رجل الناقة.

الخطبة والثانیة والعشرون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

قاله للخوارج، وقد خرج إلی معسکرهم و هم مقیمون

علی إنکار الحکومة، فقال علیه السلام:

نظرة إلی الخطبة

کما ورد أعلاه فانّ هذه الخطبة جانب من حدیث الإمام علیه السلام قبل معرکة النهروان، ذکره الإمام حجّة علیهم، فکان لکلامه بالغ التأثیر بحیث تاب أغلب الخوارج وتراجعوا عن القتال، فقد قسمهم الإمام علیه السلام بادیء الأمر إلی فئتین، وقد فرق بین صفوقهم، فئة شهدت صفین وأخری لم تشهدها، وفی القسم الثانی ذکّر أصحاب الصفین بأنّکم أنتم من فرضتم علیَّ مسألة التحکیم، والحال کنت شدید المخالفة لذلک الأمر، وقد أمرتکم بمواصلة الجهاد حتی تحقیق النصر.

وفی القسم الثالث أشار إلی مسألة وهی إننا کنّا فی صدر الإسلام نقاتل قرابتنا حین کانوا فی معسکر الکفر من أجل نصر الدین، وأمّا الآن فالذی یقف فی المعسکر المقابل إخوتنا من

ص:145


1- 1) سند الخطبة: نقل المرحوم الطبرسی فی کتاب الاحتجاج أقصر ممّا ورد فی هذه الخطبة ممّا یدل علی أنّه أخذها من مصدر آخر، وقال ابن أبی الحدید إنّ هذا الکلام وإن کان متصلاً لکنّه یتألف فی الواقع من ثلاثة أقسام منفصلة، وقد جرت عادة السید الرضی علی انتخاب الأفصح من الکلمات وحذف سائر الکلمات (مصادر نهج البلاغة 2/271) . [1]

المسلمین الذین أخطأوا الطریق وقد اختلفت الظروف الشرائط، وعلیه فانّ علینا أن ندفع الشبهة عنهم لتحل المشکلة.

ص:146

القسم الأول: کیف وقعتم فی فخ العدو

اشارة

«أَکُلُّکُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّینَ؟ فَقَالُوا: مِنَّا مَنْ شَهِدَ وَمِنَّا مَنْ لَمْ یَشْهَدْ. قَالَ: فَامْتَازُوا فِرْقَتَیْنِ، فَلْیَکُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّینَ فِرْقَةً، وَمَنْ لَمْ یَشْهَدْهَا فِرْقَةً، حَتَّی أُکَلِّمَ کُلاًّ مِنْکُمْ بِکَلَامِهِ. وَنَادَی النَّاسَ، فَقَالَ:

أَمْسِکُوا عَنِ الْکَلَامِ، وَأَنْصِتُوا لِقَوْلِی، وَأَقْبِلُوا بأَفْئِدَتِکُمْ إِلَیَّ، فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْیَقُلْ بِعِلْمِهِ فِیهَا.

ثُمَّ کَلَّمَهُمْ علیه السلام بِکَلَامٍ طَوِیلٍ، مِنْ جُمْلَتِهِ أنْ قَالَ علیه السلام:

أَلَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ الْمَصَاحِفَ حِیلَةً وَغِیلَةً، وَمَکْراً وَخَدِیعَةً: إِخْوَانُنَا وَأَهْلُ دَعْوَتِنَا، اسْتَقَالُونَا وَاسْتَرَاحُوا إِلَی کِتَابِ اللّهِ سُبْحَانَهُ، فَالرَّأْیُ الْقَبُولُ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِیسُ عَنْهُمْ؟ فَقُلْتُ لَکُمْ: هذَاأَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِیمَانٌ، وَبَاطِنُهُ عُدْوَانٌ، وَأَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَآخِرُهُ نَدَامَةٌ. فَأَقِیمُوا عَلَی شَأْنِکُمْ، وَالْزَمُوا طَرِیقَتَکُمْ، وَعَضُّوا عَلَی الْجِهَادِ بِنَوَاجِذِکُمْ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَی نَاعِقٍ نَعَقَ: إِنْ أُجِیبَ أَضَلَّ، وَإِن تُرِکَ ذَلَّ. وَقَدْ کَانَتْ هذِهِ الفَعْلَةُ، وَقَدْ رَأَیْتُکُمْ أَعْطَیْتُمُوهَا. وَاللّهِ لَئِنْ أَبَیْتُهَا مَا وَجَبَتْ عَلَیَّ فَرِیضَتُهَا، وَلَا حَمَّلَنِیَ اللّهُ ذَنْبَهَا. وَوَاللّهِ إِنْ جِئْتُهَا إِنِّی لَلْمُحِقُّ الَّذِی یُتَّبَعُ؛ وَإِنَّ الْکِتَابَ لَمَعِی، مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ:»

الشرح والتفسیر

کما ذکرنا سابقاً فانّ المخاطب بهذه الخطبة هم خوارج النهروان الذین کلمهم الإمام علیه السلام بهذا الکلام لإتمام الحجّة علیهم وهدایة وإرشاد الفئة الضالة المنخدعة، فقال بادیء الأمر من

ص:147

أجل إعدادهم: «أَکُلُّکُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّینَ؟ فَقَالُوا: مِنَّا مَنْ شَهِدَ وَمِنَّا مَنْ لَمْ یَشْهَدْ» .

رغم أنّ المدّة بین معرکة صفین ومقاتلة خوارج النهروان لم تکن طویلة، لکن لا یعلم کیف اتصلت الفئة الثانیة التی لم تشهد صفین بالفئة الأولی الباغیة، وربّما أثرت علیها وساوس الفئة الأولی سمومها التی بثّتها بین أهل الکوفة فجعلتها تلتحق بها وتقف معها فی مواقفها الفاسدة.

ثم قال علیه السلام: «فَامْتَازُوا فِرْقَتَیْنِ، فَلْیَکُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّینَ فِرْقَةً، وَمَنْ لَمْ یَشْهَدْهَا فِرْقَةً، حَتَّی أُکَلِّمَ کُلاًّ مِنْکُمْ بِکَلَامِهِ» .

فالعبارة تفید أنّ المخاطبین بحدیث مهم إن لم یکونوا علی مستوی واحد فانّ الفصاحة والبلاغة تقتضی تمییزهم عن بعضهم والتحدث لکل بما یتناسب ووضعه، لیکون للکلام أثره المرجو والمطلوب، ومن هنا سلک الإمام علیه السلام هذا النهج: «وَنَادَی النَّاسَ، فَقَالَ: أَمْسِکُوا عَنِ الْکَلَامِ، وَأَنْصِتُوا لِقَوْلِی، وَأَقْبِلُوا بأَفْئِدَتِکُمْ إِلَیَّ، فَمَنْ نَشَدْنَاهُ (1)شَهَادَةً فَلْیَقُلْ بِعِلْمِهِ فِیهَا» .

فالذی یستفاد من هذه العبارة أنّ الخوارج أو جیش الإمام علیه السلام ممن حضر هناک، أو کلاهما، أنّهم کانوا مشغولین بالکلام مع بعضهم البعض الآخر، فقد دعاهم الإمام علیه السلام إلی الصمت والاستماع لما یقول والاقبال علیه بقلوبهم لیستعدوا للتفاعل مع الکلام، کما إختار من جمعهم بعض الشهود: «ثُمَّ کَلَّمَهُمْ علیه السلام بِکَلَامٍ طَوِیلٍ، مِنْ جُمْلَتِهِ أنْ قَالَ علیه السلام:» (2).

فقد أخذ الإمام علیه السلام أیدیهم إلی الماضی القریب وذکّرهم بکبر أخطائهم وعظم معصیتهم وتمردهم، ثم خاطب الفرقة التی شهدت صفین: «أَلَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ الْمَصَاحِفَ حِیلَةً وَغِیلَةً (3)، وَمَکْراً وَخَدِیعَةً: إِخْوَانُنَا وَأَهْلُ دَعْوَتِنَا، اسْتَقَالُونَا (4)وَاسْتَرَاحُوا إِلَی کِتَابِ اللّهِ سُبْحَانَهُ، فَالرَّأْیُ الْقَبُولُ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِیسُ (5)عَنْهُمْ؟» .

بعد ذلک طرح الإمام علیه السلام ردّه علی تلک الخدعة: «فَقُلْتُ لَکُمْ: هذَاأَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِیمَانٌ،

ص:148


1- 1) «نشد» : من مادة «نشد» بمعنی النداء والسؤال والطلب وهنا بمعنی الاستشهاد.
2- 2) هل هذه الجملة للسید الرضی أم کلام روای الخطبة الذی نقل عنه السید الرضی، لا یعلم بالضبط، لکن من المسلم به أنّ کلام الإمام علیه السلام أکثر ممّا ورد فی نهج البلاغة وقد اعتاد السید الرضی علی اقتطاف أفصح وأبلغه.
3- 3) «غیلة» : بمعنی «غدر» .
4- 4) «استقالوا» : من مادة استقالة بمعنی عودة الشیء.
5- 5) «تنفیس» : بمعنی الکف والحل.

وَبَاطِنُهُ عُدْوَانٌ، وَأَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَآخِرُهُ نَدَامَةٌ» .

وعلیه: «فَأَقِیمُوا عَلَی شَأْنِکُمْ، وَالْزَمُوا طَرِیقَتَکُمْ، وَعَضُّوا عَلَی الْجِهَادِ بِنَوَاجِذِکُمْ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَی نَاعِقٍ نَعَقَ: إِنْ أُجِیبَ أَضَلَّ، وَإِن تُرِکَ ذَلَّ» .

لکن مع الأسف فقد وقعت هذه الفتنة (التحکیم) ورأیتکم استجبتم لها، والآن قد ارتفع صوتکم بعد أن سقطتم فی الفتنة: «وَقَدْ کَانَتْ هذِهِ الفَعْلَةُ، وَقَدْ رَأَیْتُکُمْ أَعْطَیْتُمُوهَا» .

حقّاً، إنّه لمن دواعی العجب! فقد عرضوا الإمام لأشد الضغوط فی اللحظات الأخیرة لتلک المعرکة المصیریة والتی أشرفت علی تحقیق النصر النهائی حتی فرضوا علیه الاستجابة لخدعه عمرو بن العاص وقبول التحکیم، بل أبعد من ذلک هددوه بالقتل إن لم یصدر أمره لمالک الأشتر بالانسحاب والفّ عن القتال، ولما زالت الحجب وتکشفت الأمور وبانت الخدعة توجهوا باللوم إلی الإمام علیه السلام لم قبلت التحکیم، بدلاً من العودة إلی نفوسهم والاعتذار والهم بإصلاح ما بدر منهم من أخطاء) .

الجدیر بالذکر فی هذا الأمر أنّ الإمام علیه السلام میز الخوارج فی بدایة الأمر إلی فرقتین، فرقة شهدت صفین وأخری لم تشهدها، لتتضح قضیة وهی إن تمرّت الفرقة الثانیة بفعل جهلها وعدم إحاطتها بأحداث صفین، فما بالکم أنتم الذین شهدتم صفین وتابعتم الأحداث؟ فما المنطق والاُسس التی دفعتکم للقدوم إلی النهروان؟ کیف تتهمونی بمسؤولیة التحکیم؟

وهکذا أتمّ الحجّة علیهم وعلی اُولئک الفریق الثانی الذی خدع بالفریق الأول ورافقه إلی المیدان، ولیس هنالک أسوأ ممن لا یصغی لکلام الناصح الأمین المشفق، فان أصابته مصیبة بما قدمت یداه نسب التقصیر فیها إلی ذلک الناصح وجابهه بالإعتراض، نعم، هذا هو دین الأفراد البعیدین عن الانصاف والذین ینسون ما یصدر منهم من أفعال.

ثم أوضح الإمام علیه السلام حقیقة الموقف بصورة أخری لیقسم بأنّه لو لم یقبل التحکیم لما کان علیه من مسؤولیة فی الالتزام بلوازمها ولا یحملها اللّه سبحانه ذنبها ووزرها: «وَاللّهِ لَئِنْ أَبَیْتُهَا مَا وَجَبَتْ عَلَیَّ فَرِیضَتُهَا، وَلَا حَمَّلَنِیَ اللّهُ ذَنْبَهَا» .

إشارة إلی مراده: إن خالفت بشدّة مسألة التحکیم فی بدایة الأمر فذلک لکی لا أکون مسؤولاً تجاه لوزامها ولا یلحقنی وزرها؛ لأنّ قضیة التحکیم أدّت إلی تقویة حکومة

ص:149

طواغیت الشام وذهبت بدماء شهداء صفین أدراج الریاح، فذلت دعاة الحق وأشعرتهم بالیأس.

ثم قال علیه السلام إثر ذلک: «وَوَاللّهِ إِنْ جِئْتُهَا إِنِّی لَلْمُحِقُّ الَّذِی یُتَّبَعُ؛ وَإِنَّ الْکِتَابَ لَمَعِی، مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ» .

إشارة إلی أنّه حین رأیت ما وقع بینکم من شقاق فی مسألة التحکیم یتطلب أن أمنعه، وبخلافه لنازع أحدکم الآخر وشهر السیف فی وجه صاحبه ولقاد ذلک الأمر إلی فضیحة کبری، وهنا شعرت بالاضطرار لقبول التحکیم.

أضف إلی ذلک فلو فوضتم التحکیم إلی من هو عالم به ولا یفارقه ومحیط بمضمونه ولم تتجهوا صوب فرد بسیط وجاهل کأبی موسی الأشعری، لفشلت تلک المؤامرة وخمدت الفتنة، وإن کان فیها من ضرر فهو جزئی محدود، لکنکم فرضتم علیَّ التحکیم وکذلک أجبرتمونی علی تحکیم أبی موسی الأشعری، فسقطتم فی هذه الفتنة وتکبدتم کل هذه الأضرار فما تقولون بهذا الخصوص؟ فهل علیَّ أن أتحمل مسؤولیة تقصیرکم؟ وأدفع ثمن جریمتکم؟ والذی نخلص إلیه مّا مرّ معنا من کلام:

1 - أنّ الإمام علیه السلام أقسم مرّتین فی هذا المقطع من کلامه، سیّما فی القسم الثانی الذی أردفه بالتوکید لیبیّن بعده کل البعد عن أدنی تقصیر.

2 - ما بیّنه الإمام علیه السلام فی القسمین المذکورین لیس فیه ما یدلّ علی تردیده فی مسألة للتحکیم، بل إشارة إلی حالتین مختلفتین، فقد کان مخالفاً بشدّة فی البدایة، لأنّه کان یعتبرها مکر وحیلة خطیرة، ولما اختلف جیشه وصحبه، وأبی الأعم الأغلب منهم إلّاالتحکیم، استجاب للتحکیم دفعاً للفتنة وإبعاداً للفرقة والشقاق، وعلیه فقد کانت مخالفته فی بدایة الأمر وموافقته تستند إلی الحکمة، وبغض النظر عمّا سبق لو لم یصرّ ذلک الفریق الجاهل علی تحکیم ذلک العنصر الفاسد کأبی موسی الأشعری لما کانت المشاکل بذلک الحجم، فذلک الإصرار الفض هو الذی أدّی إلی عقم نتائج معرکة صفین والامتیاز الذی حصل علیه أعداء الإسلام، وبناءاً علی هذا فانّ هذه الفئة المتعصبة أخذت تفقد مواضعها الواحد بعد الآخر حتی انتهت إلی ذلک المصیر الأسود، والعجیب أنّهم استجیب للتحکیم؟ !

ص:150

لکن وعلی کل حال، فانّ منطق الإمام علیه السلام بهذا الخصوص قد أتی أکله فعادت طائفة عظیمة من الخوارج إلی نفسها فتابت وکفت عن القتال، حتی صرّحت کتب التاریخ بأنّ الأغلبیة الساحقة من الخوارج قد تابت ووقفت علی عظیم زلّتها.

نبذة عن شخصیة معاویة

إنّ الأعمال التی مارسها معاویة طیلة تاریخ حیاته ولا سیما فی مدّة حکومته لتکشف حقیقة واضحة لکل فرد منصف فی أنّه لم یفکر بارساء العدل بین المسلمین، ولم یکن یهمّ بنشر الإسلام، بل کان جلّ همّه ترسیخ دعائم حکومته المتزلزلة، ومن هنا فقد اعتمد کافة الأسالیب التی یلجأ إلیها جبابرة الدنیا من أجل ترسیخ حکوماتهم، وأبسط نموذج یمکن الإشارة إلیه فی هذا المجال إنّما یتمثل برفعه لقمیص عثمان فی الشام وذرف دموع التماسیح علی الخلیفة المقتول ظلماً بهدف إثارة الناس للتمرد علی أمیرالمؤمنین علی علیه السلام وسفک دماء المسلمین، إلی جانب إغداق الرشاوی الضخمة علی زعماء القبائل، بل حتی بعض قواد جیش الإمام علی علیه السلام وإیجاد الفرقة والخلاف بینهم وبین سائر الناس.

وکذلک توجیه الأراذل إلی مختلف نواحی البلاد الإسلامیة لنهب الثروات وإشاعة أجواء التوتر القلق. ولعل قضیة رفع المصاحف وحملها علی أسنة الرماح تعدّ واحدة من تلک الأسالیب، فمعاویة لم یکن مستعداً لقبول حکم القرآن الکریم، کما لم یکن مهتماً بهذا الأمر، وکل ما یفکر فیه هو الحکومة، کما ذکر شرّاح نهج البلاغة أنّ معاویة قام بوجه أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی البدایة تحت شعار الطلب بدم عثمان، إلّاأنّه لم یصطدم قط بقتلة عثمان بعد ظهوره علیهم، فقد کان یقول أحیاناً، ألست من قتلة عثمان؟ وأحیاناً أخری کان یسکت، ویغدق علیهم العطاء (هذا ما نقله العقاد فی کتاب «معاویة» ونقل عبدالکریم الخطیب عن کتاب «علی بن أبی طالب علیه السلام» أنّ عائشة بنت عثمان طالبت معاویة بالقصاص من قتلة أبیها.

فأجابها معاویة: «لأنْ تَکُونِی إِبنَةُ عَمِّ أَمِیر المُؤمِنِینَ خَیرٌ مِنْ أَنْ تَکونِی امرأَةٌ مِنْ عَرضِ النّاسِ» مراده أنّ قضیة الطلب بَدِمِ عثمان قد انتهت، وکان الهدف منها الاستیلاء علی

ص:151

حکومة وقد حصل هذا الأمر، ولعل المطالبة بدم عثمان تهدد کیاننا، وما علیک إلّاالإکتفاء والقناعة بأنّک ابنة عمی، ابنة عم حاکم المسلمین طبعاً، یمکن التعرف علی شخصیة معاویة من خلال مقربیه، فقد ذکر العقاد، أنّ عمرو بن العاص قال یوماً لمعاویة: «أتَری أَننا خالَفنا عَلِیاً لِفَضلِنا؟ لاوَاللّهِ إِنْ هِی إِلّا الدُّنیا نَتَکَالَبُ عَلَیها» ، أی ولم یکن الحدیث عن الإسلام والقرآن سوی الذریعة.

وذکر ابن الأثیر أن سعد بن أبی وقاص قال لمعاویة: «السَّلامُ عَلَیکَ أَیُّها المَلِک» .

فقال معاویة: «لِمَ لَم تُسَلِّم عَلَیَّ بأمیر المؤمِنینَ» .

فأجاب سعد قائلاً: «وَاللّهِ إِنِّی ما أُحِبُّ إِن وَلَّیتُها بِما وَلَّیتَها» .

ومراده أنّک ولّیتها بالمکر والحیلة (1).

ص:152


1- 1) فی ضلال نهج البلاغة، للمرحوم محمد جواد مغنیة، ذیل الخطبة التی بحثها 2/222.

القسم الثانی: بذلنا ما فی الوسع من أجل الوحدة

«فَلَقَدْ کُنَّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، وَإِنَّ الْقَتْلَ لَیَدُورُ عَلَی الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَانِ وَالقَرَابَاتِ الأقرباء، فَمَا نَزْدَادُ عَلَیِ کُلِّ مُصِیبَةٍ وَشِدَّةٍ إِلاَّ إِیمَاناً، وَمُضِیّاً عَلَی الحَقِّ، وَتَسْلِیماً لِلْأَمْرِ، وَصَبْراً عَلَی مَضَضِ الجِرَاحِ. وَلکِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِی الْإِسْلَامِ عَلَی مَا دَخَلَ فِیهِ مِنَ الزَّیْغِ وَالاِعْوِجَاجِ، وَالشُّبْهَةِ وَالتَّأْوِیلِ. فَإِذَا طَمِعْنَا فِی خَصْلَةٍ یَلُمُّ اللّهُ بِهَا شَعَثَنَا، وَنَتَدَانَی بِهَا إِلَی الْبَقِیَّةِ فِیَما بَیْنَنَا، رَغِبْنَا فِیهَا، وَأَمْسَکْنَا عَمَّا سِوَاهَا» .

الشرح والتفسیر

یختتم الإمام علیه السلام خطبته بالإجابة المنطقیة لأصحاب الخوارج، فقد قالوا: لِمَ استجاب الإمام علیه السلام إلی التحکیم؟ لَمَ لا نقاتل الأعداء إلی آخر نفس علی غرار ما فعله المسلمون من صحابة النبی صلی الله علیه و آله فی صدر الإسلام؟ هل أذعن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لمسألة التحکیم؟ فقد أوضح الإمام علیه السلام حقیقة فی إجابته علی اُولئک بأنّ زماننا یختلف تماماً عن زمان النبی صلی الله علیه و آله، ومن نقاتلهم الآن طائفة من المسلمین المخدوعین، والحال کان أعداؤنا فی صدر الإسلام هم الکفّار والمشرکون الذین وقفوا بوجه الإسلام.

فقد قال علیه السلام: «فَلَقَدْ کُنَّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، وَإِنَّ الْقَتْلَ لَیَدُورُ عَلَی الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَانِ وَالقَرَابَاتِ الأقرباء، فَمَا نَزْدَادُ عَلَیِ کُلِّ مُصِیبَةٍ وَشِدَّةٍ إِلاَّ

ص:153

إِیمَاناً، وَمُضِیّاً عَلَی الحَقِّ، وَتَسْلِیماً لِلْأَمْرِ، وَصَبْراً عَلَی مَضَضِ (1)الجِرَاحِ» .

نعم، لقد کنّا نهجم بشدّة آنذاک علی العدو، وإن کان فیهم إخواننا وقرابتنا، فالمصاب وإن عظم علینا، لکن حیث کان ذلک یأمر فقد کنّا نزداد إیماناً، ولم نجابه کل مصائب المعارک وجراحاتها إلّابالصبر والشکر: «وَلکِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِی الْإِسْلَامِ عَلَی مَا دَخَلَ فِیهِ مِنَ الزَّیْغِ وَالاِعْوِجَاجِ، وَالشُّبْهَةِ وَالتَّأْوِیلِ. فَإِذَا طَمِعْنَا فِی خَصْلَةٍ یَلُمُّ (2)اللّهُ بِهَا شَعَثَنَا (3)، وَنَتَدَانَی بِهَا إِلَی الْبَقِیَّةِ فِیَما بَیْنَنَا، رَغِبْنَا فِیهَا، وَأَمْسَکْنَا عَمَّا سِوَاهَا» .

فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارة إلی أن قیاس زمانه بزمان رسول اللّه صلی الله علیه و آله هو قیاس مع الفارق، وذلک لأنّ القتال ذلک الزمان کان یدور مع العدو الخارجی، بینما أصبح زمان الإمام علیه السلام ضد الأصدقاء المخدوعین والمنحرفین من الداخل، فالواقع یستند موقف الإمام علیه السلام فی قبول التحکیم إلی الآیة الشریفة: «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَی الْأُخْرَی فَقَاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتَّی تَفِیءَ إِلَی أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ» (4).

صحیح أنّ أصل مسألة التحکیم خدعة ولم یکن أمراء جیش الشام یعتقدون بالقرآن، ولهذا السبب کان الإمام شدید المخالفة فی بادیء الأمر، لکنّه استجاب لذلک الأمر بعد ذلک الضغط الشدید الذی مارسه السواد الأعظم المخدوع من جیشه مع ذلک کان بالإمکان أن تتمخض مسألة التحکیم عن نتائج مرضیة لو خضعت لقیادة سلیمة، ولکن کما نعلم فانّ ضغوط الجهّال قد دفعوا التحکیم إلی مسار لا یجر علیهم سوی الضرر والخسارة.

ص:154


1- 1) «مضض» : الألم والحرقة.
2- 2) «یلمّ» : من مادة «لمّ» علی وزن غمّ بمعنی جمع، وتأتی أحیاناً بمعنی الجمع والإصلاح.
3- 3) «شعث» : وردت فی الأصل بمعنی ما یقع علیه الغبار، ثم یطلق علی نوع من التشتت والتفرق.
4- 4) سورة الحجرات / 9. [1]

الخطبة المائة والثلاثة والعشرون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

قاله لأصحابه فی ساحة ساعة الحرب «بصفِّین»

نظرة إلی الخطبة

هذه الخطبة جزء من خطبه طویلة إقتطف المرحوم السید الرضی بعضها، وقد تضمنت إشارة إلی بعض النقاط المهمّة، وهی:

1 - یجب علی الأفراد الذین یتمتعون بقدرات فائقة فی القتال أن یدافعوا ویشدوا من أزر الضعاف.

2 - إنّ الأفراد الذین یهربون من الجهاد خشیة الموت هم علی خطأ، لأنّه لا یمکن الفرار من الموت الذی یدرک الجمیع أینا کانوا.

ص:155


1- 1) سند الخطبة: یمکن التعرف علی هذا الکلام بصورة متفرقة فی سائر الکتب، ومنها: 1 - الکافی فی باب فضل الجهاد. 2 - العقد الفرید لابن عبد ربه. 3 - الجمل للشیخ المفید نقلاً عن کتاب الجمل للواقدی. 4 - الإرساد للشیخ المفید. 5 - تجارب الاُمم لابن مسکویه طبق نقل تأسیس الشیعة. 6 - الآمالی للشیخ الطوسی. (مصادر نهج البلاغة 2/273) . [1]

3 - لا موت أشرف وأکرم من الشهادة، فألف ضربة بالسیف خیر من میتة علی الفراش.

4 - إخبار عن هوان أهل الکوفة وذلّهم فی المستقبل بسبب وهنهم وضعفهم فی مواجهة الظلمة.

ص:156

القسم اول: شکر القدرة

اشارة

«وَأَیُّ امْرِیً مِنْکُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ رَبَاطَةَ جَأْشٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَرَأَی مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلاً، فَلْیَذُبَّ عَنْ أَخِیهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ الَّتِی فُضِّلَ بِهَا عَلَیْهِ کَمَا یَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ. إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِیثٌ لَایَفُوتُهُ الْمُقِیمُ، وَلَا یُعْجِزُهُ الْهَارِبُ. إِنَّ أَکْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ! وَالَّذِی نَفْسُ ابْنِ أَبِی طَالِبٍ بِیَدِهِ، لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّیْفِ أَهْوَنُ عَلَیَّ مِنْ مِیتَةٍ عَلَی الْفِرَاشِ فِی غَیْرِ طَاعَةِ اللّهِ!» .

الشرح والتفسیر

یشتمل هذا الکلام - سواء أورده الإمام علیه السلام علی أعتاب معرکة الصفین کما ورد آنفاً أو حسبما صرّح به بعض المحققین علی هامش معرکة الجمل بعد ضجة معسکر عائشة، أو فی المعرکتین وذلک لأنّه یتناسب مع کل مهما - علی نقاط مهمّة وردت ثلاث منها فی هذا القسم من الخطبة:

الاُولی: لزوم التنسیق بین أفراد الجیش بحیث یتولی الأقویاء الدفاع عن الضعفاء للحدّ من جسامة الخسائر، فقد قال علیه السلام: «وَأَیُّ امْرِیً مِنْکُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ رَبَاطَةَ (1)جَأْشٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَرَأَی مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلاً، فَلْیَذُبَّ عَنْ أَخِیهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ (2)الَّتِی فُضِّلَ بِهَا عَلَیْهِ کَمَا یَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ» .

ص:157


1- 1) «رباطة جأش» : جأش علی وزن عرش والرباطة الربط بإحکام، فالمراد بالعبارة قوّة القلب عند لقاء العدو، حیث یراد بالجأش القلب والصدر.
2- 2) «نجدة» : من مادة «نجد» علی وزن مجد، بمعنی الشجاعة.

ثم أضاف علیه السلام: «فَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ» .

فان وهبه القوّة والصلابة فقد وجب علیه الشکر، والمراد أنّ أفعال اللّه وإن استندت إلی الحکمة جمیعاً، مع ذلک فمن تمتع بنعم کثیرة وجب علیه الشکر بافاضتها علی الآخرین لیؤدّی بذلک الشکر العملی للنعمة.

والثانیة: لو لم یکن هناک من تنسیق بین العسکر فانّ ذلک یؤدّی إلی إحباط الجمیع، وذلک لأنّ العدو إنّما یهجم علی الجانب الذی یشعر بضعفه، فانّ اخترقه وقضی علیه، إلتفّ لیحاصر باقی العسکر، وعلیه وإضافة لمسألة الشکر فانّ فنون القتال وسیاسة المعرکة تتطلب من الأجنحة القویة من العسکر شد ظهور الأجنحة الضعیفة وعدم التوانی فی الدفاع عنها، بحیث لا تسدد إلیها ضربات العدو، ولا سیّما إذا استطاع العدو أن یشلّ حرکة طائفة من الجیش، فانّه سیتمکن من تحطیم معنویات الجمیع.

ثم إتجه الإمام علیه السلام صوب نقطة مهمّة أخری وهی ضرورة ألا یتصور أحد أنّه یستطیع الفرار من مخالف الموت، فهو یدرک المقیم والمنتظر والهارب: «إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِیثٌ لَایَفُوتُهُ الْمُقِیمُ، وَلَا یُعْجِزُهُ الْهَارِبُ» .

وهنا یطرح هذا السؤال نفسه: الموت علی نوعین: موت حتمی، وموت معلّق أو مشروط، والذی لا یمکن تغییره هو الموت الحتمی، أمّا الموت المشروط، فهو قابل للتغییر علی ضوء تغیر الظروف والشرائط، ولعل الموت فی ساحة القتال لیس من الموت الحتمی فکیف إستدل الإمام علیه السلام بهذه المسألة وقال بشأن الموت لا یفوته المقیم ولا یعجزه الهارب.

ویمکن الإجابة عن هذا السؤال بوجهین:

الأول: هو أنّ الإمام علیه السلام ناظر للموت الحتمی فقط سواء فی ساحة القتال أو غیر ساحة القتال فلا یمکن إجتنابه.

والثانی: علی فرض أنّ الإنسان یستطیع الهروب من مخالب الموت المشروط أو المعلّق، ولکن ما جدوی ذلک؟ فالموت الحتمی بالتالی سیدرک جمیع الأفراد دون استثناء، فلا ینبغی للإنسان أن یستسلم للظلمة فی مقابل البقاء عدّة أیّام (1).

ص:158


1- 1) مرّ علینا بالتفصیل بحث الموت الحتمی والمعلّق فی المجلد الثالث من هذا الکتاب.

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة مهمّة وقیّمة فقال: «إِنَّ أَکْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ! وَالَّذِی نَفْسُ ابْنِ أَبِی طَالِبٍ بِیَدِهِ، لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّیْفِ أَهْوَنُ عَلَیَّ مِنْ مِیتَةٍ (1)عَلَی الْفِرَاشِ فِی غَیْرِ طَاعَةِ اللّهِ!» .

فالعبارة تفید عظمة مقام الشهداء إلی درجة أنّ الإمام علیه السلام یعرب عن إستعداده لتحمل ألف ضربة بالسیف یؤثرها علی میتة الفراش الطبیعیة، وهذا هو لسان حال أو قال جمیع المؤمنین المخلصین والشجعان الذین یعشقون طریق الحق، طبعاً لا تعنی العبارة أنّی لا أشعر بألم ضربات السیف - کما ذهب إلی لذلک بعض شرّاح نهج البلاغة - بل المراد أنّ الأولی بالإنسان من حیث الجانب المعنوی أن یفتح صدره لتحمل أقسی الضربات بدلاً من الموت الطبیعی علی الفراش، لأنّ وسام الشهادة یجعل الإنسان یتحمل الألم والمعاناة، ولا ننسی هنا الروایات التی صرّحت بأنّ الإنسان بحکم الشهید إن مات علی الفراش علی سلامة من دینه، وهو الأمر الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام فی آخر العبارة.

الشهادة عرس الأبطال

الشهادة من القیم السامیة التی تضمنتها الثقافة الإسلامیة، والشهید یمثل قمة المرتبة الإنسانیة، وأولیاء اللّه کما أورد الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة یفکرون دائماً بالشهادة ویأبون الموت طبیعیاً علی الفراش، ویرون الشهادة أفضل ألف مرّة من میتة علی فراش، وکانوا مستعدین لتلقی آلاف الضربات والفوز بالشهادة دون الموت علی الفراش، وذلک لأنّ روح الإنسان أعظم هدیة إلهیّة، وما أروع أن تبذل هذه الهدیة فی سبیل اللّه سبحانه، لا أنّ تذهب هدراً فی الموت.

ویکفی فی فضل الشهادة ما ورد فی حیث النبی الأکرم صلی الله علیه و آله حین شاهد فرداً یدعو اللّه تعالی قائلاً: «اللّهُمّ إِنِّی أسألُکَ خَیرَ ما تُسأَلُ فَاعطِنِی أَفَضلَ ما تُعطِی» .

ص:159


1- 1) «میتة» : بکسر المیم بمعنی کیفیة الموت، والمیتة بفتح المیم الشخص المیت (بدلاً من الالتفات هنا إلی میت مذکر ومؤنث میتة) .

فقال صلی الله علیه و آله: «إنْ اُستُجِیبَ لَکَ اُهرِیقَ دَمُکَ فِی سَبِیلِ اللّهِ» (1).

کما ورد فی حدیث آخر عنه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «ما مِنْ أَحَدٍ یَدخُلُ الجَنَّةَ فَیَتَمنّی أَنْ یَخْرُجَ مَنها إِلّا الشَّهِیدُ فَإنَّهُ یَتَمنّی أَنْ یَرجَعَ فَیُقتَلَ عَشْرَ مَرّل تٍ مِمّا یَری مِنْ کَرامَةَ اللّهِ» (2).

نعم، مقام الشهداء رفیع جدّاً فی التعالیم الإسلامیة، وهم الذین حفظوا الإسلام حین الخطر، ولولا تضحیات الشهداء کشهداء بدر واُحد وشهداء کربلاء لما بقی من الإسلام الیوم شیئاً سوی اسمه، ویعیش أعداء الإسلام الیوم حالة من الرعب إزاء الشهادة وفلسفتها فی الإسلام، وذلک لأنّ الشهید قد یبدد فی لحظات مخططات الأعداء وبرامجهم التی تستوعب تکالیفاً باهضة.

أضف إلی ذلک فهم لا یمتلکون أی سلاح یمکنهم من مواجهة هذا السلاح، سمع أخیراً أنّ الدوائر الصیهوینة وإثر عجزها عن مواجهة انتفاضة الشعب الفلسطینی، قد أکدت علی ضرورة إجتثاث جذور ثقافة التفکیر بالشهادة، لابدّ من اسقاط مفردة الشهادة من کتاب الدراسة المتوسطة والثانویة، کما لابدّ من إزالة الآیات القرآنیة المتعلقة بالشهادة من الکتب الدینیة، ومن المؤکد أنّ البلدان الإسلامیة العمیلة وما أکثرهم قد ساروا علی هذا النهج، وقد اصطلحوا علی الشهادة بالإنتحار والشهید بالإرهابی لتشویه هذه المفردة الطیبة، لکن ولحسن الحظ فانّ هذه الثقافة قد إتسعت وترسخت بحیث لا یسع هذه الدعایات الوقوف بوجهها، حتی سارع إلیها العدید من الشباب والشابات، وهذا ما یشکل أعطم خطر علی أعداء الإسلام، نأمل أن یتعرف المسلمون أکثر فأکثر علی هذه القیمة السامیة التی تدعو إلی الفخر والاعتزاز.

ص:160


1- 1) مستدرک الوسائل 11/13، ح21. [1]
2- 2) المصدر السابق، ح2. [2]

القسم الثانی: عاقبة السوء

و منه: «وَکَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَیْکُمْ تَکِشُّونَ کَشِیشَ الضِّبَابِ: لَاتَأْخُذُونَ حَقَّاً، وَلَا تَمْنَعُونَ ضَیْماً. قَدْ خُلِّیتُمْ وَالطَّرِیقَ، فَالنَّجَاةُ لِلْمُقْتَحِمِ، وَالْهَلَکَةُ لِلْمُتَلَوِّمِ» .

الشرح والتفسیر

یری البعض من شرّاح نهج البلاغة أنّ هذا الکلام مستقل، ومن هنا ذکره بصورة مستقلة، بینما یراه البعض الآخر استمرار للکلام السباق، فمن ذکره بصورة مستقلة استدلّ بعدم وجود إرتباط بین هذا المقطع والمقطع السابق، حیث حث الإمام علیه السلام أصحابه فی المقطع السابق علی الجهاد والقتال ببسالة، بینما جری الکلام فی هذا المقطع عن الهزیمة والفرار، ولیس هنالک من إنسجام بین هذین المقطعین، ولکن بالنظر إلی أنّ هذا المقطع یخبر عن المستقبل، وهو المستقبل الذی لا یکون فیه الإمام علیه السلام بین ظهرانیهم ویشهدون حالة من الفرقة والتشتت والضعف والهوان والذلّة، وعلیه یمکن تصور إرتباط بین هذا المقطع وسابقه.

ولکن علی حال سواء کان هذا المقطع مستقل أم مرتبطاً، فهو کلام الإمام علیه السلام ویخبر عن المصیر المریر لأفراد یوثرون العافیة والدعة علی الجهاد، فقال: «وَکَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَیْکُمْ تَکِشُّونَ کَشِیشَ الضِّبَابِ (1)» .

فالعبارة یمکن أن تکون إشارة إلی الحیوانات المعروفة الضباب جمع ضب بالکسر والتی إن تحرکت بصورة جماعیة اضطربت وإحتک بعضها بالبعض الآخر فیظهر من هذا الاحتکاک

ص:161


1- 1) «کشیش الضباب» : بمعنی الصوت الذی لا یرتفع کثیراً ویطلق علی صوت الضفدع، والضب وصوت الناقة.

صوتاً، والمراد أنّکم اضطربتم حین الفرار، بحیث إندک بعضکم بالبعض الآخر وقد انبعث صوت اضطرابکم.

ثم قال علیه السلام: «لَا تَأْخُذُونَ حَقَّاً، وَلَا تَمْنَعُونَ ضَیْماً (1)» .

أی حال أسوأ من أن یصبح الإنسان علی درجة من الضعف والعجز بحیث لا یستطیع الدفاع عن حقّه أو عن صحبه وقرابته وإخوته فی الدین، کما لا یستطیع الوقوف بوجه الظلم الذی یوجه إلیه وإلی الآخرین، حقّاً إنّها لحالة مؤلمة مهینة.

ثم إختتم خطبته بالقول: «قَدْ خُلِّیتُمْ وَالطَّرِیقَ، فَالنَّجَاةُ لِلْمُقْتَحِمِ، وَالْهَلَکَةُ لِلْمُتَلَوِّمِ (2)» .

فالعبارة قد خلیتم والطریق تشیر إلی إتمام الحجة الکاملة، فقد بیّن الطریق إلی الهدف بکل وضوح من قبل زعیم عالم، وقد زالت الموانع التی تحول دون سلوکه، وعلیه فلن تعد هناک من حجة لمن یقصّر فی هذا الطریق، ولذلک بشر سالکین هذا الطریق بالسعادة، بینما هدد المتباطیء بالهلکة.

ص:162


1- 1) «ضیم» : بمعنی الظلم.
2- 2) «متلوم» : من مادة «تلوم» بمعنی الانتظار والتباطیء والتوقف.

الخطبة المأة و الرابعه والعشرون

اشارة

(1)

ومِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

فی حث أصحابه علی القتال

نظرة إلی الخطبة

وردت هذه الخطبة کما یفهم من عنوانها بشأن حث الإمام علیه السلام لأصحابه علی الجهاد، وذلک لأنّه حسب تصریح شرّاح نهج البلاغة أنّها وردت قبل معرکة صفین، ومن هنا تضمنت إشارة إلی بعض الأمور المهمّة:

1 - ذکر الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة مطالب دقیقة بخصوص فنون القتال وانتخاب أفضل السبل فی مجابهة العدو، بحیث یمکن التوصل إلی النتائج بأقلّ الخسائر.

2 - حذر أصحابه فی المقطع الآخر من الخطبة وضمن مدحه لمقاتلیه من الفرار الذی یستتبع الفضیحة والعار، کما یتطرق إلی ذکر مقامات الشهداء.

3 - یلعن فی المقطع الثالث أعدائه ویقوی عن هذا الطریق عزائم أصحابه المجاهدین.

ص:163


1- 1) سند الخطبة: نقل هذه الخطبة نصر بن مزاحم المتوفی عام 202 ق فی کتاب صفین، کما نقلها المؤرخ المشهور الطبری فی تاریخه عن أبی مخنف فی حوادث عام 37 ه، کما وردت فی کتاب الجهاد عن الکافی وکتاب الفتوح لابن أعثم الکوفی (مصادر نهج البلاغة 2/277) .

ص:164

القسم الأول: سبع وصایا فی فنون القتال

«فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ، وَأَخِّرُوا الْحَاسِرَ، وَعَضُّوا عَلَی الْأَضْرَاسِ، فَإِنَّهُ أَنْبَی لِلسُّیُوفِ عَنِ الْهَامِ؛ وَالْتَوُوا فِی أَطْرَافِ الرِّمَاحِ، فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلْأَسِنَّةِ؛ وَغُضُّوا الْأَبْصَارَ، فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ، وَأَسْکَنُ لِلْقُلُوبِ؛ وَأَمِیتُوا الْأَصْوَاتَ، فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ. وَرَایَتَکُمْ فَلَا تُمِیلُوهَا وَلَا تُخِلُّوهَا، وَلَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَیْدِی شُجْعَانِکُمْ، وَالْمَانِعِینَ الذِّمَارَ مِنْکُمْ، فَإِنَّ الصَّابِرِینَ عَلَی نُزُولِ الْحَقَائِقِ هُمُ الَّذِینَ یَحُفُّونَ بِرَایَاتِهِمْ، وَیَکْتَنِفُونَهَا: حِفَافَیْهَا، وَوَرَاءَهَا وَأَمَامَهَا؛ لَا یَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَیُسْلِمُوهَا، وَلَا یَتَقَدَّمُونَ عَلَیْهَا فَیُفْرِدُوهَا. أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَهُ، وَآسَی أَخَاهُ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ یَکِلْ قِرْنَهُ إِلَی أَخِیهِ، فَیَجْتَمِعَ عَلَیْهِ قِرْنُهُ وَقِرْنُ أَخِیهِ» .

الشرح والتفسیر

یری بعض کبار المحدثین أنّ هذه الخطبة تبتدأ کالآتی: «إِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجلَّ دَلَّکُم عَلَی تِجارَةٍ تُنجِیکُم مِنْ عَذابٍ أَلِیمٍ وَتُشفِی بِکُم عَلَی الخَیرِ الإِیمانُ بِاللّهِ وَالجِهادُ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَجَعَلَ ثَوابَهُ مَغفِرَةً لِلذَنْبِ وَمَساکِنَ طَیِّبَةٍ فِی جَنَّاتِ عَدْنٍ وَقَالَ عَزَّ وَجلَّ: «إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الَّذِینَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِهِ صَفّاً کَأَنَّهُمْ بُنیَانٌ مَرْصُوصٌ» (1)فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ. . .» (2).

ثم أشار فی مواصلته لهذا الکلام إلی سبع وصایا هامّة فی فنون تحقیق النصر، فقال فی

ص:165


1- 1) سورة الصف / 4. [1]
2- 2) الکافی 5/39، ح4. [2]

وصیّته الاُولی بهذا الشأن: «فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ (1)، وَأَخِّرُوا الْحَاسِرَ (2)» .

فمن الطبیعی أن یکون قلیلاً هو الضرر الذی یتعرض له من یلبس الدرع بفعل السهام والسیوف، ومن هنا لا یسع العدو السیطرة علیهم، ومن لم یتدرع یمکنه أن یواصل قتاله وهجماته من خلفهم، والذی یستفاد من هذه العبارة وجود فئة فی میدان القتال لم ترتدی الدرع، وذلک إمّا یعود إلی الأزمات والمشاکل التی یعیشها المجتمع الإسلامی، أو أنّ إرتداء الدرع کان یثقل علی البعض ویعیق حرکته فی میدان القتال، ولذلک کان الأشداء من المقاتلین هم الذین یتدرعون.

وقال علیه السلام فی وصیّة الثانیة: «وَعَضُّوا عَلَی الْأَضْرَاسِ (3)، فَإِنَّهُ أَنْبَی (4)لِلسُّیُوفِ عَنِ الْهَامِ (5)» .

وکما ذکرنا فی شرح الخطبة الحادیة عشرة أنّ لهذه الخطبة فائدتان، الاُولی إزالة الخوف والرعب، أو الحدّ من هذا الخوف إلی أقلّ درجة، ومن هنا فانّ الإنسان یعمد إلی إطباق أسنانه علی بعضها حین الخوف بهدف إزالته، والأخری تبقی علی صلابة عظام الرأس فلا تتأثر کثیراً بضربات السیف.

وقال فی الوصیّة الثالثة: «وَالْتَوُوا (6)فِی أَطْرَافِ الرِّمَاحِ، فَإِنَّهُ أَمْوَرُ (7)لِلْأَسِنَّةِ» .

والوصیّة أشبه بما یقال الیوم، إن أراد أحد أن یرمیک تحرک یمیناً وشمالاً، أی علیک بتغییر موضعک باستمرار حتی لا یتمکن العدو من التصویب باتجاهک.

جدیر بالذکر أنّ بعض شرّاح نهج البلاغة أشار أنّ المراد بالانعطاف والانحناء حین الهجوم بالحربة علی العدو، فانّ ذلک یضاعف من دقّة الحربة لمواجهة ضد جسد العدو، لکن

ص:166


1- 1) «الداع» : بمعنی لابس الدرع من مادة درع علی وزن فعل.
2- 2) «الحاسر» : من لا درع له من مادة حسر علی وزن عصر بمعنی العری.
3- 3) «أضراس» : جمع «ضرس» علی وزن حرس الإنسان وردت بمعنی سن العقل.
4- 4) «أنبی» : من مادة «نبو» علی وزن عفو بمعنی عدم العمل.
5- 5) «الهام» : جمع «هامة» علی وزن قامة رأس الإنسان أو رأس أی موجود حی.
6- 6) «التووا» : من مادة «التواء» بمعنی الانعطاف أو المیل لهذا الجانب وذاک.
7- 7) «أمور» : من مادة «مور» علی وزن غور بمعنی الحرکة السریعة، کما وردت بمعنین الذهاب الإیاب والاضطراب وهذا هو المعنی المراد فی العبارة.

بالإلتفات إلی الوصایا السابقة واللاحقة لهذه الوصیة والتی تبیّن فنون الدفاع، فانّ المعنی الأول یبدو هو الأنسب، لا سیّما التعبیر بالحرف فی لا یتناسب والمعنی الثانی، بینما یتناسب ما إخترناه حتی التعبیر الأمور المأخوذ من مادة مور والذی یعنی الاضطراب.

وقال فی الوصیّة الرابعة بعض النظر (وعدم النظر إلی کثرة العدو وآخره) فذلک أسکن للقلب: «وَغُضُّوا الْأَبْصَارَ، فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ (1)، وَأَسْکَنُ لِلْقُلُوبِ» .

تختلف هذه الوصیّة عن سابقاتها لاشتمالها علی بعد نفسی ونعلم جمیعاً أنّ روحیة الجنود کلما کانت مرتفعة کان الأمل بالنصر أکثر، ومن هنا أکّد الإمام علیه السلام هذا المعنی مراراً وقد مرّ علینا نموذج ذلک فی الخطبة 11 و 66.

وقال فی الوصیة الخامسة: «وَأَمِیتُوا الْأَصْوَاتَ، فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ» .

من الطبیعی أنّ الإنسان حین ینشغل بالحدیث فانّه یستهلک جانباً من قواه الفکریة وکذلک جانباً من طاقته البدنیة ویحد من ترکیزه الفکری والالتفات إلی حملات العدو المبرمجة، ومن هنا فانّ العدو الصامت البعید عن الضوضاء والضجیج یبدو أخطر من غیره. ولذلک ورد بشأن معرکة بدر أنّ قریش تعجبت من قلّة عدد جیش الإسلام وتصورت أنّ عدد المسلمین أکثر ممّاتری ولعلهم إختفوا خلف التلة حیث یردون میدان القتال فی الوقت المناسب، فبعثوا بعمیر بن وهب لینظر أطراف المیدان، فرکب فرسه وجعل ینظر حول الصحرا ولم یر شیئاً، فعاد وقال: عدد المسلمین یقارب الثلاثمائة، إلّاأنّی رأیتهم مستعدین للقتال ولا یقوی أحد علی مواجهتهم، أمّا ترونهم خرسا لا یتکلمون، یتلمذون تلمذ الأفاعی ما لهم ملجأ إلّاسیوفهم وما أراهم یولون حتی یقتلوا ولا یقتلون حتی یقتلوا بعددهم (2).

وقال فی الوصیّة السادسة: «وَرَایَتَکُمْ فَلَا تُمِیلُوهَا وَلَا تُخِلُّوهَا (3)وَلَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَیْدِی شُجْعَانِکُمْ، وَالْمَانِعِینَ الذِّمَارَ (4)مِنْکُمْ» .

ص:167


1- 1) فسرّت هذه المفردة سابقاً.
2- 2) منتهی الآمال، ج1، وقائع العام الهجری الثانی.
3- 3) «تخلّوا» : من مادة «تخلیة» بمعنی الإخلاء والترک، وعلیه فالصحیح فتح الخاء لأنّها من باب التفعیل.
4- 4) «ذمار» : بکسر الذال ما یلزم الرجل حفظه وحمایته.

ثم أتمّ کلامه باستدلال منطقی قائلاً: «فَإِنَّ الصَّابِرِینَ عَلَی نُزُولِ الْحَقَائِقِ (1)هُمُ الَّذِینَ یَحُفُّونَ بِرَایَاتِهِمْ، وَیَکْتَنِفُونَهَا: حِفَافَیْهَا (2)، وَوَرَاءَهَا وَأَمَامَهَا؛ لَایَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَیُسْلِمُوهَا، وَلَا یَتَقَدَّمُونَ عَلَیْهَا فَیُفْرِدُوهَا» .

کان للرایة أهمیّة خاصة فی میدان القتال فی الأزمنة الماضیة، وذلک لدورها فی إرتباط الصفوف والتحامها، وحین کان ینهمک المقاتلون وسط المیدان وجوانبه بالقتال، کانوا یلتفون حین الضرورة حول الرایة لإعادة تنظیم صفوفهم وشن الحملات من جدید، وإن سقطت الرایة اضطرب العسکر وأحیاناً کان ینهار، ولذلک تری العدو یسعی جاهداً للإحاطة بالرایة، بینما یحاول الطرف الآخر الابقاء علی الرایة مرفوعة وهو یدافع عنها بکلّ ما اُوتی من قوّة، فقد کان سقوطها یعنی الهزیمة، وزبدة الکلام فانّ انتصاب الرایة دلیل علی القدرة وسبب قوّة وعزیمة المقاتلین وحلقة اتصالهم مع بعضهم، ولهذا ما انفک الإمام علیه السلام عن التأکید وصایاه بحفظ الرایة، حیث أکد من جهة ضرورة ثبوت موضع الرایة وأنّ حماتها من أشجع الأفراد، ومن جهة اُخری یوصی حملة الرایة بعدم التخلی عنها ومراقبتها من جمیع الجهات، لا أنّ یتخلفوا عنها ولا یتقدمواعلیها، ویضحوا بالغالی والنفیس من أجل حفظها بفضلها علامة الاقتدار والشموخ وورد فی شأن غزوة خیبر التی. لف الفریقان بخصوصها عشرات الروایات أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أعطی الرایة فی الیوم الأول إلی أبی بکر فلم یتمکن من فتح قلاعها، وفی الیوم الثانی أعطاها عمر بن الخطاب، فلم یفلح، فقال صلی الله علیه و آله: «لَأُعطِیَنَ الرایةَ غَداً رَجُلاً یُحِبُّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ویُحِبُّهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ کَرّارٌ غَیرُ فَرّارٍ یَفتَحِ اللّهُ عَلَیهِ» (3).

فامتدت الأعناق فی الیوم التالی لیروا من هو ذلک الرجل، وقد تمنی کل فرد (شجاع) أن

ص:168


1- 1) «الحقائق» : جمع «حاقة» علی وزن جادة النازلة الشدیدة.
2- 2) «حفافی» : مثنی «حفاف» علی وزن کتاب بمعنی جانب الشیء وحفافیها هنا إشارة إلی جانبی الرایة یمینهاوشمالها.
3- 3) الکامل لابن الأثیر 2/219، [1] وتفسیر الثعلبی (طبق نقل غایة المرام، /467) [2] وصحیح مسلم، ج4 کتاب الفضائل الصحبة الحدیث 32؛ صحیح البخاری 5/171 باب غزوة خیبر (طبعاً ذکرت الجملة [3]الأخیرة فقط بشأن علی علیه السلام فی صحیح البخاری مسلم) .

یکون هو المعنی فیعطیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله الرایة، نادی رسول اللّه صلی الله علیه و آله علیاً علیه السلام وسلّمه الرایة فلم یرجع إلّابعد أن فتح خیبر واستسلم له أهلها، هذه دلالة علی الأهمیّة الفائقة للرایة وحاملها فی ذلک الزمان، وقد تکرر نفس هذا المعنی فی عصر علی صلی الله علیه و آله مالک الأشتر النخعی وقال له علمت بوقوفک فی القتال وشجاعتک ولولا ذلک لدفعت الرایة إلی غیرک، فردّ علیه بالقول: «لأسرنّک الیوم یا مالک أو اُقتل شهیداً» (1).

ثم أشار الإمام علیه السلام فی وصیّته السابعة والأخیرة إلی قضیة أخری من تکتیکات الحرب أنذاک فقال: «أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَهُ (2)، وَآسَی (3)أَخَاهُ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ یَکِلْ قِرْنَهُ إِلَی أَخِیهِ، فَیَجْتَمِعَ عَلَیْهِ قِرْنُهُ وَقِرْنُ أَخِیهِ» .

یتضح المفهوم الدقیق لهذا الکلام فیما لو دققنا بصورة صحیحة علی وضع الحروب فی ذلک الزمان، فقد کانت للمعرکة فی ذلک الوقت ثالث صور (وأحیاناً کانت تتحقق الصور الثلاث فی نفس المعرکة) :

الأولی: أن یتقدم أحد الشجعان وسط المیدان ویدعو شجاعاً آخر من العدو لمبارزته، فیتبارزان حتی یهلک أحدهما.

الثانیة: أن یتقدم المیدان عدّة أفراد لیقف کل واحد منهم أمام خصمه فیبدأ بینهم القتال.

الثالثة: أن تدور المعرکة بین المعسکرین بأکملهما طبعاً هناک صورة رابعة تکون المعرکة فیها غادرة کأن تنهال طائفة علی فرد فتنزل علیه ضرباتها من کل جانب، ویبدو أنّ العبارة تشیر إلی هذه الصورة الثانیة التی یبرز فیها عدّة أفراد إلی أمثالهم، وفی هذه الحالة لا ینبغی لأحد أن یترک خصمه لآخر، بل یبارز کل واحد خصمه فیراعی المساواة والمواساة وتقف من خلال هذه الوصایا علی مدی خبرة الإمام علیه السلام بفنون القتال حیث یعرّف أصحابه علی أدق تفاصیل القتال قبل البدء فیه.

ص:169


1- 1) شرح نهج البلاغة للعلّامة التستری 13/558.
2- 2) «قرن» : الکفؤ وعدل الإنسان فی الشجاعة فی میدان القتال ویطلق أحیاناً القرن علی کل کفو، وقد اشتق فی الأصل من قرن بفتح القاف والاقتران الذی یعنی الاقتراب بین شیئین أو عدة أشیاء، ومن هنا یقال للزمان الطویل قرن حیث تکون فیه طائفة من الأجیال مع بعضها.
3- 3) «آسی» : من مادة «وسی» علی وزن مشی بمعنی عاون والمواساة تعنی المعاضدة ومساعدة کل واحد الآخر.

ص:170

القسم الثانی: الجنّة تحت ظلال السیوف

«وَایْمُ اللّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَیْفِ الْعَاجِلَةِ، لَاتَسْلَمُوا مِنْ سَیْفِ الْآخِرَةِ، وَأَنْتُمْ لَهَامِیمُ الْعَرَبِ، وَالسَّنَامُ الْأَعْظَمُ. إِنَّ فِی الْفِرارِ مَوْجِدَةَ اللّهِ، وَالذُّلَّ الْلَّازِمَ، وَالْعَارَ الْبَاقِیَ. وَإِنَّ الْفَارَّ لَغَیْرُ مَزِیدٍ فِی عُمُرِهِ، وَلَا مَحْجُوزٍ [محجوب] بَیْنَهُ وَبَیْنَ یَوْمِهِ. [مَن] الرَّائِحُ إِلَی اللّهِ کَالظَّمْآنِ یَرِدُ الْمَاءَ؟ الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِی! الْیَوْمَ تُبْلی الْأَخْبَارُ! وَاللّهِ لَأَنَا أَشْوَقُ إِلَی لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَی دِیَارِهِمْ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی ثلاثة أمور بهدف إعداد الأصحاب فی میدان القتال، فأحیاناً یهددهم إن هم فروا من القتال، وأخری یمدحهم ویتعرض لما یتحلون به من نقاط إیجابیة یراها فیهم، وأخیراً یشجعهم ویحثهم علی الثواب والأجر الاُخروی، وعلیه یمکن إیجاز هذا المقطع من الخطبة فی ثلاثه محاور هی: التهدید، والتشجیع، والتمجید، فقد قال علی مستوی المحور الأول: «وَایْمُ اللّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَیْفِ الْعَاجِلَةِ، لَاتَسْلَمُوا مِنْ سَیْفِ الْآخِرَةِ» .

فالعبارة سیف الآخرة إشارة إلی عذاب اللّه الذی یشمل الفارّین من میدان الجهاد، ولا شک أنّ الفرار من الزحف من الکبائر، وذلک لأنّ فرار عدّة أفراد یؤدّی إلی هزیمة عسکر جرّار ویقود حضارة عریقة إلی السقوط والإنیهار، أو یجعل العدو یسدد ضرباته الموجعة إلی

ص:171

الإسلام، ثم قال علی مستوی المحور الثانی، أی المدح والثناء: «وَأَنْتُمْ لَهَامِیمُ (1)الْعَرَبِ، وَالسَّنَامُ (2)الْأَعْظَمُ. إِنَّ فِی الْفِرارِ مَوْجِدَةَ (3)اللّهِ، وَالذُّلَّ الْلَّازِمَ، وَالْعَارَ الْبَاقِیَ. وَإِنَّ الْفَارَّ لَغَیْرُ مَزِیدٍ فِی عُمُرِهِ، وَلَا مَحْجُوزٍ (4)بَیْنَهُ وَبَیْنَ یَوْمِهِ» .

فهو یعدهم من جانب بصفتهم مبرزی شخصیات العرب التی تشد نحوها الأنظار، من جانب آخر یذکرهم بمساویء عار الفرار وهی الغضب الإلهی والذل الدائم والهوان والفضیحة الأبدیة، علی صعید آخر ذکرّهم بهذه النقطة وهی إن کان الهدف من الفرار هو التمتع بعمر أطول فانّ هذا الهدف لا یحصل بالفرار، ذلک لأنّه لا محیص من الممات والیوم الذی قدرّ فیه فلا یدفعه دافع.

نعم، قد یتصور الإنسان أنّه یحصل علی عمر أطول عن طریق الفرار، ولو فرض أنّ الأمر کذلک فما قیمة هذا العمر وهو یتضمن العواقب الثلاث متمثلة بغضب اللّه والذل والهوان الأبدی، وقد خاطب القرآن الکریم اُولئک الذین یشعرون بالقلق من تواجدهم فی جبهات القتال قائلاً: «قُلْ لَوْ کُنْتُمْ فِی بُیُوتِکُمْ لَبَرَزَ الَّذِینَ کُتِبَ عَلَیْهِمْ الْقَتْلُ إِلَی مَضَاجِعِهِمْ. . .» . (5)

ثم إختتم الإمام علیه السلام کلامه بعبارة قصیرة عمیقة المعنی تهدف حثهم علی جهاد العدو فقال: «مَن الرَّائِحُ (6)إِلَی اللّهِ کَالظَّمْآنِ یَرِدُ الْمَاءَ؟ الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِی (7)!» .

وأخیراً قال علیه السلام بأنّ الیوم تبلی أخبار وأعمال کلّ فرد ویتمیز فیها الغث من السمین:

ص:172


1- 1) «لهامیم» : جمع «لهموم» علی وزن حلقوم الجواد السابق من الإنسان والخیل.
2- 2) «سنام» : أعلی الجمل ثم اطلق علی کل شیء بارز.
3- 3) «موجدة» : من مادة «وجد» علث وزن نجد بمعنی الغضب، کما ورد بمعنی الحزن والمعنی الأول هو الأنسب هنا.
4- 4) «محجوز» : من مادة «حجز» بمعنی المنع.
5- 5) سورة آل عمران / 154. [1]
6- 6) «رائح» : من مادة «رواح» الاندفاع بسرعة خلف شیء.
7- 7) «العوالی» : جمع «العالیة» تعنی أسنة الرماح، کما تعنی الرمح.

«الْیَوْمَ تُبْلی الْأَخْبَارُ!» .

العبارة من الرائح إلی اللّه سبحانه إشارة إلی الأفراد الذین یقبلون بکلّ شوق ورغبة وعشق الشهادة، کعشق العطشان إلی الماء الزلال.

وقد أورد الإمام علیه السلام شبیه هذا المعنی فی وصیّته قبل الشهادة وبعد ضربته حیث قال: «وَمَا کُنْتُ إِلاَّ کَقَارِبٍ وَرَدَ، وَطَالِبٍ وَجَدَ. . .» (1). والعبارة الیوم تبلی الأخبار هی فی الواقع إقتباس من الآیة 31 من سورة محمد صلی الله علیه و آله: «وَلَنَبْلُوَنَّکُمْ حَتَّی نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِینَ مِنْکُمْ وَالصَّابِرِینَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَکُمْ» .

والفردة أخبار إمّا تعنی الأعمال أوالکلام والزعم والتی تبلی جمیعاً فی میدان الجهاد، والعبارة: «الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِی!» . تشبه العبارة التی أوردها رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی میدان معرکة أحد، حیث قال: «الجَنَّةُ تَحتَ ظِلالِ السُّیُوفِ» .

الجدیر بالذکر أنّ أحد الأنصار سمع هذا القول من رسول اللّه صلی الله علیه و آله وفی یده تمیرات یلوکها، فقال: بخ بخ! لیس بینی وبین الجنّة إلّاهذه التمیرات، ثم قذفها من یده وکسر جفن سیفه وحمل علی قریش فقاتل حتی قُتل (2).

ثم قال فی العبارة الأخیرة من أجل حث صحبه علی الجهاد: «وَاللّهِ لَأَنَا أَشْوَقُ إِلَی لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَی دِیَارِهِمْ» . بمعنی لا دافع عندهم للجهاد وهم یحرصون علی العودة إلی بیوتهم، بینما أحرص علی جهاد عدو الحق والعدالة، فالمراد هلموا لکل رغبة لمیدان الجهاد واعلموا أنّ النصر حلیفکم حین تقاتلون عدواً لا دافع له.

ص:173


1- 1) نهج البلاغة، الرسالة 23. [1]
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 8/6 [2] الحدیث (الجنّة تحت ظلال السیوف) ، کما ورد الحدیث فی بحار الانوار 97/13. [3]

ص:174

القسم الثالث: القضاء علی آخر معاقل العدو

«اللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا الْحَقَّ فَافْضُضْ جَمَاعَتَهُمْ، وَشَتِّتْ کَلِمَتَهُمْ، وَأَبْسِلْهُمْ بِخَطَایَاهُمْ. إِنَّهُمْ لَنْ یَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ دُونَ طَعْنٍ دِرَاکٍ، یَخْرُجُ مِنْهُمُ ] [مِنْهُ] ] النَّسِیمُ، وَضَرْبٍ یَفْلِقُ الْهَامَ، وَیُطِیحُ الْعِظَامَ، وَیُنْدِرُ السَّوَاعِدَ وَالْأَقْدَامَ؛ وَحَتَّی یُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسِرُ؛ وَیُرْجَمُوا بِالْکَتَائِبِ، تَقْفُوهَا الْحَلَائِبُ؛ وَحَتَّی یُجَرَّ بِبِلَادِهِمُ الْخَمِیسُ یَتْلُوهُ الْخَمِیسُ؛ وَحَتَّی تَدْعَقَ الْخُیُولُ فِی نَوَاحِرِ أَرْضِهِمْ، وَبِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَمَسَارِحِهِمْ» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علی علیه السلام فی هذا المقطع - الذی یمثل المقطع الأخیر من الخطبة - فی أمرین:

الأول: یدعو فیه علی العدو، وهوالدعاء الذی یجر علیهم الهزیمة والعذاب الإلهی ویشدّ من عزیمة صحبه ویضاعف إرادتهم فقال: «اللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا الْحَقَّ فَافْضُضْ (1)جَمَاعَتَهُمْ، وَشَتِّتْ کَلِمَتَهُمْ، وَأَبْسِلْهُمْ (2)بِخَطَایَاهُمْ» .

جدیر ذکره أنّ الإمام علیه السلام اشترط اللعن بعدم قبول الحق، وذلک لأنّ الهدف النهائی من هذا القتال لا یکمن فی الاستیلاء علی العدو والسلطة، بل لیس للإمام علیه السلام من هدف سوی قبول الحق، فانّ قبله انتفت الحرب، وهذه هی فلسفة قتال دعاة الحق وأهل الإیمان طیلة التاریخ.

ص:175


1- 1) «افضض» : من مادة «فضّ» علی وزن خط بمعنی الهزیمة.
2- 2) «أبسل» : من مادة «بسل» علی وزن نسل بمعنی المنع من الشیء أو القهر والغلبة والإبسال بمعنی التسلیم للهلکة والعبارة إشارة إلی هذا المعنی.

والأمر الآخر: هو أنّ الإمام علیه السلام ذکر اختلاف الکلمة ضمن دعائه کوسیلة لتفریق العدو وهزیمته والذنوب من أسباب البؤس والشقاء، ومن هنا کان دعاؤه درساً، لیس درس واحد بل دورس. وفی القسم الآخر من هذا المقطع من الخطبة أشار إلی وصیّة قتالیة مهمّة أخری فقال لهم، إن أردتم الانتصار علیکم بتوجیه الضربات الموجعة إلی العدو وأن تقوم کل فرقة من العسکر بمهمتها الخاصة ومتابعة العدو حین الهزیمة دون إمهاله لیتحقق النصر الشامل، فشرح ذلک قائلاً: «إِنَّهُمْ لَنْ یَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ دُونَ طَعْنٍ دِرَاکٍ (1)، یَخْرُجُ مِنْهُمُ النَّسِیمُ، وَضَرْبٍ یَفْلِقُ الْهَامَ، وَیُطِیحُ (2)الْعِظَامَ، وَیُنْدِرُ (3)السَّوَاعِدَ وَالْأَقْدَامَ» .

ثم واصل علیه السلام حدیثه مؤکداً علی ضرورة شن الهجمات علیهم تلو الهجمات وأن تتبنی فرقة مطاردتهم ورمیهم بالسهام، وأن تعاضد کل فئة الاُخری وتحمل علی العدو، کما یقوم الفرسان بمطاردتهم حتی المدن حتی نتدوس حوافر خیلکم آخر نقطة فی أرضهم والاستیلاء علی مسار الذهاب والأیاب والطرق المرای من کل جانب: «وَحَتَّی یُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ (4)تَتْبَعُهَا الْمَنَاسِرُ؛ وَیُرْجَمُوا بِالْکَتَائِبِ (5)، تَقْفُوهَا الْحَلَائِبُ (6)؛ وَحَتَّی یُجَرَّ بِبِلَادِهِمُ الْخَمِیسُ (7)یَتْلُوهُ ژالْخَمِیسُ؛ وَحَتَّی تَدْعَقَ (8)الْخُیُولُ فِی نَوَاحِرِ (9)أَرْضِهِمْ، وَبِأَعْنَانِ (10)مَسَارِبِهِمْ وَمَسَارِحِهِمْ (11)» .

ص:176


1- 1) «دراک» : من مادة «درک» متتابع متوال وکأن کل واحد منهم یدرک الآخر ویصله، وعلیه فانّ طعن الدراک بمعنی السهام التی تطلق تبعاً علی العدو.
2- 2) «یطیح» : من مادة «إطاحة» بمعنی الاسقاط.
3- 3) «یندر» : من مادة «اندار» بمعنی یسقط، کما یطلق علی طرح شیء من الحساب.
4- 4) «مناسر» : جمع «منسر» علی وزن محفل القطعة من الجیش تکون أمام الجیش العظیم ویطلق علیهاالطلیعة، ومنسر علی وزن منبر بمعنی منقار الطیور.
5- 5) «کتائب» : جمع «کتیبة» طائفة من الجیش من مئة إلی ألف.
6- 6) «الحلائب» : جمع «حلیبة أو حلوبة» بمعنی الجماعة التی تجتمع علی صوب، کما تطلق علی الخیّالة.
7- 7) «الخمیس» : بمعنی الجیش الکامل الذی یتألف من خمسة أقسام، المقدّمة والمیمنة والمیسرة والقلب والساقة.
8- 8) سیأتی تفسیر کلمة «تدعق» فی کلام السید الرضی.
9- 9) سیأتی تفسیر کلمة «نواحر» فی کلام السید الرضی.
10- 10) «أعنان» : قال صاحب لسان العرب جمع «عنن» علی وزن کفن بمعنی نواحی الشیء وأطرافه.
11- 11) «مسارب» : جمع «مسربة» بمعنی المرعی وکذلک مسارح بمعنی المرعی، إلّاأن بعض شرّاح نهج البلاغة [1]ذهب إلی أنّ المسارب ما یسرب فیه المال والمرعی، والمسارح ما یسرح فیه والفرق بین مسرح ومسرب أنّ السروح إنّما یکون فی أول النهار ولیس ذلک بشرط فی السروب. (شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 8/9) . [2]

فقد علم الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة جنوده الآداب الفردیة للقتال، وفی القسم الأخیر الآداب الجماعیة فی کیفیة عمل الکتائب والفرق والخیّالة والمشاة وتنسیقها فیما بینهما تجاه العدو والاعتماد علی الأسالیب العلمیة فی القضاء علی العدو، ومن النقاط المهمّة التی تطرق إلیها الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة هی عدم التوانی فی إتمام النصر علی العدو، وربّما کانت للإنسحابات أبعاد المباغتة، والهدف تشدید الحملات، فلا یدمی تعقیب العدو إلی أقصی نقاط مناطقة والاستیلاء علی کل مکان لیزول بالمرة أی احتمال لأنّ یشن العدو هجماته.

والحق لو عمل جیش الإمام علیه السلام بهذه الوصیّة فی صفین والتی أوردها الإمام علیه السلام قبل المعرکة لخمدت فتنة بنی أمیة إلی الأبد ولزال شبح ظلمهم وجور حکمهم عن المسلمین، ولکن واللأسف فقد سمعوا کل هذه الوصایا وضربوها عرض الحائط فتجرعوا مرارة تمردهم.

خاض المرحوم السید الرضی رضی الله عنه فی نهایة هذه الخطبة بشرح بعض مفرداتها الصعبة فقال:

الدعق: الدق، أی تدق الخیول بحوافرها أرضهم، ونواحر أرضهم: متقابلاتها ویقال: منازل بنی فلان تتناحر أی تتقابل، انتهی کلام السید الرضی.

ولکن فسّر أغلب أرباب اللغة النواحر بمعنی المناطق البعیدة وهذا ما یناسب الخطبة.

ص:177

ص:178

الخطبة المأة والخامسة والعشرون

اشارة

(1)

ومِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

فی التحکیم وذلک بعد سماعه لأمر الحکمین

نظرة إلی الخطبة

کما ورد فی السابق انّ هذه الخطبة وردت بصورة عامّة بشأن التحکیم بعد معرکة صفین، وهی تتألف من عدّة أقسام، فقد بیّن الإمام علیه السلام قبول التحکیم من خلال الاستدلال بالآیات القرآنیة.

وفی القسم الثانی یتکفّل بالردّ علی الاعتراضات

والقسم الثالث والأخیر ینصح الإمام علیه السلام بالکفّ عن الخلاف وإعداد أنفسهم من أجل الوقوف بوجه ظلمة الشام کما ذمّهم علی ما أبدوه من تقصیر واعتراض وعدم انضباط.

ص:179


1- 1) سند الخطبة: تطرق المؤرخ المعروف الطبری فی حوادث عام 37 ه إلی هذه الخطبة وشأن صدورها وخلاصته أنّ الإمام علیه السلام أورد هذا الکلام فی الخوارج حین حاججهم ابن عباس، حیث أمر الإمام علیه السلام ابن عباس بالسکوت، ثم حمد اللّه وأثنی علیه وقال لهم: «من إمامکم؟ قالوا: ابن الکواء، قال: لم خالفتمونی، قالوا: لقبولک التحکیم فی صفین، فقال: ناشدتکم اللّه ألم تطالبونی بالکفّ عن القتال حین رفعت المصاحف علی أسنة الرماح، فقلت: لکم إنی أعلم بهم منکم، فلا دین لهم ولا قرآن، فلم تسمعوا قولی وأبیتم إلّاالتحکیم فقبلت، لکنّی اشترطت علیهم أن یحکموا القرآن وإلّا لا نستجیب لحکمهم؟ قالوا: أمن العدل تحکیم الأفراد فی دماء المسلمین؟ قال علیه السلام: إننا لم نحکم الرجال بل حکمنا القرآن. ثم أورد الطبری جانباً من الخطبة، کما نقلها باختلاف طفیف السبط بن الجوزی فی تذکرة الخواص، والمرحوم المفید فی الإرشاد، والطبرسی فی الاحتجاج.

ص:180

القسم الأول: الردّ علی الخوارج

اشارة

«إِنَّا لَمْ نُحَکِّمِ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا حَکَّمْنَا الْقُرْآنَ. هذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَیْنَ الدَّفَّتَیْنِ، لَایَنْطِقُ بِلِسَانٍ، وَلَابُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ. وَإِنَّمَا یَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ. وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَی أَنْ نُحَکِّمَ بَیْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَکُنِ الْفَرِیقَ الْمُتَوَلِّیَ عَنْ کِتَابِ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی، وَقَدْ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَالرَّسُولِ) . فَرَدُّهُ إِلَی اللّهِ أَنْ نَحْکُمَ بِکِتَابِهِ، وَرَدُّهُ إِلَی الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ؛ فَإِذَا حُکِمَ بِالصِّدْقِ فِی کِتَابِ اللّهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ حُکِمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَاهُمْ بِهَا» .

الشرح والتفسیر

کما ورد سابقاً فانّ الخطبة ردّ علی اعتراض قبول الإمام علیه السلام للتحکیم، ومضمون کلام المعترضین: لم قبلت تحکیم فردین فی هذا الأمر الدینی المهم؟ والحال لا حکم إلّاللّه ولیس لعامة الأفراد من حق فی الحکم فی الوظائف الدینیة، أمّا الإمام علیه السلام فقد أشار فی ردّه إلی نقطة مهمّة فقال: «إِنَّا لَمْ نُحَکِّمِ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا حَکَّمْنَا الْقُرْآنَ. هذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ (1)بَیْنَ الدَّفَّتَیْنِ (2)، لَایَنْطِقُ بِلِسَانٍ، وَلَابُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ. وَإِنَّمَا یَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ» .

ص:181


1- 1) «مستور» : الشیء الخفی، إلّاأن هذه المفردة وردت مسطورة فی بعض النسخ من مادة سطر وردت صفةللخط فی العبارة وهی أنسب.
2- 2) «دفتین» : مثنی «دفة» بمعنی جانب کل شیء ویقال دفتین لجانبی الکتاب أو القرآن.

إشارة إلی أنّ القرآن الکریم بیّن طائفة من الأحکام الکلیة وعلی العالمین بالقرآن استنباط الأحکام الجزئیة وإبلاغها إلی عموم الناس، أو بعبارة أخری تطبیق تلک الکلیات علی المصادیق، علی سبیل المثال قال القرآن الکریم: «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَی الْأُخْرَی فَقَاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتَّی تَفِیءَ إِلَی أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ» (1).

لا شک أنّ معرکة صفین أحد مصادیق هذه الآیة، ووظیفة الحکمین - إن کانا علی الصواب وعالمین بالاُمور - أن یقولا: لمّا بایع الناس علیاً علیه السلام إضافة إلی نص النبی الأکرم صلی الله علیه و آله علیه فانّ عامة الاُمة والصحابة قد قبلت خلافته، فمن سلک غیر هذا السبیل کان مصداقاً للباغی والظالم وعلیه العودة إلی الاُمة و التوبة، فان أبی وجب علی المسلمین مقاتلته حتی یرعوی عن غیه.

ومسألة التحکیم لا تشذ عن هذا الأمر، فهی لیست سوی ما یقوم به قضاة الإسلام، أی أنهم یطبقون أحکام الکتاب والسنّة علی مصادیقها ویصدرون الأحکام بهذا الخصوص، فهل هناک من اعتراض علی هذا الکلام؟ للأسف لم یدرک الخوارج الجهال هذا المطلب الواضح ولم یدعهم تعصبهم وجهلهم لیفهموا ذلک فیعوا الهدف الأصلی من الحکومة.

ثم خاض الإمام علیه السلام فی توضیح هذا المعنی قائلاً: «وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَی أَنْ نُحَکِّمَ بَیْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَکُنِ الْفَرِیقَ الْمُتَوَلِّیَ عَنْ کِتَابِ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی، وَقَدْ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَالرَّسُولِ» (2)» .

فوضح الإمام علیه السلام الآیة بالقول: «فَرَدُّهُ إِلَی اللّهِ أَنْ نَحْکُمَ بِکِتَابِهِ، وَرَدُّهُ إِلَی الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ؛ فَإِذَا حُکِمَ بِالصِّدْقِ فِی کِتَابِ اللّهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ حُکِمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَاهُمْ بِهَا» .

ومن هنا فقد أثبت الإمام علیه السلام بوضوح أنّ تحکیم الکتاب والسنّة لا تعنی سوی الرجوع إلیهما، ولما کنّا مأمورین بهذا الأمر، فلیس لأحد أن یعترض علینا لم قبلنا التحکیم، فخطأ

ص:182


1- 1) سورة الحجرات / 9. [1]
2- 2) سورة النساء / 59. [2]

المعترض فی تصوره أننا قبلنا تحکیم الأشخاص، والحال إننا لم نقبل سوی تحکیم کتاب للّه.

وهنا سؤال یطرح نفسه: یفهم من کلام الإمام علیه السلام هذا أنّه قبل التحکیم علی ضوء رغبته ورضاه ووظیفته الشرعیة، والحال یفهم من عدّة خطب وردت فی نهج البلاغة أنّ التحکیم فرض علی الإمام علیه السلام وکان ممتعظاً من هذا الأمر، فکیف یمکن حلّ هذا التناقض؟

لابدّ من القول فی الإجابة عن هذا السؤال أنّ الإمام علیه السلام لم یکن مخالفاً للتحکیم قط، بل کان الإمام علیه السلام یؤکد علی أمرین: الأول: هو أنّ رفع المصاحف علی أسنة الرماح کان خدیعة ومؤامرة تهدف الحیلولة دون انتصار جیش الإمام علیه السلام فی اللحظات الأخیرة من المعرکة، وإیجاد الفرقة والاختلاف بین صفوف عسکر الإمام علیه السلام، وإلّا فأهل الشام لم یکونوا مستعدین لقبول تحکیم القرآن الکریم، فلم یکونوا من أهل الدین ولا القرآن حسب تعبیر الإمام علیه السلام (1).

الأمر الآخر: هو أنّ الإمام علیه السلام کان معترضاً علی أبی موسی الأشعری کممثل له فی تحکیم القرآن، وعلیه فلیس هنالک من تناقض بین هذه الخطبة وسائر الخطب نهج البلاغة، والشاهد علی ذلک ما فعله الإمام الحسین علیه السلام یوم عاشوراء طبق نقل أرباب المقاتل أنّه وضع المصحف علی رأسه وخاطب أهل الکوفة: «یا قَومِ إِنّ بَینِی وَبَینَکُم کِتابُ اللّهِ وَسُنَّةُ جَدِّی رَسُولُ اللّهِ» (2).

قضیة التحکیم

نعلم أنّ جیش معاویة حین أشرف علی الهزیمة المنکرة فی صفین، فبادر عمرو بن العاص المعروف بمکره إلی توصیة أهل الشام برفع المصاحف علی أسنة الرماح والقول بالتسلیم لحکم القرآن، من جانبه قال الإمام علیه السلام بأنّ هؤلاء لا یسلمون لحکم القرآن ولیس ذلک سوی خدعة بهدف منع تلک الهزیمة الحتمیه، إلّاأنّ فئة من جهّال عسکر الإمام علیه السلام إلی جانب

ص:183


1- 1) کما ورد فی سند هذه الخطبة.
2- 2) مسند الإمام الشهید 2/43، وقد نقل هذا الأمر فی الأصل مقتل الحسین، للمقرّم وقد نقله عن تذکرة الخواص لابن الجوزی (مقتل الحسین /233) . [1]

المنافقین لم یسمعوا کلام الإمام علیه السلام وأصروا علی إیقاف المعرکة، حتی هددوا الإمام علیه السلام بالقتل، فلم یکن من الإمام علیه السلام وبهدف الحیلولة دون ذلک الاختلاف والشقاق وبحکم الإجبار إلّاأنّ أصدر أوامره بایقاف القتال.

ثم قالوا بوجوب انتخاب فردین من العسکرین لتحکیم القرآن، والعجیب أن طائفة منهم بعد ذلک وقفوا بوجه الإمام وهبّوا لمخالفته والاعتراض علیه فی قبوله للتحکیم، الخطأ الآخر الذی بدر من الجهّال والمنافقین هو اختیارهم لأبی موسی الأشعری الجاهل کحَکم وفرضوه علی الإمام علیه السلام وهو الأمر الذی أدّی إلی تلک الانتکاسة المریرة والعجیب فی الأمر فئة بعد هذه الحادثة رفعت رایة التمرد علی الإمام علیه السلام معترضة علی قبوله للتحکیم، فی حین هذا القرآن یصرّح قائلاً: «إنِ الحُکْمُ إِلّا للّهِ» (1)، فکان من نتائج ذلک وقوع معرکة أخری عرفت بمعرکة النهروان، وقد رجعت طائفة منهم إلی نفسها بعد أن سمعت کلام الإمام علیه السلام فتابت إلی اللّه سبحانه، ولم تبق إلّافئة قلیلة لم یکتب لها الدوام، وقد کان عمل الإمام علیه السلام واضحاً فی هذا الأمر للأسباب التالیة:

1 - تحکیم القرآن فی حلّ الخلافات العالقة بین المسلمین لیس بخفی علی أحد، وقد أمر القرآن المسلمین صراحة بالرجوع إلی کتاب اللّه وسنّة نبیّه صلی الله علیه و آله فی حالة حدوث اختلاف بینهم (الآیة 59 من سورة النساء التی استشهد بها الإمام علیه السلام فی کلامه) . وبناءاً علی ما سبق فتحکیم القرآن واستناداً لعقیدة کافة المسلمین الذین للقرآن الکلمة الفصل فی حل المنازعات لیست بالأمر الذی یدعو إلی الاعتراض علی الإمام علیه السلام، لکن لم یکن من اُولئک الجهّال إلا أن یصوروا الأمر علی أنّه نقطة ضعف فی الإمام علیه السلام.

2 - لا شک أنّ الذین أثاروا فتنة رفع المصاحف علی أسنة الرماح لم یکن لهم من اعتقاد بحکم القرآن ولا الحق والعدل، بل لم یکن لساسة الکفر عدیمی الإیمان من همّ سوی التسلط علی الاُمة والهیمنة علی إمکانهاتها المادیة، وقد کشف الإمام علیه السلام اللثام منذ البدایة عن کنه هذه المؤامرة، ولکن ما جدوی ذلک حیال الجهّال الذین رفضوا منطق الإمام علیه السلام.

ص:184


1- 1) سورة یوسف / 67. [1]

3 - قطعاً لیس للقرآن من دور فی التحکیم من خلال نفسه، وإنّما یتسنی ذلک بواسطة أهل الذکر العالِمین بالقرآن فیجتهدون فی استنباط أحکامه فی کل مسألة وإبلاغها إلی الناس، ولو حصل هذا الأمر فی حادثة صفین لتبیّن أنّ عسکر معاویة مشمولون بالآیة التاسعة من سورة الحجرات القائلة: «فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَی الْأُخْرَی. . .» فینبغی إدانتهم بصفتهم بغاة طغاة هبّوا للوقوف بوجه إمام المسلمین والحکومة الإسلامیة.

والمؤسف أنّ الحکمین هما أبو موسی الأشعری وعمرو بن العاص اللذان لیس لهما من علم بالقرآن، ونهض بالأمر من هو عارف بالقرآن، فانّ ذلک لیس خلافاً فحسب، بل یمثل عملاً بالقرآن وأحکامه، لکن حیث لم تحصل الشرائط اللازمة فی أیة مرحلة، وکانت النتیجة مریرة علی تلک الفئة الجاهلة، فعمدت إلی لوم الإمام علیه السلام بدلاً من ذمّها لنفسها، فلم تعمد لإصلاح منظرها، بل اتجهت إلی کسر المرآة، طبعاً لا ینبغی تصور قضیة التحکیم علی أنّها ترتبط بحادثة تاریخی عابرة، بل هی قضیة تکرر فی مختلف العصور والأزمنة وحتی فی عصرنا الحاضر، فهناک من یتستر خلف بعض المقدسات من ثم یحملوها بعض القراءات الخاطئة عن علم وبدونه ویختارون ما یتماشی ومصالحهم اللامشورعة.

فلعمروا بن العاص وأبو موسی الأشعری - هذان الجاهلان - أشباههما فی کل زمان، وأما أکثر ما تتکرر واقعة صفین وحمل المصاحف علی السنان والتحکیم التی تتخذ لنفسها صوراً مختلفة، فلا تتمخض سوی عن النتائج التی تؤدّی إلی مظلومیة من یسیر علی النهج العلوی.

ص:185

ص:186

القسم الثانی: لستم من أهل الجهاد

اشارة

«وَأَمَّا قَوْلُکُمْ: لِمَ جَعَلْتَ بَیْنَکَ وَبَیْنَهُمْ أَجَلاً فِی التَّحْکِیمِ؟ فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذلِکَ لِیتَبَیَّنَ الْجَاهِلُ، وَیَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ؛ وَلَعَلَّ اللّهَ أَنْ یُصْلِحَ فِی هذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هذِهِ الْأُمَّةِ؛ وَلَاتُؤْخَذُ بِأَکْظَامِهَا، فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَیُّنِ الْحَقِّ، وَتَنْقَادَ لِأَوَّلِ الْغَیِّ. إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللّهِ مَنْ کَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَیْهِ - وَإِنْ نَقَصَهُ وَکَرَثَهُ - مِنَ الْبَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَیْهِ فَائِدَةً وَزَادَهُ. فَأَیْنَ یُتَاهُ بِکُمْ! وَمِنْ أَیْنَ أُتِیتُمْ! اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِیرِ إِلَی قَوْمٍ حَیَارَی عَنِ الْحَقِّ لَایُبْصِرُونَهُ، وَمُوزَعِینَ بِالْجَوْرِ لَایَعْدِلُونَ بِهِ، جُفَاةٍ عَنِ الْکِتَابِ، نُکُبٍ عَنِ الطَّرِیقِ. مَا أَنْتُمْ بِوَثِیقَةٍ یُعْلَقُ بِهَا، وَلَا زَوَافِرَ عِزٍّ یُعْتَصَمُ إِلَیْهَا. لَبِئْسَ حُشَّاشُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ! أُفٍّ لَکُمْ! لَقَدْ لَقِیتُ مِنْکُمْ بَرْحاً، یَوْماً أُنَادِیکُمْ وَیَوْماً أُنَاجِیکُمْ، فَلَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ ] [القَاء] [ ، وَلَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ النَّجَاءِ!» .

الشرح والتفسیر

یتألف کلام الإمام علیه السلام فی الواقع من قسمین: الأول یعالج شبهات الخوارج وأمثالهم، ثم یحثهم علی جهاد ظلمة الشام، فکلام الإمام علیه السلام فی القسم الأول إشارة إلی میثاق التحکیم الذی وقع بین الإمام علیه السلام ومعاویة (وسیأتی شرح ذلک فی موضوع تأملات) وعلی ضوء العهد فقد منح الحکمان مدّة سنة لحلّ اختلاف الاُمة دون التسرع فی ذلک، والمعترضون الجهّال یشکلون أحیاناً علی أصل التحکیم والذی أجاب علیه الإمام علیه السلام فی القسم السابق من الخطبة، وأحیاناً أخری کانوا یشکلون علی تفاصیله، أی مسألة المدّة، ومن هنا ردّ الإمام علیه السلام علی الإشکال

ص:187

الأخیر بالقول: «وَأَمَّا قَوْلُکُمْ: لِمَ جَعَلْتَ بَیْنَکَ وَبَیْنَهُمْ أَجَلاً فِی التَّحْکِیمِ؟ فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذلِکَ لِیتَبَیَّنَ الْجَاهِلُ، وَیَتَثَبَّتَ (1)الْعَالِمُ» .

ثم أضاف: «وَلَعَلَّ اللّهَ أَنْ یُصْلِحَ فِی هذِهِ الْهُدْنَةِ (2)أَمْرَ هذِهِ الْأُمَّةِ؛ وَلَاتُؤْخَذُ بِأَکْظَامِهَا (3)، فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَیُّنِ الْحَقِّ، وَتَنْقَادَ لِأَوَّلِ الْغَیِّ» .

فقد بیّن الإمام علیه السلام عدّة فوائد للأجل الوارد فی مسألة التحکیم، الأولی: أن یتریث الجهّال ویکفّوا عن شططهم وتعصبهم ویحققوا فی المسألة المصیریة، والأخری: أنّ یقوم القوم علماء الاُمّة من أصحاب علی علیه السلام بدراسة جوانب المسألة ویختاروا ما ینطوی علی الحدّ الأدنی من الخسائر ویهدوا الحکمین لانتخاب الصحیح، والثالثة: التفکیر خلال هذه المدّة فی الطرق التی تتکفّل بإصلاح أمر الاُمة بصورة کلیة واجتناب الأفعال المتسرعة التی تقود إلی الضلال، والغریب فی الأمر التسرع والطیش الذی مارسه الخوارج الجهّال بهذا الشأن لیعرضوا مصیر الامة للخطر دون أدنی دراسة وتحقیق، وهذا هو دیدن الجهّال من الأفراد فی کل عصر ومصر.

أمّا العبارة: «لَاتُؤْخَذُ بِأَکْظَامِهَا» فهی کنایة عن الحریة من أجل المطالعة واتخاذ القرار والانتخاب، وهی کنایة فصیحة وبلیغة، . والعبارة: «تَنْقَادَ لِأَوَّلِ الْغَیِّ» إشارة إلی أنّ التسرع فی القرار ضلالة عادة.

وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بأول الغی رفع المصاحف علی أسنة الرماح التی تعدّ أول خطوة فی الضلال (4)، ویبدو التفسیر الأول بقرینة الجملة التی سبقتها أنسب.

ثم خاض الإمام علیه السلام فی نصحهم ووعظهم بالانقیاد للحق وعدم مجابهته بالتعصب واللجاجة وملاحظة المنافع الشخصیة، فقال: «إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللّهِ مَنْ کَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَیْهِ - وَإِنْ نَقَصَهُ وَکَرَثَهُ (5)- مِنَ الْبَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَیْهِ فَائِدَةً وَزَادَهُ» .

ص:188


1- 1) «یتثبت» : من مادة «ثبت» بمعنی التحقیق.
2- 2) «هدنة» : من مادة «هدون» علی وزن قرون بمعنی الهدوء والسکون، وتستعمل عادة بمعنی المصالحة بعدالقتال أو وقف اطلاق النار.
3- 3) «أکظام» : جمع «کظم» علی وزن عزم وجمع کظم علی وزن قلم بمعنی مخرج النَفَس.
4- 4) منهاج البراعة، للعلّامة الخوئی 8/180.
5- 5) «کرث» : من مادة «کرث» بمعنی شدّة الغم.

الواقع إنّ علامة المؤمن الحقیقی هی هذه، یعنی ان وقف علی مفترق طرق بحیث کان الحق فی جانب والمنافع الشخصیة فی جانب آخر، ولی ظهره لمنافعه الشخصیة واندفع نحو الحق، وإلّا فلا فخر فی تعصب الإنسان للحق الذی ینسجم مع حفظ مصالحه الشخصیة، ومن هنا ذمّ القرآن الکریم طائفة من الیهود التی عملت علی هذا الضوء فقالوا: «نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَکْفُرُ بِبَعْضٍ. . .» (1)، کانت تلک الطائفة تذعن للقوانین الموافقة لمیلها ورغبتها وتحقق منافعها، بینما تتمرد علی تلک التی تتعارض ورغباتها، والحق إنّ مثل هذا التفکیک لا یعنی عبادة اللّه سبحانه، بل عبادة الهوی، ویصدق هذا الکلام علی الأفراد الذین یهبّون لنصرة الباطل بدافع التعصب واللجاجة ودعم الأصدقاء والقرابة، وقد ورد مثل هذا الکلام عن علی علیه السلام فی خطابه لعمرو بن العاص حیث أقسم أنّه یعرف الحق، إلّاأنّه یتجاهله، ولم یدفعه للإلتحاق بصفوف أعداء اللّه سبحانه سوی منافعه (2).

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه قائلاً: «فَأَیْنَ یُتَاهُ (3)بِکُمْ! وَمِنْ أَیْنَ أُتِیتُمْ (4)!» .

آنذاک دعاهم لجهاد القوم الظالمین، وقد نعتهم بخمس صفات سلبیة تتمثل بحیرتهم عن الحق وعدم رؤیته وقد شجعوا علی الظلم و الجور، ومن هنا فلا یسعهم الاقلاع عنه، وقد ابتعدوا عن کتاب اللّه وانحرفوا عن الصراط، رغم حملهم المصاحف ووضعها علی الرماح وکلامهم عن تحکیم القرآن الکریم: «اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِیرِ إِلَی قَوْمٍ حَیَارَی عَنِ الْحَقِّ لَا یُبْصِرُونَهُ، وَمُوزَعِینَ (5)بِالْجَوْرِ لَایَعْدِلُونَ بِهِ، جُفَاةٍ عَنِ الْکِتَابِ، نُکُبٍ (6)عَنِ الطَّرِیقِ» .

وهکذا أشار الإمام علیه السلام إلی إننا نمتلک خمسة أدلّة قاطعة إن أردنا قتال هؤلاء وکل واحد من هذه الأدلة یکفی سبباً لقتالهم!

ص:189


1- 1) سورة النساء / 150. [1]
2- 2) شرح نهج البلاغة، للمرحوم التستری 10/263؛ تاریخ الطبری 4/50 طبعة الأعلمی بیروت.
3- 3) «یتاه» : من مادة «تیه» علی وزن قید بمعنی الحیرة والاضطراب، ویقال التیه للصحراء التی یحتار فیها الإنسان.
4- 4) «اتیتم» : من مادة «إتیان» لها معانی مختلفة وتعنی هنا الانخداع والتسلیم للباطل.
5- 5) «موزعین» : من مادة «ایزاع» بمعنی التشجیع وإیجاد الرغبة فی شیء وترد بمعنی الإلهام والتوفیق، والمعنی الأول هو ا لمراد بها فی هذه العبارة.
6- 6) «نکب» : جمع «ناکب» من مادة نکب علی وزن نفی الانحراف عن الشیء.

فقد حادوا عن الصواب وانحرفوا عن الصراط، ولا یکترثون للقرآن الکریم، اعتادوا علی الظلم والجور، وقد عجزت أعینهم عن رؤیة الحق فأصبحوا یدورون حول ذواتهم.

ثم لهج لسان الإمام علیه السلام بالشکوی فی عباراته الأخیرة وعرضّهم لأشدّ الذمّ واللوم، لعلهم یفیقون إلی أنفسهم ویعیدون النظر فی أعمالهم فقال: «مَا أَنْتُمْ بِوَثِیقَةٍ یُعْلَقُ بِهَا، وَلَا زَوَافِرَ (1)عِزٍّ یُعْتَصَمُ إِلَیْهَا. لَبِئْسَ حُشَّاشُ (2)نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ!» .

ثم شدد علیه السلام فی تقریعهم فقال: «أُفٍّ لَکُمْ! لَقَدْ لَقِیتُ مِنْکُمْ بَرْحاً (3)، یَوْماً أُنَادِیکُمْ وَیَوْماً أُنَاجِیکُمْ، فَلَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ ] [القَاء] [ ، وَلَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ النَّجَاءِ (4)!» .

فقد تطرق الإمام علیه السلام إلی حقیقة فی هذه العبارات وهی إن کانت هنالک من مشکلة قد ظهرت فی أمر الجهاد وحکومته علیه السلام فانّما مرد ذلک إلی عدم کفاءة جمع من صحبه، وذلک لأنّهم کانوا یبدون الضعف والوهن فی کل میدان یطرقه الإمام علیه السلام، ومن الطبیعی أنّ هناک ضرورة للصولة المقتدرة فی بدایة المعرکة والتی ینبغی أن تحصل من قبل الرجال الأشداء والشجعان والمخلصین، ولم یکن من ینهض بهذا الدور فی معسکر الإمام علیه السلام، من جانب آخر فان القائد حین ینادی أن أحملوا! فلابدّ من حرکة الجمیع بشکل منسجم، إلّاأنّهم کانوا أضعف وأوهن من ذلک، وإن کانت هناک من خطط حربیة یطلعون علیها بصورة سریة، لابدّ أن یجدوا ویجتهدوا فی حفظها، إلّاأنّهم لم یکونوا من حفظة الأسرار ویوثق بهم، وعلیه لا یبدو من الصواب توقع حصول نصر خاطف فی ظلّ وجود مثل هؤلاء الأفراد، والعجیب فی الأمر فانّ مثل هؤلاء الأفراد وبهذا المدی من الضعف والوهن حین یصابون بفشل، فهم یوعطونه إی الخارج ویحملوا الإمام علیه السلام مسؤولیة زلاتهم دون أن یهموا ویفتشوا عن أسباب ذلک فی أنفسهم، وهذه مشکلة کبری.

ص:190


1- 1) «زوافر» : جمع «زافرة» من مادة علی وزن فقر بمعنی الألم والصراخ، ولما کان أعوان الإنسان بصفتهم المواسین فی الألم والأنین فقد اطلقت مفردة الزافرة علی النصیر وهذا هو المعنی المراد فی العبارة.
2- 2) «حشاش» : حمع «حاش» من مادة حش علی وزن شک بمعنی إیقاد النار، والمراد بها هنا الأفراد الذین یسددون أولی الضربات للعدو.
3- 3) «برح» : بفتح الباء الشدّة والغضب.
4- 4) «نجاء» : ونجوی الهمس فی الاذن والشیء الذی یقال للآخرین سراً.

تأمّلان

1 - عهد صفین

حین استغل ظلمة الشام قضیة رفع المصاحف علی أسنة الرماح وخدعوا بها أهل العراق، ففرض الصلح علی أمیرالمؤمنین علی علیه السلام کتب هذا العهد بین الفریقین:

«هذا مَا تَقاضی عَلَیهِ عَلَیِّ بِن أَبِی طَالب (1)وَمُعاوِیةُ بِنْ وأَبِی سُفیانِ، قاضِی عَلَیِّ بِن أَبِی طَالبٍ عَلَی أَهْلِ العِراقِ وَمنْ کَانَ مَعَهُ مِنْ شِیعَتِهِ مَنَ المُؤمِنِینَ وَالمِسلِمِینَ وَقاضِی مُعاوِیةُ بِنْ وأَبِی سُفیانِ عَلَی أَهْلِ الشّامِ وَمنْ کَانَ مَعَهُ مِنْ شِیعَتِهِ مَنَ المُؤمِنِینَ وَالمِسلِمِینَ أَنّا نَنْزِلَ عِنْدَ حُکمِ اللّهِ وَکِتابِهِ وَلا یَجمَعُ بَینَنا إلّاإِیّاهُ وإنَّ کِتابَ اللّهِ سُبحانَهُ بَینَنا مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلی خاتِمَتِهِ نُحیی مَا أَحیا القُرآنُ ونُمِیتُ مَا أَماتَ القُرآنُ فإنْ وَجَدَ الحَکَمانِ أَنَّ ذَلِکَ فِی کِتَابَ اللّهِ إِتَّبَعنَاهُ وَإن لَمْ یَجِداه أَخَذا بِسُّنَّةِ العادِلَةِ غَیرِ المُفَرِّقَةِ وَالحَکَمَانِ عِبْدَاللّهِ بِن قَیْسِ وَعَمرو بِنْ العاصِ» (2).

وقد نقل هذا الصلح أو العهد (أو مهما سمیته) فی مختلف الکتب مع اختلاف طفیف، وکلها تشیر إلی أنّ المسألة کانت مسألة تحکیم القرآن الکریم لا تحکیم الأشخاص، وبعبارة أخری فانّ الأشخاص کانوا مکلّفین باستنباط ما فی القرآن بهذا الشأن وتطبیقه علی مصادیقه، بینما اعتبرها الخوارج تحکیم للأفراد فی دین اللّه فأثاروا مختلف الویلات والمأسی التی أفرزتها الجهل والحماقة.

2 - حوار الإمام علیه السلام مع الخوارج

روی أنّ أمیر المؤمنین علی علیه السلام أرسل عبداللّه بن عباس إلی الخوارج وکان بمرآی منهم

ص:191


1- 1) ورد فی أغلب التواریخ أنّ کتّاب الإمام علیه السلام کتبوا أمیرالمؤمنین إلی جانب إسمه، فاعترض عمرو بن العاص وقال: لو علمناک أمیراً للمؤمنین فلابد أن یکون من یعادیک أمیراً للفاسقین، لابدّ من محو هذه الکلمة، فأطرق علی علیه السلام وذکر صلح الحدیبیة فقال: «اللّه أکبر لقد کتبت محمد رسول اللّه صلی الله علیه و آله فاعترض الکفّار وطالبوا بمحو رسول اللّه، فلم أفعل، فأشار علیَّ النبی أن أمحوها ثم محاها بنفسه دفعاً للفتنة، فغضب عمرو بن العاص وقال تشبهنا بالکفّار فلن أبق فی هذا المجلس - فقال علیه السلام: أسأل اللّه أن یطهر مجلسی من مثلک، ثم استمر الکلام حول کتابة لقب أمیر المؤمنین حیث رأی البعض عدم محوها وإن شهرت السیوف، ولکن محیت تلک الکلمة آخر الأمر (انظر تاریخ الطبری 4/37 [1] والتواریخ الأخری) .
2- 2) بحار الانوار 32/542؛ [2] وقد ورد هذا العهد فی تاریخ الطبری 4/38 [3] مع بعض الاختلاف.

ومسمع لیسألهم ما الذی نقموا علیه؟ فقالوا فی الجواب: نقمنا یابن عباس علی صاحبک خصالاً کلها موبقة مکفرة تدعو إلی النار:

أمّا أولها: فانّه محی اسمه من إمرة المؤمنین، ثم کتب بینه وبین معاویة فإذا لم یکن أمیر المؤمنین فنحن المؤمنون فلسنا نرضی أن یکون أمیرنا.

وأمّا الثانیة: فانّه شک فی نفسه حین قال للحکمین: انظر فانّ کان معاویه أحق بها فأثبتاه، وإن کنت أولی بها فأثبتانی، فاذا هو شک فی نفسه، فنحن فیه أشدّ شکاً.

والثالثة: أنّه جعل الحکم إلی غیره وقد کان عندنا أحکم الناس.

الرابعة: أنّه حکّم الرجال فی دین اللّه ولم یکن ذلک إلیه.

الخامسة: أنّه قسم بیننا الکراع والسلاح یوم البصرة ومنعنا النساء والذریة.

السادسة: أنّه کان وصیّاً فضیّع الوصیّة.

قال ابن عباس: قد سمعت یا أمیر المؤمنین مقالة القوم فأنت أحق بجوابهم. فقال علیه السلام: نعم، ثم قال له: قل لهم بابن عباس أترضون حکم اللّه ورسوله؟ فقالوا: بلی، ثم قال: أمّا الاُولی فقد کتبت عهد الصلح یوم الحدیبیة «بسم اللّه الرحمن الرحیم هذا ما اصطلح علیه رسول اللّه وأبوسفیان وسهیل بن عمرو» فقال سهیل: إنا لا نعرف الرحمن الرحیم أولاً، وثانیاً ولا نقرّ أنّک رسول اللّه، وثالثاً ولکنّا نحسب ذلک شرفاً لک أن تقدّم اسمک قبل أسمائنا، . إن کنّا أسن منک، فأمرنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن أکتب بدلاً من «بسم اللّه الرحمن الرحیم» «بسمک اللهم» وبدلاً من «رسول اللّه» «محمد بن عبداللّه» ، ثم قال لی: إنّک تدعی إلی مثلها فتجیب وأنت مکره، وهکذا کتبت بینی وبین معاویة وعمرو بن العاص، فقال الخوارج: هذه لک خرجت منها.

وأمّا الثانیة إنّی شککت فی نفسی حیث قلت للحکمین: انظروا فان کان معاویة أحق بها منی فأثبتاه، فان ذلک لم یکن شکا منّی فقد قال القرآن: «وَإِنَّا أَوْ إِیَّاکُمْ لَعَلَی هُدیً أَوْ فِی ضَلَالٍ مُبِینٍ» (1).

ولم یکن ذلک شکاً وقد علم اللّه أنّ نبیّه علی الحق، فقالوا: وهذا لک، وأمّا قولکم أنّی جعلت الحکم إلی غیری وقد کنت عندکم أحکم الناس، فهذا رسول اللّه صلی الله علیه و آله قد جعل الحکم إلی سعد

ص:192


1- 1) سورة سبأ / 24. [1]

یوم بنی قریظة وقد کان أحکم الناس، وقد قال اللّه تعالی: «لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کَانَ یَرْجُو اللّهَ وَالْیَوْمَ الْآخِرَ وَذَکَرَ اللّهَ کَثِیراً» (1)، قالوا: وهذه لک بحجتنا، قال وأمّا قولکم إنّی حکمت فی دین اللّه الرجال، فما حکّمت الرجال ولکن حکّمت کلام ربّی فقال فی الصید عند الاحرام: «وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْکُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ یَحْکُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْکُمْ» (2)، فدماء المسلمین أعظم من دم طائر، قالوا: وهذه لک، قال وأمّا قولکم: إنّی قسمت یوم البصرة الکراع والسلاح ومنعتکم النساء والذریة، فانی مننت علی أهل البصرة کما منّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی أهل مکة، وبعد فأیّکم کان یأخذ عائشة فی سهمه، قالوا: وهذه لک بحجتنا قال وأمّا قولکم إنّی کنت وصیّاً فضیّعت الوصیّة، فأنتم کفرتم وقدّمتم علیَّ وأزلتم الأمر عنّی. . . قالوا: وهذا لک وإثر ذلک رجع بعضهم وبقی منه أربعة آلاف فقاتلهم فقتلهم. (3)

ص:193


1- 1) سورة الأحزاب / 21. [1]
2- 2) سورة المائدة / 90. [2]
3- 3) الاحتجاج للطبری 1/442، ( [3]یتصرف ونقل بالمعنی) ووردت فی مناقب ابن المغازلی /406 [4] مع اضافة، وبحار الانوار 33/377 [5] مع اختلاف.

ص:194

الخطبة المأة والسادسة والعشرون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

لمَّا عُوتِب علی التَّسوِیَةِ فِی الْعَطاء

نظرة إلی الخطبة

یبدو الهدف من هذه الخطبة کما یفهم من عنوانها هو جواب الإمام علیه السلام لمن أشار علیه باغداق أموال بیت المال علی الأشراف وزعماء القبائل الذین یمکنهم التأثیر علی الحکومة، فیعطیهم سهماً أکثر من غیرهم ویمیزهم بالعطاء، وذلک من أجل ترسیخ حکومته، وقد تضمنت إجابة الإمام علیه السلام الإشارة إلی أمرین:

الأول: لیس لی قط ترسیخ دعائم حکومتی من خلال الظلم والجور والتمییز بین الناس وإعطاء حق أحد لآخر، فلا یسعنی بلوغ الحق والعدل بواسطة المعصیة.

الثانی: أنّ من یمارس هذا الفعل فانّ عاقبته جحود اُولئک الأفراد الذین أغدق علیهم.

ص:195


1- 1) سند الخطبة: هذه الخطبة جزء من خطبة طویلة للإمام علیه السلام فی تقسیم بیت المال لما اعترض علیه، ویبدو أنّها مرتبطة بالخطبة 142، والجزءان من خطبة واحدة، وقد نقلها الکثیرون ممن عاشوا قبل السید الرضی وبعده ومنهم: ابن قتیبة فی الإمامة السیاسة، وابن شعبة فی تحف العقول، والکلینی فی فروع الدین، والشیخ المفید فی کتاب المجالس، والمرحوم الشیخ الطوسی فی کتاب الآمالی (مصادر نهج البلاغة 2/282) . [1]

ص:196

«أَتَأْمُرُونِّی أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِیمَنْ وُلِّیتُ عَلَیْهِ! وَاللّهِ لَاأَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِیرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِی السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ کَانَ الْمَالُ لِی لَسَوَّیْتُ بَیْنَهُمْ، فَکَیْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللّهِ! أَلَا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِی غَیْرِ حَقِّهِ تَبْذِیرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ یَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِی الدُّنْیَا وَیَضَعُهُ فِی الْآخِرَةِ، وَیُکْرِمُهُ فِی النَّاسِ وَیُهِینُهُ عِنْدَ اللّهِ. وَلَمْ یَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِی غَیْرِ حَقِّهِ وَلَا عِنْدَ غَیْرِ أَهْلِهِ إِلاَّ حَرَمَهُ اللّهُ شُکْرَهُمْ، وَکَانَ لِغَیْرِهِ وُدُّهُمْ. فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ یَوْماً فَاحْتَاجَ إِلَی مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِیلٍ وَأَلْأَمُ خَدِینٍ!» .

الشرح والتفسیر

المنصب والعدالة

أورد المرحوم الکلینی فی بدایة نقله لهذه الخطبة عن أبی مخنف أنّ جماعة من شیعة أمیرالمؤمنین علیه السلام اقترحوا علی تقسیم أموال بیت مال المسلمین علی الزعماء والأشراف (فی أن یعطیهم من سهمهم) لتستقر الحکومة ومن ثمّ یعود إلی التسویة فی العطاء، فانزعج الإمام علیه السلام وأورد هذه الخطبة لیوضح لهم عدم إمکانیة الوصول إلی هدف مقدّس من خلال وسیلة لیست مقدّسة، فهذ الأمر لا ینسجم مع تعالیم الإسلام فقال: «أَتَأْمُرُونِّی أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِیمَنْ وُلِّیتُ عَلَیْهِ!» .

أو لیس الهدف من الحکومة هو بسط العدل والقسط؟ کیف تقترحون علیّ تثبیت هذه الحکومة بالظلم والجور؟ هذا تناقض واضح للعیان، وهو أمر لا یرتضیه الحق تبارک وتعالی.

ص:197

ثم أضاف علیه السلام قائلاً: «وَاللّهِ لَاأَطُورُ (1)بِهِ مَا سَمَرَ سَمِیرٌ (2)، وَمَا أَمَّ (3)نَجْمٌ فِی السَّمَاءِ نَجْماً!» .

فقد بیّن الإمام علیه السلام رسوخ عزمه بهذا الشأن بعبارات صریحة وقویة، فهو یقسم من جانب، ویستعمل العبارة لا أطور من جانب آخر، والمراد لیس فقط لا أفعل هذا، بل لا أقاربه ولا أحوم حوله، إلی جانب ذلک أشار إلی الحرکة المتواصلة والأبدیة للنجوم فی السماء واللیل والنهار فی الأرض، کنایة عن مراده لو کان عمری خالداً فلست مستعداً للمارسة مثل هذا الظلم والتمییز، ثم أکّد ذلک بقوله: «لَوْ کَانَ الْمَالُ لِی لَسَوَّیْتُ بَیْنَهُمْ، فَکَیْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللّهِ!» .

فالعبارة وإن بدت صعبة علی الأفراد الذین لیس لهم بُعد نظر واُولئک الذین یضحون بالحق والحقیقة من أجل المصلحة، إلّاأنّ الحق هو أنّ هذه العبارة إنّما تتفق وسنّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وتعالیم القرآن الکریم والقیم الإسلامیة العلیا، وهذا ما سنعرض له فی البحث القادم.

ثم أشار الإمام علی علیه السلام إلی مفاسد الظلم والجور والتقسیم غیر العادل لأموال بیت المال فقال: «أَلَا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِی غَیْرِ حَقِّهِ تَبْذِیرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ یَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِی الدُّنْیَا وَیَضَعُهُ فِی الْآخِرَةِ، وَیُکْرِمُهُ فِی النَّاسِ وَیُهِینُهُ عِنْدَ اللّهِ» .

قد یکون التبذیر والاسراف بمعنی واحد ویرادف کلّ منهما الآخر تارة، وتارة أخری بمعنیین، لأنّ التبذیر بالمعنی الواقعی یختلف عن الاسراف، فالتبذیر من مادة بذر بمعنی نثر البذور وتستعمل حین یضیع الإنسان نعمة اللّه ویطرحها جانباً، وبعبارة أخری ینفق الأموال فی غیر موضعها، أمّا الاسراف فهو المبالغة فی إستهلاک النعم بحیث یخرج من حالة الإعتدال

ص:198


1- 1) «أطور» : من مادة «طور» علی وزن غور بمعنی حام حول الشیء، والمفردة طور وجمعها أطوار وردت بمعنی نوع وحالة وصیغة.
2- 2) «سمیر» : من مادة «سمر» علی وزن تمر حدیث اللیل، وقال البعض أن المعنی الأصلی لهذه المادة هو الاختلاط بالنور والظلمة، ولما کانت أحادیث اللیل تتم أحیاناً فی ظلّ النور، فقد ستخدمت هذه المفردة بشأن أحادیث اللیل، وإن اطلق الأسمر علی بعض الأفراد فذلک لأنّ بیاض بشرتهم مشوب باللون الغامق.
3- 3) «أمّ» : من مادة «أم» علی ورن غم بمعنی القصد، والعبارة (ما أمّ نجم فی السماء نجماً) کنایة عن طلوع النجوم وغروبها متتابعة، وکأنّ کل نجم یقصد متابعة الآخر.

دون أن یضیع شیئاً ظاهریاً، کأن یعد طعاماً کثیراً للغایة وفاخراً لبضعة أفراد، بینما یمکن إطعام عشرات الأفراد بتلک القیمة، فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من خطبته إلی الآثار المعنویة السیئة لصرف الأموال فی غیر مواضعها، حیث یمکن أن یحظی الإنسان فی ظلهاً بمکانة معینة إلی أجل بین الناس، بینما یسقط بالمرة أمام اللّه ویعرض نفسه لأشد العقاب فی یوم الجزاء، وأمّا نعته مثل هذا العطاء بالتبذیر والاسراف، فذلک لأنّه یؤدّی إلی اشاعة التبذیر والإسراف فی وسط المجتمع، فاُولئک الذین یأخذون أکثر من الحدّ اللازم، لا یسعهم غالباً إفاضة جزء منه علی الآخرین، کما لا یستطیعون احتماله بأنفسهم، فلا مناص من بروز حالة التبذیر والإسراف.

ثم إختتم الإمام علیه السلام خطبته بالإشارة إلی الآثار الدنیویة السیئة لذلک العمل فقال: «وَلَمْ یَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِی غَیْرِ حَقِّهِ وَلَا عِنْدَ غَیْرِ أَهْلِهِ إِلاَّ حَرَمَهُ اللّهُ شُکْرَهُمْ، وَکَانَ لِغَیْرِهِ وُدُّهُمْ. فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ یَوْماً فَاحْتَاجَ إِلَی مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِیلٍ وَأَلْأَمُ خَدِینٍ (1)!» .

والعبارة ألأم خدین إشارة إلی أنّ اُولئک الأفراد الذین أحسن إلیهم لیس فقط لا یقدمون المساعدة لمن أحسن إلیهم فی یوم عوزه فحسب، بل تبلغ بهم الوضاعة واللؤم أن یتحولوا إلی ذامّین، أمّا ما فهمه بعض شرّاح نهج البلاغة من أنّ العبارة تعنی اللوم والتوبیخ، فلعل ذلک کون الصدیق هو المصداق الواضح للوضاعة حین الحاجة، وقد دلّ التاریخ والتجارب الشخصیة کراراً ومراراً علی أن أغلب الظلمة والأثریاء الذین یغدقون الأموال علی أصدقائهم، لم یمهد أحد لهم ید العون حین ذاقوا وبال أعمالهم، بل نفر عنهم أقرب أصدقاؤهم القدماء، ولعل بیت الشعر المعروف للشاعر المشهور حافظ الشیرازی والذی تتناقله الألسن ومضمونه «أنی لم أتأثر قط بما یفعله الأجانب، بقدر ما أتأثر مما یفعله الصدیق) إشارة إلی هذا المعنی.

بحث فی اسلوب تقسیم العطاء

یستفاد من هذه الخطبة الشریفة أنّ الإمام علیه السلام کان شدید الحرص علی تقسیم أموال بیت

ص:199


1- 1) «خدین» : من مادة «خدن» بمعنی الصداقة وخدن علی وزن اذن بمعنی الصدیق وجمع ذلک أخدان.

مال المسلمین بینهم بالسویة دون أن یکون هناک أدنی امتیاز لشریف علی وضیع وشخصیة سیاسیة واجتماعیة وحتی السابقین فی الإسلام، بل حتی أهل الحاجة علی أحد من الناس، وهذا ما کانت علیه الحال علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ویبدو أنّه کان النهج الذی اعتمده الخلیفة الأول أیضاً، حتی خلافة عمر حیث إتّبع التمییز والاخذ بنظر الاعتبار الاُمور السیاسیة والاجتماعیة فی تقسیم بین المال.

قال ابن أبی الحدید: أمّا عمر فانّه لما ولّی الخلافة فضل بعض الناس علی بعض، ففضّل السابقین علی غیرهم، وفضّل المهاجرین من قریش علی غیرهم من المهاجرین، وفضّل المهاجرین کافة علی الأنصار کافة، وفضلّ العرب علی العجم، وفضّل الصریح علی المولی، وقد کان أشار علی أبی بکر فی أیّام خلافته بذلک، فلم یقبل وقال هذا خلاف کتاب اللّه، ولما ولّی عثمان الخلافة بلغ التمییز قمته، فقد فضّل آنذاک کافة قرابته وبطانته، فقسم بینهم أغلب أموال بیت المال (1)، وقد ذکر العلّامة الأمینی رحمه الله فی المجلد الثامن من کتابه الغدیر الصفحة (486) عنواناً أسماه (الفوضی فی مال اللّه) جمع فیه الأرقام الدقیقة التی روتها مختلف مصادر العامّة بشأن هباته إلی قبیلته وأعوانه، وهی الأرقام التی تذهل کلّ إنسان حین یتأملها، فکان هذا أحد العوامل التی دعت الناس للقیام علیه، کما أنّ رفع هذه الامتیاز من قبل الإمام علیه السلام کان أحد العوامل التی جعلت زعماء القبائل یتمردون علیه (کما یفهم من هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلاغة) (2).

والطریف فی الأمر أنّ أصحاب الإمتیازات فی ذلک الزمان لم یخفوا هذا الأمر، کما نقل ذلک الطبری فی تاریخه، حیث قال رجل لأبی عبدالرحمن السلمی (الذی کان معروفاً آنذاک) (3): ناشدتک اللّه متی عادیت علیاً علیه السلام ألیس ذلک حین قسم العطاء ولم یعطک وأهلک شیئاً (وقد استغلوا بیت المال قبل ذلک) ؟ قال أبو عبدالرحمن: بلی هو کذلک. (4)

ص:200


1- 1) مرّت تفاصیل ذلک فی شرحنا للخطبة الشقشقیة.
2- 2) انظر الخطبة 232.
3- 3) ابو عبدالرحمن السلمی من مشاهیر التابعین، ولم یکن من الصحابة وقال البعض کان بادیء الأمر من خواص أمیرالمؤمنین علیه السلام (الکنی والالقاب) .
4- 4) کتاب منتخب ذیل المذیل، ص147 نقلاً عن العلّامة التستری فی شرحه لنهج البلاغة 6/491.

علی کلّ حال لابدّ من بحث جذور مسألة المساواة التی تأکدت علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وعلی علیه السلام، قطعاً إن ذلک یعود إلی ماهیة الأموال التی کانت ترد بیت المال، وتوضیح ذلک أنّ الأموال التی کانت ترد بیت المال تستند إلی نواحی:

الأولی: غنائم الحرب وتعلم أنّ لیس هناک أی تفاوت بین المقاتلین بخصوص الغنائم الحربیة، سوی أنّ الفارس کان یأخذ ضعف الراجل (بسبب التکالیف المتعلقة بالمرکب، فهم الذین کانون یعدونه، إضافة إلی دور الفارس مقارنة بدور الراجل فی المعرکة) .

الثانیة: أموال الخراج وهی الأموال المتعلقة بالأراضی الإسلامیة والتی کانت تشکل أغلب بین المال علی عهد الخلفاء، فهذه الأموال تتعلق بجمیع المسلمین ولابدّ من تقسیمها بالسویة علیهم، وذلک لأنّ أراضی الخراج ملک لعامّة المسلمین وینبغی توزیعها علیهم بالسویة، حیث یتقسم دخل الملک المشاع بالتساوی علی جمیع المالکین، لأنّ سهم ملکیة الجمیع متساوی.

الثالثة: الجزیة والأموال التی تجبی من غیر المسلمین إزاء ما یتمتعون به من دعم وحمایة من جانب الحکومة الإسلامیة إلی جانب حفظ أموالهم وأعراضهم، ویری طائفه من کبار الفقهاء أنّ مصاریف الجزیة هی مصارف الخراج المتعلقة بجمیع المسلمین.

الرابعة: الزکاة التی تفرض علی بعض الأجناس بمقدار معین وقد تکفل القرآن الکریم ببیان مصاریفها الثمانیة، وقد قسمت بصورة عامّة إلی الفقراء، والمساکین، حسب حاجتهم وفی موارد مصاریف الجهاد حسب الحاجات، وعلیه فالمعیار فی تقسیمها الحاجة لا المساواة.

الخامسة: الخمس وهی الأموال المفروضة علی کافة الإیرادات بعد طرح التکالیف ومخارج السنة، وعلی وضوء ما أورده القرآن الکریم والروایات فانّ الخمس نصفان، نصف یتعلق بأهل الحاجة من بنی هاشم، والنصف الآخر بإمام المسلمین والذی ینفقه فی حاجیات الحکومة الإسلامیة.

السادسة: الأنفال التی تشمل جمیع الأموال التی لیس لها ملکیة خاصة کالأراضی الموات والبساتین وبعض المعادن وسواحل البحار والأرضی البوار التی غادرها أصحابها وانصرفوا عنها، فهی الأخری جزء من أموال الدولة وتتعلق بجمیع المسلمین، ولکل مصدر من المصادر

ص:201

الست الماضیة بحث مفصّل ورد فی الکتب الفقهیة مثل کتاب الخمس وکتاب الزکاة وکتاب الجهاد.

وهنا یطرح هذا السؤال: أی من هذه الأموال الست التی ینبغی توزیعها بصورة مساویة بین المسلمین وقد عمل بذلک رسول اللّه صلی الله علیه و آله واستمر العمل بها حتی فی زمان الخلیفة الأول، وواصلها الإمام علی علیه السلام إحیاءً للسنّة بعدما إندرست علی عهد الخلیفة الثانی والثالث؟

یبدو أنّ تلک الأموال هی أموال الخراج (ویحتمل إلحاق الجزیة بها) والتی کانت تشکل فی ذلک الزمان القسم الأعظم من بیت المال، وقد کانت إلی درجة من الکثرة بحیث لم تکن هناک من أهمیّة لسائر موارد بیت المال فی مقابلها، ولذلک فانّ أحد البرامج الرئیسیة للولاة الذین یتجهون إلی مختلف المناطق جبایة الخراج، ویستفاد هذا المعنی من أغلب الرسائل الواردة فی نهج البلاغة، ومن ذلک عهد الإمام علیه السلام إلی مالک الأشتر رضی الله عنه ورسالته علیه السلام إلی مصقلة بن هبیرة (الرسالة 53 و 43) .

وبناءاً علی ما تقدم فانّ وزع قسم آخر من أموال بیت المال بصورة غیر متساویة علی أساس مصالح المسلمین والحکومة الإسلامیة علی ضوء المدارک الفقهیة، فلیس هناک من منافاة مع ما ورد فی هذه الخطبة وأمثالها.

أضف إلی ذلک فانّ هناک تقسیماً لأموال بین المال علی أساس مصالح المسلمین والخدمات التی یقوم بها بعض الأفراد، لا علی أساس المصالح الشخصیة کما کان یفعل ذلک معاویة، حیث کان یشتری زعماء القبائل بما یغدق علیهم من أموال، حتی کان یغرر ببعض الأفراد ضعاف الإیمان من جیش الإمام علیه السلام فیغریهم بما ینفقه علیهم من أموال کثیرة (1)، وهذا بحدّ ذاته یمثل جنایة عظمی لا یمکن تدارکها والإغماض عنها، وقد کان الإمام علیه السلام کما ورد فی هذه الخطبة یتنفر من هذا العمل، وقد غضب بشدّة علی من اقترح علیه استمالة الأشراف وزعماء القبائل بالأموال.

وبالطبع فانّ هذه مدرسة الأحرار والأتقیاء الأوفیاء التی کانت وما زالت تتضاد ومدرسة سماسرة السیاسة وعبدة المناصب وأسری الأهواء.

ص:202


1- 1) ورد عن معاویة أنّه قال: «واللّهِ لأستَمِیلنّ بالأموالِ أَهلَ ثُقاتِ علیٍّ ولااُقسِمَنَّ فِیهِم المالَ حتّی تَغلِبَ دُنیای عَلَی آخِرَتِهِ» شرج نهج البلاغة للعلّامة التستری 6/491.

الخطبة المأة والسابعة والعشرون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

وفیه یبیّن بعض أحکام الدین

ویکشف للخوارج الشبهة وینقض حکم الحکمین

نظرة إلی الخطبة

خاطب الأمام علیه السلام الخوارج بهذه الخطبة، رغم عمومیة نفع الخطبة، تتألف الخطبة من عدّة أقسام، فنّد الإمام علیه السلام فی القسم الأول عقیدة الخوارج فی تکفیر مرتکب الکبیرة وحکمهم بقتل عامّة اُمّة النبی صلی الله علیه و آله، وذلک من خلال الأدلة المحکمة، وأشار علیه السلام فی القسم الثانی إلی غفلة الخوارج وجهلهم وسلوکهم المفرط فی عدوانهم، بینما أفرط البعض الآخر منهم فی موالاتهم، فکلاهما علی ظلالة، والقسم الثالث تضمن التأکید علی متابعة جمیع المسلمین وعدم الإنفراد عنهم والتحذیر من الفرقة، وأنّ شعار الخوارج هو شعار مضل وخطیر، وأخیراً القسم الرابع وهو إشارة إلی خطأ الحکمین، کما یوضح أن وظیفة الحکمین العمل بأحکام القرآن، ولکنّهم ضلوا الطریق، وعلیه فلیست هنالک أیة قیمة لحکمهم.

ص:203


1- 1) سند الخطبة: نقل هذه الخطبة المؤرخ المعروف الطبری فی حوادث سنة 37 ه عن أبی مخنف باختلاف طفیف، وابن الأثیر فی کتاب النهایة وأشار إلی المفردة (بجر) . (مصادر نهج البلاغة 2/285) .

ص:204

القسم الأول: العنف الهمجی للخوارج

اشارة

«فَإِنْ أَبَیْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّی أَخْطَأْتُ وَضَلَلْتُ، فَلِمَ تُظَلِّلُونَ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، بِضَلَالِی، وَتَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِی، وَتُکَفِّرُونَهُمْ نبِذُنُوبِی! سُیُوفُکُمْ عَلَی عَوَاتِقِکُمْ تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ الْبُرْءِ وَالسُّقْمِ، وَتَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ یُذْنِبْ. وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلی الله علیه و آله رَجَمَ الزَّانِیَ الُْمحْصَنَ، ثُمَّ صَلَّی عَلَیْهِ، ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ؛ وَقَتَلَ الْقَاتِلَ وَوَرَّثَ مِیرَاثَهُ أَهْلَهُ. وَقَطَعَ السَّارِقَ وَجَلَدَ الزَّانِیَ غَیْرَ الُْمحْصَنِ، ثُمَّ قَسَمَ عَلَیْهِمَا مِنَ الْفَیْءِ، وَنَکَحَا الْمُسْلِمَاتِ؛ فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله، بِذُنُوبِهِمْ، وَأَقَامَ حَقَّ اللّهِ فِیهِمْ، وَلَمْ یَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ یُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَیْنِ أَهْلِهِ» .

الشرح والتفسیر

هذا المقطع من الخطبة ناظر إلی الردّ علی شبهات الخوارج التی لحقت بهم بفعل جهلهم وتعصبهم وتقلیدهم الأعمی، فهم یعتقدون بکفر من إرتکب الکبیرة، والکافر یجب قتله، فقد صنعوا لأنفسهم صغری وکبری وعلی أساسهما أجازوا لنفسهم قتل أی فرد من أصحاب علی علیه السلام أینما وجدوهم، ومن هنا حمل هؤلاء الضالون المتعطشون لدماء الأبریاء سیوفهم علی عواتقهم لیسفکوا دماء من شاءوا من الأبریاء فی مختلف مناطق البلاد الإسلامیة، فأتوا بالأفعال الشنیعة التی یندی لها جبین التاریخ، نعم لقد ابتکروا لأنفسهم صغری وکبری وقالوا: إن علیاً علیه السلام قبل تحکیم الأفراد فی مقابل القرآن، وعلیه فقد إرتکب الذنب، وکل من إرتکب الذنب فهو کافر، واتباع علی علیه السلام کذلک فهم کفرة، والکافر یجب قتله وقد رد الإمام علی علیه السلام

ص:205

بالعبارة المذکورة علی خطأهم لیتم الحجة علیهم، فلو فرض (وفرض المحال لیس بمحال) أنّه ضل فما الذی یدعو إلی الحکم بضلالة کافة اُمّة محمد صلی الله علیه و آله بضلاله: «فَإِنْ أَبَیْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّی أَخْطَأْتُ وَضَلَلْتُ، فَلِمَ تُظَلِّلُونَ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، بِضَلَالِی، وَتَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِی، وَتُکَفِّرُونَهُمْ نبِذُنُوبِی!» .

ثم واصل کلامه بالقول: «سُیُوفُکُمْ عَلَی عَوَاتِقِکُمْ (1)تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ الْبُرْءِ وَالسُّقْمِ، وَتَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ یُذْنِبْ» .

فهذا العبارات تتضمن إشارة إلی عدّة أجوبة: الأول بطلان التصور القائم علی أنی أحطأت وضللت، فأولاً: أنّی قبلت التحکیم بفعل ضغوطکم، وثانیاً: لو تمّ التحکیم بصورة صحیحة لکان مطابقاً للقرآن، فالواقع أنّ الحکم هو القرآن، ومن ینهض بالتحکیم إنّما یرجع إلی القرآن ویستنبط منه حکم اللّه سبحانه، فیطبق الکلیات علی مصادیقها، کما مرّ ذلک فی الخطب السابقة، وعلیه فلیس هنالک من عمل مخالف حکم اللّه حتی یؤدّی إلی الخطأ والضلالة، ثالثاً: علی فرض أنّی إرتکبت خلافاً فما معنی حمل ذلک علی سائر المسلمین؟ لم تکفرونهم وتریقون دماء الأبریاء؟ أی قانون هذا الذی تتمسکون به؟ وبأی شرع تؤمنون؟

ثم إتّجه الإمام علیه السلام صوب خطأهم الأصلی المتمثل بقولهم کل مذنب کافر، فردّ علیهم ردّاً قاطعاً فقال: «وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلی الله علیه و آله رَجَمَ الزَّانِیَ الُْمحْصَنَ، ثُمَّ صَلَّی عَلَیْهِ، ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ؛ وَقَتَلَ الْقَاتِلَ وَوَرَّثَ مِیرَاثَهُ أَهْلَهُ. وَقَطَعَ السَّارِقَ وَجَلَدَ الزَّانِیَ غَیْرَ الُْمحْصَنِ، ثُمَّ قَسَمَ عَلَیْهِمَا مِنَ الْفَیْءِ، وَنَکَحَا الْمُسْلِمَاتِ؛ فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله، بِذُنُوبِهِمْ، وَأَقَامَ حَقَّ اللّهِ فِیهِمْ، وَلَمْ یَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ یُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَیْنِ أَهْلِهِ» .

فقد أراد الإمام علیه السلام عدّة شواهد من سنّة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله تؤکد وضوح خطأ الخوارج، الأول أنّ النبی صلی الله علیه و آله کان یعدم الزانی والقاتل، ثم یصلّی علیهما ویوّرث أهلهما، لو کفر هؤلاء بارتکابهم الزنا وقتل النفس لما وجب توریث أهلهم لهم حسب عقیدتکم، لأنّ المسلم لا یرث الکفّار، (هذه عقیدة أغلب فقهاء العامّة) ، کما حدّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله سائر المذنبین کالسارق

ص:206


1- 1) «عواتق» : جمع «عاتق» قسم من الجسم یقع بین الرقبة والکتف.

والزانی غیر المحصن، فقطع ید الأول وجلد الثانی، لکنّهم بقوا فی صفوف المسلمین فأجازهم جمیع الأحکام الإسلامیة کالزواج من المسلمات وأخذهم سهمهم من بیت المال، والحال لا تجری علیه أی من هذه الأحکام إن کفر بارتکاب الکبیرة.

تأمّلات

1 - الخوارج وتکفیر أهل الذنوب

یستفاد من هذه الخطبة أنّ الخوارج یعتقدون بأنّ إرتکاب الکبیرة یوجب الخروج من دین الإسلام، بناءاً علی هذا فمن إرتکب الکبیرة وکان قبل ذلک مسلماً فهو مرتد یجب إعدامه، وقد استدلّ هؤلاء الجهّال بظاهر بعض آیات القرآن التی لم یدرکوا مفهومها، ومن ذلک الآیة الشریفة 97 من سورة آل عمران بشأن تارک الحج والتی تقول: «وَمَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِیٌّ عَنْ الْعَالَمِینَ» ، والآیة 44 من المائدة: «وَمَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِکَ هُمْ الْکَافِرُونَ» ، والآیه 23 من سورة الجن التی تحدثت عن المذنبین جمعاء: «وَمَنْ یَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِینَ فِیهَا أَبَد» .

فقد أطلقت هذه الآیات علی بعض المذنبین کلمة الکفر أحیاناً، وأحیاناً أخری الخلود فی جهنم الذی یختص بالکفّار، وقد غفلوا عن أنّ مفردة الکفر فی اللغة واصطلاح الشرع لا تعنی علی الدوام الخروج من الإسلام، بل الکفر درجات ومراحل: فقد یکون بمعنی إرتکاب الذنب، ویکون أحیاناً أخری بمعنی إنکار اللّه والعقائد الدینیة، وبعبارة أخری الکفر بمعنی مجانبة الحق أو ستره وهو علی مراحل ودرجات، ولکل أحکامه الخاصة، کما للإیمان درجات، لکل منها أحکامه الخاصة، فقد ذکر الإمام الصادق علیه السلام فی الروایة المعروفة فی اصول الکافی خمسة معانی للکفر الوارد فی القرآن، أحدهما: أنّ الکفر بمعنی ترک أوامر اللّه والعصیان، ثم یورد الإمام شواهد من القرآن الکریم علی هذه المعانی الخمسة (1).

ص:207


1- 1) أصول الکافی 2/389، باب وجوه الکفر، ح1.

وأوضح دلیل علی بطلان هذه العقیدة ما أورده أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی هذه الخطبة من کثرة عدد المذنبین فی عصر النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والذین کان یقیم علیهم الحد، مع ذلک کان یجری علیهم کافة أحکام الإسلام، حتی وإن لم یتوبوا من قبیل إقامة صلاة المیت والدفن فی مقابر المسلمین وأحکام الارث، ومن کان حیاً بعد إقامة الحد؛ أجری علیه سائر الأحکام کأخذه لسهمه من بیت المال والزواج من المسلمات وأمثال ذلک، هذه هی سیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله والتی تواصلت فی العهود اللاحقة حتی عصرنا الحاضر بین جمیع مسلمی العالم والتی تدل علی أن مرتکب الکبیرة لیس بکافر بمعنی خروجه من الإسلام قط، ولیس فقط لا یراق دمه فحسب، بل هناک دیّة علی أدنی جرح یعرّض له.

2 - جانب من جنایات الخوارج

إنّ أدنی مطالعة لجانب من التاریخ المظلم للخوارج تکفی لأن نقف علی مدی فضاعة الفئة التی وقفت بوجه أمیر المؤمنین علی علیه السلام، والأسباب التی عاقت برامجه علیه السلام فی النهوض بالاُمّة، فلیست هنالک فئة تشبه الخوارج شهدها التاریخ، فهی فئة متعصبة عاشت جمیع التناقضات ویسفکون الدماء بکل بساطة ولا یرحمون کبیراً ولا صغیراً حتی الجنین فی بطن اُمّه، کما وصفهم أمیر المؤمنین علیه السلام فی هذه الخطبة حیث وضعوا سیوفهم علی عواتقهم فیریقون دم من یریدون، ولم یأمن أحد فی منطق حکومتهم التی لم تدم طولاً لحسن الحظ، وکأنّهم یرون أنفسهم المالکین والناس عبید فلهم أن یفعلوا بهم ما یشاؤون من قتل وتعذیب وتشرید.

قال ابن أبی الحدید فی شرحه لنهج البلاغة: حین مضی الخوارج إلی النهروان أصابوا فی طریقهم مسلماً ونصرنیاً، فقتلوا المسلم لأنّه عندهم کافر، إذ کان علی خلاف معتقدهم، واستوصوا بالنصرانی، قالوا: احفظوا ذمّة نبیّکم، ونحو ذلک أنّ واصل بن عطاء (وهو من مشاهیر علماء عصره) أقبل فی رفقة فأحسوا بالخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إنّ هذا لیس من شأنکم فاعتزلوا ودعونی وإیّاهم، فقالوا: شأنک، فخرج إلیهم، فقالوا: ما أنت وأصحابک؟ فقال: قوم مشرکون مستجیرون بکم، لیسمعوا کلام اللّه، ویفهموا حدوده، قالوا:

ص:208

قد أجرناکم، قال واصل: فعلمونا، فجعلوا یعلمونهم أحکامهم، ویقول واصل: قد قبلت أنا ومن معی، قالوا: فمضوا مصاحبین فقد صرتم إخواننا.

فقال: بل تبلغوننا مأمننا لأنّ اللّه تعالی یقول: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِکِینَ اسْتَجَارَکَ فَأَجِرْهُ حَتَّی یَسْمَعَ کَلَامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَایَعْلَمُونَ» (1).

فنظر بعضهم إلی بعض، ثم قالوا: ذاک لکم، فساورا معهم بجمعهم حتی أبلغهم المأمن (2).

ومعروفة هی قصة قتلهم صحابی النبی صلی الله علیه و آله المعروف: عبداللّه بن خباب وقتلهم لإمرأته وهی حامل، وقد عرضنا لشرح ذلک سابقاً، وهذا غیض من فیض جرائم الخوارج، هذا فی الوقت الذی إذا قتل أحدهم خنزیراً، واعترضوا علیه علی وأن ذلک فساد فی الأرض وأنکروا قتل الخنزیر (3)، یبدو أنّ الجهل والتعصب والعجب هی العوامل الأصلیة لظهور هذه الفئة السفّاکة التی لا تتورع عن إرتکاب أیة جریمة وجنایة، أو لیس جزاء هؤلاء تلک الحملات المتتالیة التی شنها علیهم جیش الإمام علی علیه السلام بعد إتمام الحجّة وتوبة المخدوعین منهم، لکی لا تبقی لهم من باقیة، کما حدث فی النهروان؟ !

3 - الردّ علی سؤال

تصدی الإمام علیه السلام فی الخطبة المذکورة للردّ علی الخوارج الذین یقولون بکفر من إرتکب الکبیرة، فی أنّ ذلک خلاف سیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی إقامته للحدود علی مرتکبی الکبائر، وفی الموارد التی تتطلب إعدام صاحبها من قبیل قصاص القاتل، فقد کان یحکم بقتلهم ویورثهم أهلهم من المسلمین.

هذا فی الوقت الذی نعتقد فیه علی ضوء مذهبنا بأنّ المسلم لا یرث الکفّار وعلیه فان إیصال إرثهم إلی وارثهم المسلمین لیس دلیلاً علی نفی کفرهم، وللإجابة علی هذا السؤال لابدّ

ص:209


1- 1) سورة التوبة / 6. [1]
2- 2) سرح ابن أبی الحدید 2/279 - 281. [2]
3- 3) انظر نفحات الولایة 2/377. [3]

من القول بأنّ الإمام علیه السلام أورد هذا الکلام طبق مذهب أغلب العامّة والخوارج الذین یعتقدون بعدم إرث الکافر للمسلم ولا المسلم من الکافر، وبناءاً علی هذا فقد استدلّ علی ضوء مسلمات مذهبهم، أمّا مذهب أهل البیت علیهم السلام الکافر لا یرث المسلم بینما یرث المسلم الکافر، للروایة الواردة عن أهل البیت علیهم السلام : «إِنَّ الإِسلامَ لَم یَزد المسُلِمَ إلّاعِزَّاً فِی حَقِّهِ» (1).

ص:210


1- 1) وسائل الشیعة 17/377. [1]

القسم الثانی: شر الناس

اشارة

«ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ، وَمَنْ رَمَی بِهِ الشَّیْطَانُ مَرَامِیَهُ، وَضَرَبَ بِهِ تِیهَهُ! وَسَیَهْلِکُ فِیَّ صِنْفَانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ یَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَی غَیْرِ الْحَقِّ، وَمُبْغِضٌ مُفْرِطٌ یَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَی غَیْرِ الْحَقِّ، وَخَیْرُ النَّاسِ فِیَّ حَالاً الَّنمَطُ الْأَوْسَطُ فَالْزَمُوهُ، وَالْزَمُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ فَإِنَّ یَدَ اللّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ. وَإِیَّاکُمْ وَالْفُرْقَةَ!

فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّیْطَانِ، کَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ. أَلَا مَنْ دَعَا إِلَی هذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ، وَلَوْ کَانَ تَحْتَ عِمَامَتِی هذِهِ» .

الشرح والتفسیر

أوضح الإمام علیه السلام جهراً فی ما مضی من کلام الخطبة بطلان عقیدة الخوارج فی تکفیر المسلمین، وقد حدّثهم بمنتهی المرونة حسبما یقتضیه البحث المنطقی، أمّا فی هذا القسم (القسم الثانی) فقد عنّفهم فی الکلام لیحدّ من غرورهم ویعرضهم بمکانتهم بین المسلمین علی أنّهم شر الناس وأغراض الشیطان الذی أضلهم وأوردهم الحیرة، وأفضل شاهد علی ذلک أفکارهم الشیطانیة وأعمالهم العدوانیة ضد البشریة: «ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ، وَمَنْ رَمَی بِهِ الشَّیْطَانُ مَرَامِیَهُ، وَضَرَبَ بِهِ تِیهَهُ!» .

حقّاً لیس هناک من فئة فی أوساط المسلمین شر من الخوارج، فهم مصداق الآیة الشریفة: «اسْتَحْوَذَ عَلَیْهِمْ الشَّیْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِکْرَ اللّهِ أُوْلَئِکَ حِزْبُ الشَّیْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّیْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ» (1).

ص:211


1- 1) سورة المجادلة /19. [1]

وهم مصداق واضح للآیة: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُکُمْ بِالْأَخْسَرِینَ أَعْمَالاً * الَّذِینَ ضَلَّ سَعْیُهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَهُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً» (1).

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة أخری وهی أنّ الأفراط والتفریط شیمة الأفراد الجهال، فمنهم من ألّهنی ومنهم من کفّرنی، فقال علیه السلام: «وَسَیَهْلِکُ فِیَّ صِنْفَانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ یَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَی غَیْرِ الْحَقِّ، وَمُبْغِضٌ مُفْرِطٌ یَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَی غَیْرِ الْحَقِّ» .

فإن دفعکم جهلکم وجنایتکم لأن تعتبروننی کافراً، فانّ هناک من ذهب إلی عکس ذلک - وبدافع الجهل أیضاً - لیقولوا بالوهیتی، والفئتان ضالتان، والطریف فی الأمر إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أخبر الإمام علیه السلام منذ سنوات بهذا الإفراط والتفریط تجاهه، فقد روی ابن عبدالمالکی فی کتاب «الاستیعاب» أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله خاطب علیاً علیه السلام بالقول: «لا یُحِبُّک إلّامُؤمِن ولا یُبغِضُک إلّا مُنافِق. . . وَیَهْلَکُ فِیکَ رَجُلانِ مُحِبٌّ مُفرِطٌ وَکَذَّابٌ مُفْتَرٍ. . وَتَفْتَرِقُ فِیکَ أَُمَّتِی کَمَا افتَرَقَتْ بَنو إِسرائیلَ فِی عِیسی» (2). (الحدیث إشارة إلی أنّ طائفة من بنی غ اسرائیل آمنت واعتقدت بالوهیته وطائفة لم تؤمن ورأته ابن اللّه والعیاذ بالللّه) .

وروی المرحوم السید محسن الأمین فی «أعیان الشیعة» عن «مسند أحمد» و «صحیح الترمذی» و «الاستیعاب» لابن عبدالبر و «مستدرک الحاکم» أنّ المعروف بین الصحابة بغض علی علیه السلام علامة النفاق والذی یمییزه عن المؤمن الصادق.

ثم أضاف والثابت تاریخیاً أنّ معاویة کان یسب علیاً علیه السلام ویدعو الناس إلی سبّه (وعلیه فمعاویة کان من المنافقین) (3).

علی کل حال فالجهّال دائماً علی الإفراط والتفریط، الغلو أو العداوة.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه وبالتأکید علی حفظ الاعتدال فقال: «وَخَیْرُ النَّاسِ فِیَّ حَالاً الَّنمَطُ الْأَوْسَطُ فَالْزَمُوهُ» .

ص:212


1- 1) سورة الکهف / 103 - 104. [1]
2- 2) الاستیعاب 3/36. [2]
3- 3) شرح نهج البلاغة لمغنیة 2/247، [3] کما وردت فی کتاب الغدیر عدّة روایات من المصادر المعتبرة للعامّة بخصوص معرفة المؤمن یحبّ علی علیه السلام والمنافق ببغضه (الغدیر 3/183) .

فقد ورد عنه علیه السلام أنّه قال: «أَلا إِنّ خَیرَ شِیعَتِی الَّنمطُ (1)الأوسطُ إِلِیهِم یَرجَعُ الغالِی وَبِهِم یَلحَقُ التّالِی» (2).

ثم أصدر أمراً مهما کانت مخالفته السبب فی سقوط الخوارج فی وادی الضلال فقال: «وَالْزَمُوا السَّوَادَ (3)الْأَعْظَمَ فَإِنَّ یَدَ اللّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» . کما بالغ فی هذا التأکید لیقول: «وَإِیَّاکُمْ وَالْفُرْقَةَ! فَإِنَّ الشَّاذَّ (4)مِنَ النَّاسِ لِلشَّیْطَانِ، کَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ» .

فالجماعة المؤمنة غالباً من تنطلق فی مسار الحق، فان ضلت طائفة منهم ذکّرتها طائفة أخری وانقذتها من وادی الضلال، أمّا الأفراد الشاذّون والفئات الصغیرة والمعزولة عن المجتمع الإسلامی فهی عرضة لأنواع الأخطاء والانحرافات والشیطان غالباً من ما یشدد من وساوسه بینهم فهم لقمة سائغة للشیطان علی غرار الشاذة من الغنم، فتکون لقمة سائغة للذئب، ثم أورد فی وصیّته فی الخصوص تقضی بقتل کل من رفع شعار لا حکم إلّاللّه ودعی إلیه الناس وإن لاذ بالإمام علیه السلام واختفی تحت عمامته: «أَلَا مَنْ دَعَا إِلَی هذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ، وَلَوْ کَانَ تَحْتَ عِمَامَتِی هذِهِ» .

وهکذا أصدر حکمه النهائی بشأن هذه الفئة الفاسدة والمفسدة والقاسیة المتعطشة للدماء والذی لا یشکلون سوی الخطر الجدّی علی الإسلام والمسلمین، أمّا ما هو مراد الإمام علیه السلام من مفردة «الشعار» التی وردت فی العبارة المذکورة فقد اختلفت فیه أقوال شرّاح نهج البلاغة فقیل: المراد بالشعار التفرقة، قیل یعنی شعار الخوارج، وکان شعارهم أنّهم یحلقون وسط رؤوسهم ویبقی الشعر مستدیراً حوله کالإکلیل (5)، وقیل هو الشعار الذی یعدّ شعار الخوارج أینما حلّوا وقد إرتکبوا بواسطته ما لا یحصی من الفتن والمفاسد وأشعلوا بالنیران المجتمع

ص:213


1- 1) «النمط» : هو الطائفة من الناس التی لها هدف واحد، کما تستعمل هذه المفردة أحیاناً بمعنی الاُسلوب والطریق.
2- 2) بحار الانوار 6/178. [1]
3- 3) «السواد» : تعنی فی الأصل اللون الأسود، ولما کانت الجماعة الکثیرة والأشجار المتشابکة والکثیرة تبدوسواء من بعید فقد وردت هذه المفردة بهذین المعنیین، وقد جاءت فی هذه الخطبة بمعنی الجماعة.
4- 4) «شاذ» : من مادة «شذوذ» بمعنی القلّة والندرة ویطلق الشاذ علی من یتخلف عن الجماعة وینفرد لوحده.
5- 5) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 8/123. [2]

الإسلامی، والواقع قد مهدوا بهذا الشعار أسباب الفرقة، والقتال وسفک الدماء والفساد فی الأرض، ومن هنا فقد حکم بالإعدام علی حملة هذا الشعار.

کما وردت عدّة تفاسیر للعبارة: «لَوْ کَانَ تَحْتَ عِمَامَتِی هذِهِ» ، أنسبها ما ذکرناه سابقاً، وهو وإن اعتصم هؤلاء الأفراد الفاسدین بی ولاذوا بداری وکانوا تحت ثیابی.

تأمّلات

1 - الحذر من الإفراط والتفریط

من بین المسائل التی أکد علیها الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة ضلالة وهلاک الفئة المفرطة والمفرطة، وقد ظهرت هاتان الفئتان بصورة جلیة بشأن الإمام علیه السلام فی أوساط المجتمع الإسلامی، الفئة التی تصوّرت الإمام علیه السلام هو اللّه والتی عاشت علی عهده علیه السلام وقد تلقّت أشد العقاب من الإمام علیه السلام، والفئة الأخری التی تراه - نعوذ باللّه - کافراً، وقد عوقبت هذه الفئة أشدّ العقاب أیضاً، فالإفراط والتفریط مذموم فی کل شیء ومصدر البؤس والشقاء، ولا یقتصر ذلک علی القضایا العقائدیة، بل یتجاوزه لیشمل الحیاة المتواضعة، وعادة ما یستند هذا الإفراط والتفریط إلی الجهل والعصبیة، فهناک طائفة انحرفت عن الإسلام وشذت عن إتباع منهج أهل البیت علیهم السلام، فهبطت باللّه إلی منزلة متسافلة لتراه کالجسمانیات فصوّرته کفتی أمرد وشعر مجعد وما إلی ذلک من صفات الأجسام، بینما رفعته فئة أخری عن فکر البشر، لتقول باستحالة معرفة ذاته لدینا، وأبعد من ذلک بأننا لا نعلم شیئاً من صفاته، وبعبارة أخری قال بتعطیل معرفة اللّه، فئة سلکت طریق الإفراط فقالت: بالتفویض، وأخری سلکت سبیل التفریط فقالت: بالجبر، أمّا أئمّة الهدی علیهم السلام فقد وصفوا أنفسهم بأنّهم «النمرقة الوسطی» أی الفئة المعتدلة البعیدة عن الإفراط والتفریط، والتی ینبغی أن یعود إلیها المتطرفون ویلحق به المغالون: «نَحنُ النُّمرَقَةُ الوُسطی بِها یَلْحَقُ التّالِی وَإلَیها یِرْجَعُ الغالِی» (1).

ص:214


1- 1) نهج البلاغة، [1] الکلمات القصار، 109.
2 - ید اللّه مع الجماعة

ورد التأکید فی الخطبة المذکورة علی مرافقة ومسایرة السواد الأعظم، أی جماعة المسلمین والابتعاد عن کافة أشکال العزلة والتفرد، فقال علیه السلام صراحة: «یَدَ اللّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» ، فالجماعة الإسلامیة کانت قویة ومقتدرة ذات شوکة کما کانت متحدة ومتفقة، بینما عاشت الذل والهوان والضعف کلما سادها النفاق والشقاق، فمقاطعة الجماعة الإسلامیة وبعبارة أخری الانعزال الاجتماعی یشکل أحد الانحرافات والفکریة والعقائدیة، والأفراد الانعزالیون عادة کما یعیشون خیال العجب بالنفس فیظون أنّهم أفضل من غیرهم وعلی الآخرین أن یعظموهم، وحیث لا یرون ذلک فی الناس تشتعل فی قلوبهم نیران العداوة والبغضاء وسوء الظنّ، الأمر الذی یجعلهم یهمون أحیاناً بالثأر وقتل الأبریاء والإساءة إلی المثل الاجتماعیة، وأحیاناً أخری یدّعی النبوة أو الإمام أو نیابة الإمام لمهدی علیه السلام فیصبح مصدراً لکل شقاق وفرقة ونفاق، ومن هنا نقف علی عمق عبارة الإمام فی قوله: «فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّیْطَانِ، کَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ» . طبعاً المراد من مسایرة الجماعة بمعنی الأکثریة الموصوفة بالإیمان والقیم الأخلاقیة والمبادیء الإنسانیة، وإلّا فالإسلام لا یوصی بمسایرة الأکثریة الفاسدة، قال علیه السلام فی موضوع آخر: «لا تَسْتَوحِشُوا فِی طرِیقِ الهُدیْ لِقلَّةِ أَهلِهِ» (1). واما الذمّ الذی أورده القرآن الکریم علی لسان عدّة آیات بشأن الأکثریة إلّاکان المراد بها الأکثریة الفاسدة والمفسدة: «قُلْ لَایَسْتَوِی الْخَبِیثُ وَالطَّیِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَکَ کَثْرَةُ الْخَبِیثِ فَاتَّقُوا اللّهَ یَا أُولِی الْأَلْبَابِ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ» (2).

3 - شرار الخلق

وصف الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة الخوارج بصفتها شرار الناس، فهذا الکلام لیس مبالغة، فالحق أنّ الخوارج شرّف فئة ظهرت فی أوساط المسلمین، لیس فقط لتکفیرهم أشرف مؤمن

ص:215


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 201. [1]
2- 2) سورة المائدة / 108. [2]

بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله أی علی علیه السلام الذی سقی شجرة الإسلام بدمائه الزکیة فاستقام عودها وکثفت أغصانها، ولیس لحملهم سیوفهم علی عواتقهم وسفکهم لدماء الأبریاء، بل لأنّهم أسسوا لأنفسهم بالتدریج مدرسة منحرفة من حیث العقائد، کما ابتعدت عن أحکام الإسلام والقرآن السنّة، ففی جانب عقائدهم وردت عدّة أبحاث فی کتب الملل والنحل تصوّر مدی اختلافها وتضاربها، ولعل ذلک بسبب اختلاف فروعهم، مع ذلک فقد ذکر المؤرخ المعروف المسعودی اشتراک الخوارج فی ما یلی:

1 - تکفیر عثمان وعلی علیه السلام (والعیاذ وباللّه»

2 - وجوب القیام ضد الإمام الجائر.

3 - کفر من إرتکب الکبیرة (وجوب قتله) .

4 - أنّهم بریئون من الحکمین (أبو موسی الأشعری وعمرو بن العاص) .

5 - کفر معاویة وأبتاعه وأتباعه.

لکنّهم یختلفون فی بعض المسائل کالتوحید والوعد والوعید فی القیامة والإمامة (1).

وعدّ البعض الآخر من جملة عقائدهم المشترکة وجوب انتخاب الاُمّة للخلیفة سواء کان من قریش أم من غیرها، والأخری قبولهم الخلفاء الأربعة (وإن عزلوا عثمان وعلی علیه السلام) ، وکذلک شدّة مخالفتهم لکافة خلفاء بنی الاُمیة وبنی العباس، خاصّة أنّهم یسبون بنی اُمیة (2).

وأمّا الأباضیة الذین ینتشرون الیوم فی عمان ومراکش ولیبیا والجزائر وتونس ومصر والذین یعدّون أحیاناً من الخوارج، فهناک فارق کبیر لعقائدهم مع عقائد الخوارج، وإن اشترکوا معهم فی مخالفة التحکیم فی صفین وعدم اشتراط وصف القریشی فی إمام المسلمین.

ولعل عقائد الأباضیة تشبه کثیراً عقائد الشیعة مثل:

1 - صفات اللّه لیست زائدة علی ذاته.

2 - استحالة رؤیة اللّه فی الآخرة.

3 - القرآن حادث لا قدیم.

ص:216


1- 1) مروج الذهب، طبق نقل سفینة البحار مفردة الخوارج.
2- 2) قاموس دهخدا، ذیل مفردة الخوارج.

4 - مرتکب الکبیرة کافر بالنعمة لا کافر ملی (یعنی مثل هذا الفرد مسلم ولیس خارجاً عن الإسلام) .

5 - وجوب موالاة أولیاء اللّه والبراءة من أعدائه.

وروی بعض أنّهم یقولون بوجوب حبّ الخلیفة الأول والثانی وبغض عثمان وعلی علیه السلام إلّا أنّ الأباضیة فی هذا الزمان ینکرون ذلک (1).

ص:217


1- 1) الملل والنحل لآیة اللّه السبحانی 5/242 و 249.

ص:218

القسم الثالث: انحراف الحکمین

اشارة

«فَإِنَّمَا حُکِّمَ الْحَکَمَانِ لِیُحْیِیَا مَا أَحْیَا الْقُرْآنُ، وَیُمِیتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ، وَإِحْیَاؤُهُ الاِجْتَِماعُ عَلَیْهِ، وَإِمَاتَتُهُ الاِفْتِرَاقُ عَنْهُ. فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَیْهِمُ اتَّبَعْنَاهُمْ، وَإِنْ جَرَّهُمْ إِلَیْنَا اتَّبَعُونَا. فَلَمْ آتِ - لَاأَبَالَکُمْ - بُجْراً، وَلاَ خَتَلْتُکُمْ عَنْ أَمْرِکُمْ، وَلاَ لَبَّسْتُهُ عَلَیْکُمْ، إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْیُ مَلَئِکُمْ عَلَی اخْتِیَارِ رَجُلَیْنِ، أَخَذْنَا عَلَیْهِمَا أَنْ لَایَتَعَدَّیَا الْقُرْآنَ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَکَا الْحَقَّ وَهُمَا یُبْصِرَانِهِ، وَکَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَیَا عَلَیْهِ. وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَیْهِمَا - فِی الْحُکُومَةِ بِالْعَدْلِ، وَالصَّمْدِ لِلْحَقِّ - سُوءَ رَأْیِهِمَا، وَجَوْرَ حُکْمِهِمَا» .

الشرح والتفسیر

عاد الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة والذی یمثل آخرها إلی الأدلة المنطقیة لیکشف بالبراهین القاطعة خطأ الخوارج.

توضیح ذلک أنّ الخوارج حین رأوا النتیجة المریرة لقضیة التحکیم التی خدع فیها الماکر عمرو بن العاص أبی موسی الأشعری الساذج وقد حسم التحکیم لصالح معاویة، ارتفعت أصواتهم لیقولوا لم قبلنا التحکیم، ولماذا قبل علی علیه السلام التحکیم، رغم أنّهم یعلمون:

أولاً: أنّ التحکیم فرض علی علی علیه السلام.

ثانیاً: أنّ الإمام علیه السلام لم یکن راضیاً بأبی موسی الأشعری ممثلاً عنه فی التحکیم، بل کان رأیه أن یلعب ابن عباس ذلک الرجل العالم دور التحکیم، رغم ذلک أصر اُولئک الجهال وفرضوا علیه أبی موسی الأشعری، وقد خاض الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة فی جواب

ص:219

آخر علی أن تحکیم الحکمین کان مشروطاً بأن یتمّ علی ضوء القرآن لا علی أساس الأهواء النفسیة والعقد الشخصیة، فلم یعملا بهذا الشرط وهذا ذنبهم لا ذنب الإمام علیه السلام فقال: «فَإِنَّمَا حُکِّمَ الْحَکَمَانِ لِیُحْیِیَا مَا أَحْیَا الْقُرْآنُ، وَیُمِیتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ» .

جدیر بالذکر إنّه ورد نفس هذا المطلب الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام فی متن العهد الذی أشرنا إلیه سابقاً: « وإنَّ کِتابَ اللّهِ سُبحانَهُ بَینَنا مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلی خاتِمَتِهِ نُحیی مَا أَحیا القُرآنُ ونُمِیتُ مَا أَماتَ» .

ثم أضاف قائلاً: «وَإِحْیَاؤُهُ الاِجْتَِماعُ عَلَیْهِ، وَإِمَاتَتُهُ الاِفْتِرَاقُ عَنْهُ» ، ووضح هذه العبارة من خلال التأکید علی مضمونها بالقول: «فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَیْهِمُ اتَّبَعْنَاهُمْ، وَإِنْ جَرَّهُمْ إِلَیْنَا اتَّبَعُونَا» .

فهذا الکلام منطقی یدرکه من کان له أدنی فکر وشعور، لکن کأن الخوارج لم یتمتعوا حتی بهذه النعمة الإلهیّة، ثم بیّن الإمام علیه السلام هذا المطلب بتعبیر أوضح بحیث یبدو وکأنّه اشتاط غضباً من جهلهم وکلامهم الذی یفتقر إلی المنطق فقال: «فَلَمْ آتِ - لَاأَبَالَکُمْ - بُجْراً (1)، وَلاَ خَتَلْتُکُمْ (2)عَنْ أَمْرِکُمْ، وَلاَ لَبَّسْتُهُ عَلَیْکُمْ، إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْیُ مَلَئِکُمْ عَلَی اخْتِیَارِ رَجُلَیْنِ، أَخَذْنَا عَلَیْهِمَا أَنْ لَایَتَعَدَّیَا الْقُرْآنَ» ، لکنّهم فقدوا عقلهم «إیمانهم» وترکوا الحق وهم یرونه باُم أعینهم، کما کان الظلم والجور دیدنهما وهواهما فاتخذوا سبیلاً وقد کنّا اشترطنا علیهما قبل أن یحکما بذلک الحکم الظالم أن یستندا إلی العدل ولا یهملا الحق: «فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَکَا الْحَقَّ وَهُمَا یُبْصِرَانِهِ، وَکَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَیَا عَلَیْهِ. وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَیْهِمَا - فِی الْحُکُومَةِ بِالْعَدْلِ، وَالصَّمْدِ (3)لِلْحَقِّ - سُوءَ (4)رَأْیِهِمَا، وَجَوْرَ حُکْمِهِمَا» .

فالواقع أنّ زبدة الکلام الإمام علیه السلام هی:

أولاً: إنّ انتخاب الحکمین کان علی أساس ضغطکم وإصرارکم علی هذا الأمر، فان کان

ص:220


1- 1) «بجر» : بضم الباء الشر والأمر العظیم، کما ورد بمعنی اتساع البطن وملأها.
2- 2) «ختلت» : من مادة «ختل» علی وزن قتل بمعنی المکر والخداع.
3- 3) «الصمد» : بمعنی المکان المرتفع، کما یرد بمعنی القصد وعدم الاعتماد وهذا هو المعنی المراد فی العبارة.
4- 4) «سوء» : مفتوح مفعول سبق الذی ورد فی أول العبارة ومفهوم الجملة قبل أن یبدی هؤلاء الرأی الظالم والفاسد قد اشترطنا علیهم إننا سوف لن نقبل رأیهم إن حاد عن الحق.

خلافاً فهو خلاف منکم لا منّی.

وثانیاً: إننا اشترطنا علیهم الحکم علی ضوء الآیات القرآنیة، لکنّهم آثروا هوی أنفسهم وانحرفوا عن السبیل البیّن الذی هدیناهم إلیه، وعلیه فان کان هناک من خلاف فقد بدر منهما لا منّی (1).

ولکن طبیعة الأفراد الجهّال والمتعصبین حین یرتکبون مخالفة ویبتلون بسوء عواقبها شرعان ما یغرونها إلی الآخرین ویحملونها مسؤولیة أخطأهم وهذا أخس الأسالیب، والحال یقتضی العقل والانصاف والإیمان الاعتراف بالذنب فی مثل هذه الموارد والاعتذار منها ومن ثم التفکیر فی تدراکها.

تأمّل

دروس التحکیم

کثیر هو الکلام بشأن قضیة التحکیم وهی تنطوی علی الدورس والعبر التی نقلتها التواریخ والسیر ومنها: أنّ عمرو بن العاص اشترط علی معاویة إن انتصر فی معرکته أن یسلمه حکومة مصر، وقد وفی له معاویة بهذا الشرط وقد قدّم أکثر رشوة لعمرو بن العاص، ولم تمض مدّة حتی کتب معاویة لعمرو بن العاص أن إعطنی خراج مصر لهذا العام فبیت المال لا یسدّ حاجات أهل الحجاز والعراق، فرفض عمرو ذلک من خلال شعر بعثه لمعاویة، فلم یعد معاویة للحدیث عن خراج مصر - أمّا کتابه الذی ضمنه فهو: مُعاوِی حَظّی لا تَغْفَلِ

ص:221


1- 1) ورد شبه هذا المعنی مع إختلاف طفیف فی الخطبة 177.

وَأَثبَتُها فِیکَ مَورُوثَةً ثُبُوتَ الخَواتِمِ فِی الأَنمُلِ

وَهَبتَ لِغَیرِی وَزنَ الجِبالِ وَأَعطَیتَنِی زِنَةَ الخَردَلِ

وَإِنَّ عَلَیَّاً غَداً خَصمُنا سَیَحْتَجُّ بِاللّه وَالمُرسَلِ

وَمَا دَمُ عُثَمانَ مُنْجٍ لَنا فَلَیسَ عَنِ الحَقِّ مِنْ مَزْحَلِ (1)

ص:222


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 10/56 [1] بتصرف.

الخطبة المأة والثامنة والعشرون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

فِیَما یُخْبِرُ به عن المَلاحم بالبصرة

نظرة إلی الخطبة

أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی عدّة اُمور:

1 - فتنة صاحب الزنج وهم جماعة من العبید بزعامة فرد أسمی نفسه علی بن محمد العلوی وقد قاموا فی زمان خلافة المهتدی العباسی، وقد سفکوا الکثیر من الدماء.

2 - إشارة إلی فتنة أخری فسّرها شرّاح نهج البلاغة بفتنة المغول والعجیب أنّه أشار إلی أغلب صفاتهم هنا وفی القسم السابق.

3 - بیان الإمام علیه السلام بشأن الغیب بعد أن سأله أحد الحاضرین إنّک تعلم الغیب فتخبر عن المستقبل، کما أشار إلی الفرق بین العلم الذاتی والعلم الإکتسابی، وهو فی الحقیقة تفسیر للآیات القرآنیة التی تنفی بعضها عن العباد علم الغیب بینما یثبته البعض الآخر.

أمّا المرحوم ابن میثم فقد إختتم الخطبة فی شرحه لنهج البلاغة بهذه العبارة «وناظرها

ص:223


1- 1) سند الخطبة: جاء فی کتاب مصادر نهج البلاغة أنّ هذا الکلام جزء من خطبة طویلة لإمام علیه السلام فی البصرة بعد موقعة الجمل، وقد نقل المرحوم ابن میثم البحرانی فی شرح نهج البلاغة أجزاء منها، والمخاطب هو الأحنف بن قیس من أشراف قومه والمعروف بحکمته وسابقته، وترتبط هذه الخطبة بالخطبة رقم 110 التی شرحت سابقاً (مصادر نهج البلاغة 2/288) . [1]

بعینها» واعتبر بقیة الخطبة، خطبة أخری، وهذا ما نهجه أیضاً المرحوم الخوئی وابن أبی الحدید، فقد قسموا الخطبة إلی قسمین واعتبروا کل قسم خطبة منفصلة، بینما اعتبرهما المرحوم مغنیة فی شرحه کصبحی الصالح خطبة واحدة.

ص:224

القسم الأول: الفتنة المرعبة بالمرصاد

اشارة

«یَا أَحْنَفُ، کَأَنِّی بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالْجَیْشِ الَّذِی لَایَکُونُ لَهُ غُبَارٌ وَلَا لَجَبٌ، وَلَا قَعْقَعَةُ لُجُمٍ، وَلَاحَمْحَمَةُ خَیْلٍ. یُثِیرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ کَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ. (قَالَ الشَّرِیفُ: یُومئ بذلک إلی صاحب الزنج) ثمّ قَال علیه السلام: وَیْلٌ لِسِکَکِکُمُ الْعَامِرَةِ، وَالدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِی لَهَا أَجْنِحَةٌ کَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِیمُ کَخَرَاطِیمِ الْفِیَلَةِ، مِنْ أُولئِکَ الَّذِینَ لَایُنْدَبُ قَتِیلُهُمْ، وَلَا یُفْقَدُ غَائِبُهُمْ. أَنَا کَابُّ الدُّنْیَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَیْنِهَا» .

الشرح والتفسیر

خاطب الإمام علیه السلام بادیء الأمر الأحنف بن قیس (1)وهو من أشراف قبیلته، فقال: «یَا أَحْنَفُ، کَأَنِّی بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالْجَیْشِ الَّذِی لَایَکُونُ لَهُ غُبَارٌ وَلَا لَجَبٌ (2)، وَلَا قَعْقَعَةُ (3)لُجُمٍ، وَلَاحَمْحَمَةُ (4)خَیْلٍ. یُثِیرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ کَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ (5)» .

ص:225


1- 1) المراد بالأحنف بن قیس من أشراف البصرة وأحد صحابة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وورد فی الحدیث أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله سأل اللّه له المغفرة، فکان یثق بدعائه رغم أنّه رجل شریف وکریم، کما وجهه رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلی البصرة لنشر الإسلام، شهد صفین فی عسکر أمیر المؤمنین علی علیه السلام ولم یشهد الجمل بوصیّة منه علیه السلام حیث قال: إن لم أشهد المعرکة فلی أن أمنع عنک ستة آلاف سیف فوافقه علیه السلام. سفینة البحار مادة حنف واُسد الغابة 1/55، وشرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2/249. [1]
2- 2) «لجب» : بمعنی الصیاح وتطلق أحیاناً علی أصوات الخیل والمقاتلین.
3- 3) «قعقعة» : الصوت الذی ینبعث من احتکاک الأشیاء الیابسة کالجام الذی ورد فی الخطبة.
4- 4) «حمحمة» : بمعنی صوت الفرس التی لا تبلغ الصهیل المرتفع.
5- 5) «نعام» : حویان المعروف.

والإمام علیه السلام لم یذکر إسماً لزعیم الجیش، إلّاأن القرائن الواردة فی هذه العبارات وما بعدها تشیر إلی أنّ المراد به صاحب الزنج الذی قام فی البصرة عام 255 ه ق وجمع حوله العبید وقد خلق هناک فتنة عظیمة سنعرض لتفاصیلها فی البحث القادم إن شاء اللّه.

والعبارة: «لَا یَکُونُ لَهُ غُبَارٌ» والعبارات القادمة تدلّ صراحة علی أنّ جیش صاحب الزنج کان من المشاة، حیث لم یکن لهم من خیول لیرکبوها، طائفة من العراة المستضعفین الذین ساءت أحوالهم فقاموا علی الأسیاد فارتکبوا الجرائم الفضیعة، والعبارة یثیرون الأرض بأقدامهم تدلّ علی أنّهم کانوا حفاة وقد اتسعت أرجلهم بسبب المشی حفاة طیلة أعمارهم لتصبح کرجل الناقة، مع ذلک کانوا مخفین فی السیر والحرکة، وحین وصل هنا المرحوم السید الرضی رضی الله عنه قال: (قَالَ الشَّرِیفُ: یُومئ بذلک إلی صاحب الزنج) .

ثم قال علیه السلام: «وَیْلٌ لِسِکَکِکُمُ الْعَامِرَةِ، وَالدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِی لَهَا أَجْنِحَةٌ کَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِیمُ کَخَرَاطِیمِ الْفِیَلَةِ، مِنْ أُولئِکَ الَّذِینَ لَایُنْدَبُ قَتِیلُهُمْ، وَلَا یُفْقَدُ غَائِبُهُمْ» .

والذی یستفاد من هذه العبارة أنّ البصرة کانت عامرة (وإن عاش العبید منتهی الشقاء والعسر) فقد کانت بیوتهم کالقصور مزودة بالشرفات والظلال الجمیلة وخراطیم المیاه التی تزیدها روعة وجمالاً، وکما سیأتی فانّ کل ذلک قد تحطم إثر قیام صاحب الزنج وقد ضرّج أصحاب القصور بدمائهم، والعبارة «لَا یُنْدَبُ قَتِیلُهُمْ، وَلَا یُفْقَدُ غَائِبُهُمْ» .

تشیر إلی أنّ العبید لم یکونوا ذوی زوجات وأولاد، بل کانوا عزّاباً فلا نادیة لهم من الأقرباء لیبحثوا عنهم ویتفقدونهم ویبکون علیهم، وهذه هی صفات العبید فی ذلک الزمان حیث کانوا یجلبون إلی البلاد الإسلامیة وغیر الإسلامیة بالقهر والغلبة من البلدان البعیدة خاصّة أفریقیا، وخلافاً للتعالیم الإسلامیة فقد کانوا یعاملون کالحیوانات، فکان قیام صالحب الزنج ردّ فعل تجاه المعاملة غیر الإسلامیة والإنسانیة، ثم قال آخر کلامه: «أَنَا کَابُّ (1)الدُّنْیَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَیْنِهَا» .

فهذه العبارات الثلاث إشارة إلی تفاهة متاع الدنیا لدی الإمام علیه السلام وکأنّ الدنیا موجود

ص:226


1- 1) «کاب» : من مادة «کب» علی وزن خط تعنی فی الأصل طرح الشیء علی وجهه فی الأرض.

حی شریر لا قیمة له وقد کبّه الإمام علیه السلام علی وجهه وهو ینظر إلیه بحقارة، وتشبه هذه العبارة ما ورد عن الإمام علیه السلام فی قصار کلماته حیث قال: «یَا دُنْیَا یَا دُنْیَا، إِلَیْکِ عَنِّی أَبِی تَعَرَّضتِ؟ أَمْ إِلَیَّ تَشَوَّقْتِ؟ لاَحَانَ حِینُکِ، هَیْهَاتَ! غُرِّی غَیْرِی، لاَ حَاجَةَ لی فِیکَ، قَدْ طَلَّقْتُکِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فِیهَا!» (1).

ولعل شقاء أهل الدنیا المتکالبین علیها إنّما یعود إلی تقییمهم الباطل للدنیا فهم یرونها بعین أخری فیعظمونها ویرکعون لها ویضحون بالغالی والنفیس من أجلها، أمّا ما هو الإرتباط بین هذه العبارة والعبارات السابقة بشأن أخطار صاحب الزنج، فیبدو أنّ شرّاح نهج البلاغة لم یخوضوا فی توضیح هذا الأمر، وربّما کان الإرتباط من خلال ذلک الظرف العصیب الذی أصاب أهل البصرة بسبب حبّ الدنیا، فقد شیّدوا القصور واهتموا بالدور وعاشوا الاسراف والتبذیر فی حیاتهم، فی حین عانی غالبیة العبید فی مدنهم ومزارعهم الأمرّین فسامهم الزنوج أنواع العذاب.

تأمّل: قیام صاحب الزنج

ظهر فی البصرة عام 255 ه ق علی عهد الخلیفة العباسی المهتدی رجل زعم أنّه علی بن محمد ونسب نفسه إلی الإمام زین العابدین وزید بن علی علیهما السلام وقد دعی العبید للقیام ضد مالکیهم ولبّوا دعوته مسرعین بسبب صعوبة معیشتهم فی الدور والمزارع فی خدمة السلاطین فاجتمع له مائة نفر وألف نفر، وقد وعدهم بعتقهم وتسلیمهم أموال مالکیهم ومزارعهم، وکانت الطبقیة شدیدة فی ذلک الزمان، فالبعض مرفه فی القصور کما أشار إلی ذلک أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی هذه الخطبة، والبعض الآخر یعیش الحیاة الصعبة، لذلک إلتحق به جماعة من غیر العبید أیضاً، فاجتمع له جیش عظیم، لقد أشعل فی قلوب العبید والمحرومین نار

ص:227


1- 1) نهج البلاغة، [1] الکلمات القصار، الکلمة 77.

الإنتقام حتی أمر غلمانه بعد غلبته للأثریاء بأن یضرب کل رجل منهم خمسمائة شطبة وسبی نسائهم وکان یبیع کل واحدة منهن بدرهمین أو ثلاث وملکهن العبید.

قال المؤرخ المشهور المسعودی فی «مروج الذهب» أنّ صاحب الزنج قتل النساء والأطفال والشیخ الفانی والمریض وکان یحرق أموالهم وأدواتهم ویخرب بیوتهم، وقد قتل فی البصرة ثلاثمائة ألف، ومن فرّ إلی الصحراء ونجی من القتل کان یأکل الکلاب والقطط والفئران، وأحیاناً یأکلون الأموات، إستولی علی قسم عظیم من العراق وإیران ودام حکمه مدّة تزید علی أربع عشرة سنة (وهذا یدلّ علی أنّ حرکته لم تکن عابرة بل کانت متجذرة فی أعماق ذلک المجتمع) .

وقد أو شک صاحب الزنج أن یسقط الدولة العباسیة، فهب له أبو أحمد الملقب بالموفق وهو أخو الخلیفة العباسی فقاتله بجیش کبیر حتی تمکن من قتله فی شهر صفر عام 270 ه وفرق جیشه بعد معرکة دمویة طویلة، لقد ألفت عدّة کتب بشأن قیام صاحب الزنج فهو لیس بالأمر الهیّن الذی یمکن المرور علیه بسهولة، وذلک لأنّ جمع جیش یقارب عدده ثمانمائة ألف أو ثلاثمائة ألف آنذاک لیست بالشیء البسط وکذلک تلک المدّة من الحکم والتی تعتبر طویلة نسبیاً، وکل ذلک یشیر إلی رسوخ ذلک القیام بفعل الاضطراب وغیاب العدل والذی ساد آنذاک، وإن قاد هذا القیام إلی الکثیر من المظالم والجنایات.

وهنا لابدّ من الإشارة إلی بعض الاُمور:

1 - شبّه بعض الکتّاب قیام صاحب الزنج بثورة العبید التی حدثت فی ایطالیا عام 73 قبل المیلاد بزعامة اسبارتکوس الذی جمع حول فئة عظیمة من العبید وقد قاتل الأثریاء والمرفهین وأحرز عدّة انتصارات حتی قتل عام 71 قبل المیلاد مع أربعین ألف من العبید، لکن یبدو أنّ هناک بوناً شاسعاً بین قیامه وقیام صاحب الزنج، فقیام صاحب الزنج کان أوسع وأشمل وقد تمکن من تشکیل الحکومة آخر الأمر والتی حکمت قسماً کبیراً من العراق وایران لمدّة أربع عشرة سنة، علی کل حال فهو رجل دموی ومجرم رغم إمتلاکه للحجج التی تبدو منطقیة نسبیاً من أجل قیامه وثروته.

2 - کما ذکرنا سابقاً فانّ صاحب الزنج أسمی نفسه علی بن محمد ومن نسل الإمام السجاد علیه السلام، وتلقب بالعلوی، إلّاأنّ ذلک لا حقیقة له، ولم یکن هدفه سوی شرعیة حرکته

ص:228

والاستفادة من مکانة آل بیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأمیرالمؤمنین علیه السلام، ولذلک ورد عن الإمام الحسن العسکری أنّ قال: «صاحِبَ الزِّنجِ لَیسَ مِنّا أَهلَ البَیتِ» (1)، وکما أوردنا فانّ قیام صاحب الزنج کان أواخر عمر الإمام الحسن العسکری علیه السلام وتزامناً مع الولادة المبارکة لإمام العصر والزمان المهدی علیه السلام.

3 - کان ظاهر قیام صاحب الزنج وفتنته الدفاع عن العبید والمحرومین، لکنّه انحرف عن هذا الهدف وتسبب فی دمار عظیم وسفک للدماء، حتی قال المسعودی فی «مروج الذهب» (2)أنّه قتل خمسمائة ألف من النساء والأطفال والشیوخ وهذا أقل عدد لقتلاه، وقال بعض المؤرخین أنّه دخل البصرة بعد عامین فأحرق مسجدها الجامع وکثیر من البیوت، وأحرق حتی المواشی وجرت الدماء فی أزقة البصرة (3).

4 - رغم کل نقاط الضعف فی صاحب الزنج فقد کانت فیه بعض الجوانب الإیجابیة ومنها خطه الجمیل وضلوعه بعلم النحو النجوم وقد نقلت عنه بعض الأشعار التی تدلّ علی ذوقه الشعری ومن أشعاره: لَهْفَ نَفسِی عَلَی قُصُورٍ بِبغدا

ومن الشعر المنسوب إلیه: وَإِنّا لَتُصبِحُ أسیافَنا

فهذان البیتان یکشفان بوضوح عن روحیته وأهدافه.

ص:229


1- 1) بحار الانوار 63/197. [1]
2- 2) مروج الذهب 4/120.
3- 3) الکنی والألقاب 2/402.

ص:230

القسم الثانی: نبوءة أخری

اشارة

منه فی وصف الاتراک

«کَأَنِّی أَرَاهُمْ قَوْماً «کَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الَْمجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ» ، یَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَالدِّیبَاجَ، وَیَعْتَقِبُونَ الْخَیْلَ الْعِتَاقَ.

وَیَکُونُ هُنَاکَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ حَتَّی یَمْشِیَ الَْمجْرُوحُ عَلَی الْمَقْتُولِ، وَیَکُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ الْمَأْسُورِ!» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة فی نبوءة عجیبة أخری طبقها المرحوم السید الرضی وتقریباً کافة شرّاح نهج البلاغة علی المغول وحملاتهم الوحشیة الهدّامة، ومن هنا قال المرحوم السید الرضی: القسم الآخر من الخطبة فی وصف الأتراک (المغول) .

فقد قال الإمام علیه السلام: «کَأَنِّی أَرَاهُمْ قَوْماً «کَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الَْمجَانُّ (1)الْمُطَرَّقَةُ (2)» .

وردت المفردة «کأنّی» فی عدّة موارد من نبوءات أمیرالمؤمنین علی علیه السلام، والمفردة أراهم إشارة إلی الشهود الباطنی والبصیرة التی کانت تری الحوادث المستقبلیة عبر القرون فیخبر عنها بصورة دقیقة، وتشبیه وجوههم بالدروع لأنّ وجوههم کانت عریضة وکبیرة ووصفها

ص:231


1- 1) «المجان» : جمع «مجن» ومجنة الترس.
2- 2) «المطرقة» : من مادة «طرق» علی وزن برق بمعنی دق الشیء بالمطرقة أو مطلق الدق، وعلیه فالمطرقة الشیء الذی دقّ بالمطرقة.

بالمطرقة یمکن أن یکون إشارة أنّ أغلب وجوههم کانت تشبه بالضبط موضع المطرقة علی صفیحة الترس، ثم قال علیه السلام: «یَلْبَسُونَ السَّرَقَ (1)وَالدِّیبَاجَ (2)، وَیَعْتَقِبُونَ (3)الْخَیْلَ الْعِتَاقَ (4)» .

فالعبارة تفید أنّ هؤلاء وإن کانوا فقراء وجوعی أول أمرهم یرتدون الثیاب الخشنة، إلّا أنّهم حین یستولون علی البلدان الغنیة ویسیطرون علی أموالهم وثرواتهم یتجهون صوب الثیاب الفاخرة والخیول النفیسة، ویحتمل أن یکون المراد أنّ لهم رغبة شدیدة فی القتال، ومن المعروف أن لبس الحریر یمنح الإنسان قوة القلب ویجعله أکثر مقاومة للسیف، کما للخیول الخفیفة دور مهم فی میدان القتال، وهذا ما یجعلهم یتجهون إلی هذه الأمور.

ثم خاض الإمام علیه السلام فی أعمالهم وأشار بعبارات قصیرة إلی أبعاد ما یرتکبونه من فاجعة فقال: «وَیَکُونُ هُنَاکَ اسْتِحْرَارُ (5)قَتْلٍ حَتَّی یَمْشِیَ الَْمجْرُوحُ عَلَی الْمَقْتُولِ، وَیَکُونَ الْمُفْلِتُ (6)أَقَلَّ مِنَ الْمَأْسُورِ (7)!» .

فالعبارتان تشیران إلی مدی سعة أبعاد الفاجعة، حیث لا یبقی فی الأرض مکان یسمح لعبور الجرحی، لابدّ من وضع أقدامهم علی أجساد القتلی، ومن لم یقتل یؤسر، وقلیل هم الناجون، وإنّ أدنی مطالعة فی تاریخ المغول تفید انطباق جمیع هذه الأوصاف علیهم، قال ابن أبی الحدید: واعلم إنّ هذا الغیب الذی أخبر به علی علیه السلام قد رأیناه نحن عیاناً ووقع فی زماننا فقد فعل هؤلاء القوم ما لم تحتو التواریخ منذ خلق اللّه تعالی آدم إلی عصرنا هذا علی مثله (8).

وهنا یبرز هذا السؤال: ماذا کان قصد الإمام علیه السلام بالإخبار عن فتنة صاحب الزنج التی

ص:232


1- 1) «السرقة» : بمعنی الحریر الفاخر أو الحریر الأبیض، وقال أغلب أرباب اللغة أصلها فارسی أخذ من السرّه بمعنی الحسن والخالص.
2- 2) «الدیباج» : بمعنی القماش الحریری الملون، کما یستعمل أحیاناً بمعنی کل قماش حسن النقش، وأصله فارسی أیضاً.
3- 3) «یعتقبون» : من مادة «اعتقاب» یحبسون کرائم الخیل ویمنعونها غیرهم.
4- 4) «اعتاق» : جمع «عتیق» بمعنی کل شیء حسن وقیّم وتستعمل فی الخیل الأصیلة.
5- 5) «استحرار» : من مادة «حرارة» بمعنی الشدّة والحدّة.
6- 6) «المفلت» : من مادة «فلت» علی وزن فرد بمعنی الهروب والفرار وتطلق مفردة المفلت علی من ینجو من الشدّة.
7- 7) «المأسور» : بمعنی الأسیر.
8- 8) شرح نهج البلاغة ابن أبی الحدید 8/218. [1]

وقعت بعد مئتی سنة وفتنة المغول التی وقعت بعد ستمائة سنة؟ ربّما أراد الإمام علیه السلام أن یذکّرهم بأنّ أعمالکم الطالحة هذه والتی تأتون بها فی هذا العصر وقد ولیتم ظهورکم للحق وأقبلتم علی الباطل وضربتم أحکام الإسلام ووقعتم أسری هوی أنفسکم، فانّ تواصلت هذه الأعمال فی أجیالکم القادمة ستشهدون عواقب وخیمة وسیطالکم العقاب الإلهی، کما یحتمل أن یکون الإمام علیه السلام أراد تحذیرهم من البلاء العظیم الذی ینتظرهم، علیکم أن تتحدوا وترکزوا قوتکم لتتمکنوا من التقلیل من آثاره المخربة.

فتنة المغول

المغول فرع من الترک الذین عاشوا فی آسیا المرکزیة والشرقیة فی حدود الصین وهم طوائف مختلفة، طائفة منهم التاتار، وکانوا یأتمرون عادة بأوامر سلاطین الصین، وکان والد جنکیز أول من نهض من هذه الطائفة وإدّعی الاستقلال، وحین خلف جنکیز أباه 600 ه سعی للسیطرة علی الأقوام المختلفة لتلک المنطقة حیث أراد الرئاسة العامّة لنفسه واستولی علی قسم واسع من الصین وسیطر علی عاصمتها بکین.

أمّا السلطان محمود خوارزم شاه الذی کان یحکم أکثر الشرط الأوسط وآسیا المرکزیة، فقد عقد الهدنة بادیء الأمر مع جنکیز، ولکن لم تمض مدّة حتی نشبت بینهما عداوة فقتل رسل جنکیز، فما کان من جنکیز وبدافع الانتقام إلّاأن هجم علی ایران وسائر المناطق الخاضعة لنفوذ خوارزمشاه.

أمّا ابن أبی الحدید الذی عاش فی ذلک الزمان وقد شهد تلک الأحداث حسب قوله کما سمع بعضها الآخر، فقد أفرد 25 صفحة فی شرحه لنهج البلاغة وتطرق فیها بالتفصیل إلی حملة المغول علی المناطق الإسلامیة وقال: واعلم أنّ هذا الغیب الذی أخبر به الإمام علیه السلام قد رأیناه نحن عیاناً، ووقع فی زماننا، وإلیک الآن جانب ممّا أورده ابن أبی الحدید بهذا الشأن:

هم التاتار الذین خرجوا من أقاصی المشرق حتی وردت خیلهم العراق والشام، وقد فعلوا بالقوقاز وبلاد ما رواء النهر وبخراسان وما والاها من بلاد ما لم تحتو التواریخ منذ خلق اللّه تعالی آدم علیه السلام إلی عصرنا هذا علی مثله، رئیسهم هو جنکیز الذی کان شجاعاً عاقلاً

ص:233

موفقاً منصوراً فی الحرب، کما کان عسکره من الأفراد الشجعان وکانوا یعیشون بصورة شبه وحشیة وأنّهم من أصبر الناس علی القتال، لا یعرفون الفرار ویعلمون ما یحتاجون إلی من السلاح بأیدیهم، وأنّ خیلهم لا تحتاج إلی الشعیر، بل تأکل نبات الأرض وعروق المراعی، وأنّ عندهم من الخیل والبقر ما لا یحصی، وأنّهم یأکلون المیتة والکلاب والخنازیر وهم أصبر خلق اللّه سبحانه علی الجوع والعطش والشقاء، وثیابهم أخشن الثیاب مسّاً، ومنهم من یلبس جلود الکلاب والدواب والمیتة، وأنّهم أشبه شیء بالوحش والسباع، کانوا یقتلون کل من یرونه من الرجال ویغنمون الأموال ویحرقون المدن ویسبون النساء الأطفال، لقد دخلوا من شرق ایران وأشاعوا الخوف والرعب بحیث لم یفکر أحد فی مواجهتهم، ومن قاومهم استسلم أخیراً لهم، وأحیاناً کانت تفتح لهم أبواب المدن بعد أن یعطیهم التاتار الأمان حین یطلبونه، ولکنّهم کانوا ینقضون عهدهم ویقتلون أهالی المدن ویسبون النساء والأطفال ویعذبون الناس بأنواع العذاب فی طلب المال. . ومن العجیب فی هذ الأحداث أنّهم وصلوا إلی إصفهان بعد أن سیطروا علی المدن الإیرانیة، فحصلت بین الفریقین مقتلة عظیمة، ولم یبلغوا منها غرضاً حتی اختلف أهل إصفهان فی سنة ثلاث وثلاثین وستمائة وهم طائفتان: حنفیة وشافعیة، وبینهم حروب متصلة وعصبیة ظاهرة، فخرج قوم من أصحاب الشافعی إلی ما یجاروهم ویتاخمهم من ممالک التتار، فقالوا لهم: اقصدوا البلد حتی نسلمه إلیکم، وفتحت أبواب المدینة فلما دخلوا البلد بدؤا بالشافعیة فقتلوهم قتلاً ذریعاً، ولم یقفوا مع العهد الذی عهدوه لهم، ثم قتلوا الحنفیة، ثم قتلوا سائرالناس وسبوا النساء وشقوا بطون الحبالی ونهبوا الأموال وصادروا الأغنیاء، ثم أضرموا النار، فأحرقوا إصفهان حتی صارت تلولاً من الرماد.

ثم ساروا إلی بلاد العرب فهجموا علی بغداد فتصدی لهم عسکر بغداد وثبت أحسن ثبوت ورشقوهم بالسهام، وبعد مدّة توفی جنکیز وخلفه حفیده هولاکو الذی تمکن من السیطرة علی بغداد بعد أن قتل آخر خلفاء العباسیین المستعصم باللّه وقد أنهی حکومتهم بذلک.

وبقی المغول فی إیران والبلدان الإسلامیة وقد فقدوا ما طبعوا علیه من وحشیة بالتدریج وتأثروا بالثقافة الإسلامیه، وأسلم هولاکو حتی تشیع السلطان محمد خدابنده أحد سلاطین المغول (1).

ص:234


1- 1) شرح نهج البلاغة ابن أبی الحدید 8/218 - 252، وقاموس دهخدا مفرد المغول.

القسم الثالث: الغیب للّه ولکن. . .

اشارة

«فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَقَدْ أُعْطِیتَ یَا أَمِیرَالْمُؤْمِنِینَ عِلْمَ الْغَیْبِ! فَضَحِکَ علیه السلام، وَقَالَ لِلرَّجُلِ، وَکَانَ کَلْبِیّاً: یَا أَخَا کَلْبٍ، لَیْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَیْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِی عِلْمٍ. وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَیْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا عَدَّدَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِوَیُنَزِّلُ الْغَیْبُ، وَیَعْلَمُ مَا فِی الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِی نَفْسٌ مَاذَا تَکْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْرِی نَفْسٌ بِأَیِّ أَرضٍ تَمُوتُ. . .) الْآیَةَ، فَیَعْلَمُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِی الْأَرْحَامِ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثَی، وَقَبِیحٍ أَوْ جَمِیلٍ، وَسَخِیٍّ أَوْ بَخِیلٍ، وَشَقِیٍّ أَوْ سَعِیدٍ، وَمَنْ یَکُونُ فِی النَّارِ حَطَباً، أَوْ فِی الْجِنَانِ لِلنَّبِیِّینَ مُرَافِقاً. فَهَذَا عِلْمُ الْغَیْبِ الَّذِی لَایَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اللّهُ، وَمَا سِوَی ذلِکَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللّهُ نَبِیَّهُ فَعَلَّمَنِیهِ، وَدَعَا لِی بِأَنْ یَعِیَهُ صَدْرِی، وَتَضْطَمَّ عَلَیْهِ جَوَانِحِی» .

الشرح والتفسیر

حین خاض الإمام علیه السلام فی تلک الحادثتین المهمتین (قیام صاحب الزنج وفتنة المغول) وذکر خصوصیاتهما «فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَقَدْ أُعْطِیتَ یَا أَمِیرَالْمُؤْمِنِینَ عِلْمَ الْغَیْبِ!» .

فالعبارة وإن کانت علی سبیل الإخبار، لکنّها فی الواقع استفهامیة، لأنّه سمع أن علم الغیب مختص باللّه سبحانه، ولذلک طلب توضیح الإمام علیه السلام: «فَضَحِکَ علیه السلام، وَقَالَ لِلرَّجُلِ، وَکَانَ کَلْبِیّاً: یَا أَخَا کَلْبٍ، لَیْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَیْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِی عِلْمٍ» .

قطعاً أنّ ضحک الإمام علیه السلام لم یکن بدافع السخریة ولم یفرزه الغرور، بل کان ضحک الفرح

ص:235

والسرور، ولعل مرد ذلک إلی حسن الأمر فی طرح ذلک السؤال من الرجل الکلبی لیکشف الإمام علیه السلام عن کنه ذلک الموضوع أمام الجمیع. . أو أنّ ضحکه کان من تعجبه فی أنّه لا ینبغی أن یکون مثل هذا الأمر بخفی علی أحد، علی کل حال فانّ عبارة الإمام علیه السلام تشیر إلی حقیقة فی أنّ ذلک العلم مختص باللّه وهو علم ذاتی، والعلم الممکن لما سوی اللّه، فهو العلم الحاصل من التعلم والذی له بُعد إکتسابی، یعنی یتعلّمه الإمام علیه السلام من النّبی صلی الله علیه و آله والنّبی عن طریق الوحی الإلهی (سیأتی شرح هذا المطلب) .

ثم قال الإمام علیه السلام: «وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَیْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا عَدَّدَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِوَیُنَزِّلُ الْغَیْبُ، وَیَعْلَمُ مَا فِی الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِی نَفْسٌ مَاذَا تَکْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْرِی نَفْسٌ بِأَیِّ أَرضٍ تَمُوتُ. . .» (1)» .

ثم أوضح معنی ذلک قائلاً: «فَیَعْلَمُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِی الْأَرْحَامِ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثَی، وَقَبِیحٍ أَوْ جَمِیلٍ، وَسَخِیٍّ أَوْ بَخِیلٍ، وَشَقِیٍّ أَوْ سَعِیدٍ، وَمَنْ یَکُونُ فِی النَّارِ حَطَباً، أَوْ فِی الْجِنَانِ لِلنَّبِیِّینَ مُرَافِقاً» .

فخلص علیه السلام إلی نتیجة نهائیة مؤدّاها: «فَهَذَا عِلْمُ الْغَیْبِ الَّذِی لَایَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اللّهُ، وَمَا سِوَی ذلِکَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللّهُ نَبِیَّهُ فَعَلَّمَنِیهِ، وَدَعَا لِی بِأَنْ یَعِیَهُ (2)صَدْرِی، وَتَضْطَمَّ (3)عَلَیْهِ جَوَانِحِی (4)» .

فالذی یستفاد من مجموع هذه العبارات:

أولاً: أنّ علم الغیب علم ذاتی مختص باللّه سبحانه وتعالی، لکن العلم الإکتسابی والإعطائی لا یسمی بعلم الغیب، بل هو ذ لک العلم الذی علّمه اللّه سبحانه نبیّه وعلّمه النبی من یراه مستعداً لذلک العلم.

ثانیاً: لهذه العلوم التعلیمیة استثناءات وردت خمسة منها فی الآیة الشریفة الأخیرة من

ص:236


1- 1) سورة لقمان / 34. [1]
2- 2) «یعی» : من مادة «وعی» علی وزن سعی بمعنی حفظ الشیء فی القلب، أو بعبارة أخری التعلم والایداع فی الحافظة.
3- 3) «تضطم» : من مادة «ضم» بمعنی جمع الشیء.
4- 4) «جوانح» : جمع «جانحة» الأضلاع تحت الترائب ممّا یلی الصدر.

سورة لقمان، وهذه مصادیق علم الغیب التی لم یعلّمها اللّه سبحانه أحداً من الخلق.

وهنا لابدّ من طرح هذه الأسئلة

1 - کیف یستفاد من الآیة الشریفة أنّ هذه العلوم الخمسة مختصة باللّه سبحانه؟

2 - کیف تختص هذه العلوم باللّه والحال أخبر النبی صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام أحیاناً عن نزول الأمطار والأطفال فی الأرحام أو الزمان والمکان الذی یتوفون فیه، بل أحیاناً أخری کانوا یخبرون عن العلوم المعاصرة فمثلاً متی وأین سینزل المطر، وذلک الجنین ولد أم بنت؟

3 - ما الفارق بین هذه العلوم الخمسة وسائر الأمور الخفیة التی لا یعلمها غیر اللّه سبحانه؟

ویقال فی الإجابة علی السؤال الأول: العبارة الاُولی بشأن القیامة قد بیّنت بوضوح إختصاص علمها باللّه سبحانه، وتقدیم عنده علی علم الساعة دلالة علی الحصر، یعنی العلم بالقیامة مختص فقط بالذات اللّه المقدس، کما تدلّ العبارة والرابعة والخامسة علی الحصر أیضاً حیث قالت: «وَمَا تَدْرِی نَفْسٌ مَاذَا تَکْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْرِی نَفْسٌ بِأَیِّ أَرضٍ تَمُوتُ. . .» .

وبناءاً علی ما تقدم فانّ المورد الثانی والثالث بمقتضی وحدة السیاق جزء من العلوم المختصة باللّه سبحانه، والروایات المتعددة الواردة عن أئمة العصمة علیهم السلام فی تفسیر الآیة شاهد أخر علی هذا المعنی (1).

ویقال فی الردّ علی السؤال الثانی: أنّ الالتفات إلی هذه النقطة ضرورة، وهی أنّ العلم بهذه الأمور الخمسة بصورة تفصیلیة مختص باللّه سبحانه، وإن أمکن حصول العلم الإجمالی للمعصومین أو بعض أولیاء اللّه سبحانه، مثلاً یمکن أن یعلم المعصوم أنّ المطر ینزل غداً، أو الشخص الفلانی یموت فی الأرض الفلانیة، أما العلم بجزئیات هذا الأمر من قبیل العلم بلحظة الشروع وحبات المطر التی تنزل فی المکان، وکذلک العلم بلحظة الموت والبقعة التی یموت فیها والحالات الناشئة من سکرات الموت وما إلی ذلک فی أمور فهو مختص بالذات الإلهیّة المقدّسة،

ص:237


1- 1) تفسیر نور الثقلین، ووردت أحادیث سبعة أقلّاً فی هذا المضمار فی ذیل الآیة الشریفة.

والشاهد علی ذلک ما أورده الإمام علیه السلام بشأن الجنین فی رحم اُمّه فقال: «فَیَعْلَمُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِی الْأَرْحَامِ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثَی، وَقَبِیحٍ أَوْ جَمِیلٍ، وَسَخِیٍّ أَوْ بَخِیلٍ، وَشَقِیٍّ أَوْ سَعِیدٍ، وَمَنْ یَکُونُ فِی النَّارِ حَطَباً، أَوْ فِی الْجِنَانِ لِلنَّبِیِّینَ مُرَافِقاً» ، وسائر الأمور التی یقتصر علمها علی اللّه تبارک وتعالی، وبناءاً هلی هذا فما یعلمه الناس من حالات فی بعض الأدوار الجنینیة من خلال تعلم الغیب أو المختبرات المتداولة فی الوقت المعاصر، فهو من قبیل العلم الجزئی، والحال یختص العلم الکلی باللّه سبحانه.

وأمّا الإجابة علی السؤال الثالث: فلابدّ من الإذعان بأننا لا نری من فارق بین الموارد الأربعة الأخری غیر القیامة وسائر الأمور الخفیة، سوی أنّ الآیة المذکورة وروایات المعصومین علیهم السلام تفرّق هذه الأمور مع سائر الأمور الخفیة وتقول بأنّ العلم التفصیلی فیها مختص بالذات الإلهیّة، ولکن فی الموارد الأخری کالذی ورد فی هذه الخطبة بشأن فتنة صاحب الزنج وحملة المغول، فممکن أن یزود اللّه بعض الخواص من عباده بعلمها الإجمالی والتفصیلی، وعلی کل حال فاننا تبع للنصوص القرآنیة وروایات المعصومین المعتبرة.

علم الغیب فی الآیات والروایات

اختلف العلماء فی قضیة علم الغیب وهل هناک من یعلم الغیب سوی اللّه سبحانه أم لا؟ ویبدو اختلافهم یعود إلی اختلاف ظواهر آیات القرآن والروایات الإسلامیة، فبعض الآیات القرآنیة صرّحت علانیة قائلة أنّ علم الغیب مختص باللّه تبارک وتعالی، مثل الآیة 65 من سورة النمل: «قُلْ لَایَعْلَمُ مَنْ فِی السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَیْبَ إِلَّا اللّهُ. . .» .

وصرحت فی الآیة 59 من سورة الأنعام قائلة: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَیْبِ لَایَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ. . .» ، فی حین یستفاد من البعض الآخر من الآیات أنّ جانباً من علم الغیب علی الأقل قد زود به بعض أولیاء اللّه تعالی، کما فی الآیة 49 من وسورة آل عمران بشأن السید المسیح علیه السلام: «ءَأُنَبِّئُکُمْ بِمَا تَأْکُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِکُمْ. . .» ، والآیة 26 و 27 من سورة الجن: «عَالِمُ الْغَیْبِ فَلَا یُظْهِرُ عَلَی غَیْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنْ ارْتَضَی مِنْ رَسُولٍ. . .» .

ص:238

ونری نفس هذا التفاوت فی الروایات، فمثلاً جاء فی الحدیث أنّ الإمام الصادق علیه السلام ورد مجلساً غاضباً وکان فیه أبو بصیر وبعض أصحابه، فلما جلس قال: «یَا عَجَباً لأقوامٍ یَزْعَمُونَ أَنَّا نَعلَمُ الغَیبَ مَا یَعْلَمُ الغَیبَ إِلّا اللّهُ عزَّ وَجَلَّ» (1).

بینما یستفاد من عدّة روایات علم الأئمّة المعصومین علیهم السلام بأغلب الأمور الخفیة کالذی ورد فی هذه الخطبة بشأن فتنة صاحب الزنج والمغول، أو سائر خطب نهج البلاغة بخصوص الأمور المستقبلیة، وممّا لا شک فیه أنّه لیس هناک من تضارب بین الآیات المذکورة وأمثالها ولا بین الروایات السابقة (والروایات الأخری التی وردت بهذا المضمون) وقد ذکر المحققون عدّة آراء من أجل الجمع بین هذه الآیات والروایات، منها:

1 - المراد بعلم الغیب الذی اختصته الآیات والروایات باللّه تبارک وتعالی هو العلم الذاتی، وما یعلمه الأنبیاء والأولیاء هو العلم التعلیمی من جانب اللّه سبحانه (وهو ما ورد فی کلام الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة) .

2 - أسرار الغیب علی قسمین: قسم یختص باللّه تعالی ولا یعلمه أحد إلّاهو کزمان الساعة والأمور الأخری التی وردت فی الآیة 24 من سورة لقمان، وقد أشارت الخطبة إلی هذا الوجه فی الجمع وقد تقدم شرح ذلک.

3 - علم اللّه سبحانه بأسرار الغیب بالفعل یعنی یعلم کل شیء فی کل زمان، أمّا علم أولیاء اللّه سبحانه، فلیس بفعلی بل حینی، أی إن أرادوا أن یعلموا شیئاً وتتحقق هذه الإرادة باذن اللّه تعالی ورضاه، ومن هنا نقرأ فی سورة یوسف أنّ یعقوب لم یکن یعلم مصیر ولده فی صحراء کنعان، والحال علم بعد سنوات بمصیره فی مصر، فقد وجد ریح یوسف من مصر بینما لم یجده فی بئر کنعانه، فلم یکن مأذوناً فی المورد الأول لأن یرید فیعلم، بینما أذن له فی المورد الثانی.

4 - الطریق الآخر للجمع بین الآیات والروایات المختلفة فی أنّ أسرار الغیب مثبتة فی موضعین، اللوح المحفوظ والذی لا یحدث فیه أدنی تغییر ولا یعلمه إلّاتعالی، واللوح المحو والإثبات وهو فی الواقع علم بالمقتضیات لا علم بالعلة التامة، ومن هنا فهو قابل للتغییر، وما

ص:239


1- 1) اصول الکافی 1/257، ح3 [1] من باب «نادر فیه ذکر الغیب» .

یعلمه أولیاء اللّه إنّما یرتبط بهذا القسم.

ومن أراد المزید من الشرح لکل من الطرق الأربعة المذکورة، فلیراجع المجلد 19، من تفسیر الأمثل فی تفسیر سورة الجن.

ص:240

الخطبة المأة والتاسعة والعشرون

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطبَةٍ لهُ علیه السلام

فی ذکر المکاییل والموازین (2)

نظرة إلی الخطبة

خاض الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة بوعظ المسلمین فأورد عدّة نصائح شافیة وکافیة، الأولی وتحدث فیها عن قصر عمر الدنیا وأنّ الناس فیها کالضیوف وستنتهی بسرعة هذه الضیافة، بینما تبقی تبعات أعمال الإنسان حین الحساب والجزاء، ثم تحدث فی الثانیة عن سعة الفساد فی ذلک العصر شاکیاً منه، وأشار فی الثالثة إلی الأخیار والصلحاء والاتقیاء والسمحاء لیحذر من خلال المقارنة بضرورة إصلاح النفس وإجتثاث الفساد من المجتمع وأخیراً إختتم الخطبة بذم المرائین الذین یأمرون بالمعروف ولیسوا من أهله، وینهون عن المنکر ولا ینتهون عنه.

ص:241


1- 1) سند الخطبة: ورد فی مصادر نهج البلاغة أنّ هذه الخطبة وإن کانت فی رعایة العدل فی الکیل والمیزان، لکن لا یری مطلب بهذا الخصوص فی هذه الخطبة سوی إشارة قال فیها الإمام علیه السلام: «این المتورعون فی مکاسبهم» ، وهذا یدلّ علی أنّها جزء من خطبة طویلة أشارت إلی هذه المسألة المهمة، إلّاأنّ المرحوم السید الرضی کعادته یختار منها ویترک بقیتها، رواها الزمخشری فی «ربیع الأبرار» ، کما ورد قسم منها فی «غرر الحکم» (مصادر نهج البلاغة 2/290) .
2- 2) مکاییل جمع مکیال، والموازین جمع المیزان.

ص:242

القسم الأول: التحذیر من الفساد الاجتماعی

«عِبَادَ اللّهِ، إِنَّکُمْ - وَمَا تَأْمُلُونَ مِنْ هذِهِ الدُّنیَا - أَثْوِیَاءُ مُؤَجَّلُونَ، وَمَدِینُونَ مُقْتَضَوْنَ: أَجَلٌ مَنْقُوصٌ، وَعَمَلٌ مَحْفُوظٌ. فَرُبَّ دَائِبٍ مُضَیَّعٌ، وَرُبَّ کَادِحٍ خَاسِرٌ. وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِی زَمَنٍ لَایَزْدَادُ الخَیْرُ فِیهِ إِلاَّ إِدْبَاراً، وَلَا الشَّرُّ فِیهِ إِلاَّ إِقْبَالاً، وَلاَ الشَّیْطَانُ فِی هَلَاکِ النَّاسِ إِلاَّ طَمَعاً. فَهذَا أَوَانٌ قَوِیَتْ عُدَّتُهُ، وَعَمَّتْ مَکِیدَتُهُ، وَأَمْکَنَتْ فَرِیسَتُهُ. اِضْرِبْ بِطَرْفِکَ حَیْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ ] [تنظر] [ إِلاَّ فَقِیراً یُکَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِیّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللّهِ کُفْراً، أَوْ بَخِیلاً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللّهِ وَفْراً، أَوْ مُتَمَرِّداً کَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً!» .

الشرح والتفسیر

کما ورد فی سند الخطبة وخلافاً لما جاء فی عنوان هذه الخطبة فاننا لا نشاهد فی متنها ما یشیر إلی رعایة العدل فی الکیل والوزن، ولعل ذلک یعود إلی أحد سببین: إمّا أنّ المرحوم السید الرضی رضی الله عنه قد حذف بعض جوانب الخطبة المتعلقة بالکیل والوزن حسب طریقته فی اختیار الأفصح، أو لیس هنالک من حذف فی الخطبة إلّاأنّ الإمام علیه السلام خطب بهذه الخطبة فی ظروف حین اتسع الفساد فی الکیل والوزن والتطفیف فی البیع وظلم الناس وساد ذلک فی المجتمع، وبالنظر إلی ذلک أورد الإمام علیه السلام هذه الخطبة لیحذر المردة، بعبارة أخری فانّ شأن وورد الخطبة قضیة الکیل والمیزان وإن لم یذکر ذلک صریحاً فی متنها، إلّاأنّه ذکر من خلال الدلالة الالتزامیة، علی کل حال خاطب الإمام علیه السلام عامة الناس وقد حذرهم من تقلب الدنیا

ص:243

وفساد المجتمع فقال: «عِبَادَ اللّهِ، إِنَّکُمْ - وَمَا تَأْمُلُونَ مِنْ هذِهِ الدُّنیَا - أَثْوِیَاءُ (1)مُؤَجَّلُونَ، وَمَدِینُونَ مُقْتَضَوْنَ: أَجَلٌ مَنْقُوصٌ، وَعَمَلٌ مَحْفُوظٌ» .

فقد شبّه الإمام علیه السلام وضع أهل الدنیا بهذه العبارة بالضیوف الذین دعوا لمدّة معینة فی ضیافة، وبالأفراد المدینین الذین لا یترکهم دائنوهم، فمن الطبیعی ألا یری الضیف دار المضیف محطته الأبدیة، فهم لا یتعلق بها أبداً ولا یثق بها ولا یحرص علیها، ولیس الشخص المدین الذی یتابع دائماً من قِبل الدائن من سبیل سوی منحه کل ما یجد بالتدریج، أملاً بأن یأتی الیوم الذی یکون قد سدد فیه کل دینه، کأنّ العمر الذی منحنا اللّه تعالی من دیوننا التی تؤخذ منّا کل لحظة، والمشکلة المهمّة أنّ إلی جانب ذلک العمر المتقلب والذی ینقضی بسرعة أعمالنا التی نقوم بها والتی تحفظ ویجب علینا تحمل تبعاتها.

وری بعض شرّاح نهج البلاغة عن بعض الصلحاء قوله: «مَا أَدرِی کَیفَ أَعجَبُ مِنَ الدُّنیا! أَمن حُسنِ مَنطَرِها وَقُبحِ مَخبَرِها أَم مِنْ ذَمِّ النَّاسِ لَها وَتَناحُرِهُم عَلَیها» (2).

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه قائلاً: «فَرُبَّ دَائِبٍ (3)مُضَیَّعٌ، وَرُبَّ کَادِحٍ (4)خَاسِرٌ» .

صحیح أنّ السعی والجهد رمز الموفقیة والنجاح، إلّاأنّ هذا لیس قانوناً کلیاً، فهناک الأفراد الذین أفنوا عمرهم فی السعی والجد وأجهدوا أنفسهم لیل نها ولم یظفروا بشیء، وهذا أحد إحباطات الإنسان فی الحیاة الدنیا، ولعل العبارة إشارة إلی السعی المتعلق بالأمور المادیة أوالمعنویة، لأنّهم کثیرون هو الأفراد الذین أجهدوا أنفسهم من أجل الوصول إلی المقامات المعنویة والنجاة الاُخرویة، ولکن تسللت إلیهم أهواء النفس ووساوس الشیطان فی اللحظات الحساسة فاشتعلت النیران فی مزارع طاعتهم وأحرقت کل شیء، ثم أشار إلی الأوضاع المزریة لزمانهم وإقبال الناس علی المساویء وفرارهم من الصالحات فقال: «وَقَدْ

ص:244


1- 1) «أثویاء» : جمع «ثوی» علی وزن قوی بمعنی الضیف وفی الأصل من مادة «ثواء» بمعنی الإقامة فی مکان.
2- 2) شرح نهج البلاغة ابن أبی الحدید 8/247. [1]
3- 3) «دائب» : من مادة «دؤوب» علی وزن غروب المداوم فی العمل.
4- 4) «کادح» : من مادة «کدح» علی وزن مدح الساعی بجهد ومشقة فی القیام بعمل.

أَصْبَحْتُمْ فِی زَمَنٍ لَایَزْدَادُ الخَیْرُ فِیهِ إِلاَّ إِدْبَاراً، وَلَا الشَّرُّ فِیهِ إِلاَّ إِقْبَالاً، وَلاَ الشَّیْطَانُ فِی هَلَاکِ النَّاسِ إِلاَّ طَمَعاً. فَهذَا أَوَانٌ قَوِیَتْ عُدَّتُهُ، وَعَمَّتْ مَکِیدَتُهُ، وَأَمْکَنَتْ فَرِیسَتُهُ (1)» .

فهذه العبارات الصریحة والواضحة تشیر إلی مدی سقوط الوضع الأخلاقی للمسلمین فی ذلک العصر والزمان بفعل الحکومات المستبدة، ومدی الوسط المضحک الذی واجهه الإمام علیه السلام فی عهده، نعم إن فسد مسؤولوا البلاد ومن کان علی رأس الحکومة فانّ الفساد سیشمل کل شیء «النّاس عَلی دینِ مُلُوکِهِم» .

فما الذی یمکن توقعه من الناس إن وزع الخلیفة أموال بیت المال المسلمین علی بطانته، وولی قرابته الطالحة ونصبهم فی المواقع الحساسة، وتعاطی عامله الشراب علانیة لیدخل المحراب فیصلی بالناس جماعة ثملاً، ویمارس الآخرون الرذیلة والأعمال البشعة، أو لیست سلطة الشیطان بالتکالب علی الدنیا وإبتاع الأهواء؟

نعم، إنّ سادت هذه الأمور تیسرت حکومة الشیطان، فقد ورد فی الخبر أنّ ابن عمر وبعض ولد أبی بکر وسعد بن أبی وقاص قصدوا علیاً علیه السلام حین خلافته وسألوه زیادة العطاء من بین المال، فصعد علیه السلام المنبر وخطب الناس قائلاً: «. . . إذا مَنعتُهُم مَا کانُوا فِیهِ یَخُوضُونَ وَصَیّرتُهُم إلی مَا یَستَوجِبُونَ فَیَفقِدون ذَلکَ فَیسأَلُونَ وَیَقُولُونَ: ظَلَمنا ابنُ أبی طالبٍ وَحَرَمنا وَمَنعنا حُقوقَنا - إلی أن قال - أَمّا أَنَّی أَعلَمُ الّذی تُرِیدُونَ وَیُقِیمَ أَودکم، وَلَکن لا أَشتَری صَلاحَکُم بِفَسادِ نَفسِی. . .» (2).

ثم قال: «اِضْرِبْ بِطَرْفِکَ (3)حَیْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ ] [تنظر] [ إِلاَّ فَقِیراً یُکَابِدُ (4)فَقْراً، أَوْ غَنِیّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللّهِ کُفْراً، أَوْ بَخِیلاً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللّهِ وَفْراً (5)، أَوْ مُتَمَرِّداً کَأَنَّ

ص:245


1- 1) «فریسة» : من مادة «فرس» علی وزن قرض بمعنی الصید.
2- 2) اصول الکافی 8/551.
3- 3) «طرف» : وردت أحیاناً بمعنی العین، وأخری حرکة جفن العین، کما استعملت بمعنی النظر لأنّ الأجفان تتحرک حین النظر.
4- 4) «یکابد» : من مادة «کبد» بمعنی تحمل المشقة وهذا هو المعنی المراد بها فی العبارة، کما وردت بمعنی الجعل فی المشقة.
5- 5) «الوفر» : بمعنی الوفیر والکثیر.

بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً (1)!» .

فقد رکز الإمام علیه السلام بهذه العبارات البلیغة والرائعة علی أربع فئات محرومة أو منحرفة تشکل أساس فساد المجتمع وإنهیاره:

الأولی: الفقراء الذین یقعون أسری الفقر، وهو الفقر الذی عبرت عنه الروایات بالقول: «کَادَ الفَقرُ أَنْ یَکُونَ کُفراً» . الثانیة: الأغنیاء الذین غرقوا فی النعم والملذات والشهوات حتی نسوا کل شیء وهووا فی الکفر.

الثالثة: البخلاء الذین تصوروا أنّ البخل سبب زیادة الثروة.

الرابعة: المتمردون الذین عاشوا الغرور ولم تعد آذانهم تسمع کلام الحق.

فعبارة الإمام علیه السلام التی قال فیها: «اِضْرِبْ بِطَرْفِکَ (2)حَیْثُ شِئْتَ. . .» فلا تبصر أحداً سوی هذه الفئات الأربع دلیل علی أنّ الفقر والفساد أصبح علی درجة من الشمولیة بحیث ظهرت أثارهما فی کل مکان، والدلیل علی تلک السعة والشمولیة ما اُشیر إلیه فی العبارة المذکورة.

ص:246


1- 1) «الوقر» : بمعنی الثقل.
2- 2) «طرف» : وردت أحیاناً بمعنی العین، وأخری حرکة جفن العین، کما استعملت بمعنی النظر لأنّ الأجفان تتحرک حین النظر.

القسم الثانی: أین الأخیار؟

اشارة

«أَیْنَ أَخْیَارُکُمْ وَصُلَحَاؤُکُمْ! وَأَیْنَ أَحْرَارُکُمْ وَسُمَحَاؤُکُمْ! وَأَیْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ فِی مَکَاسِبِهِمْ، وَالْمُتَنَزِّهُونَ فِی مَذَاهِبِهِمْ! أَلَیْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِیعاً عَنْ هذِهِ الدُّنْیَا الدَّنِیَّةِ، وَالْعَاجِلَةِ الْمُنَغِّصَةِ. وَهَلْ خُلِقْتُمْ إِلاَّ فِی حُثَالَةٍ لَا تَلْتَقِی بِذَمِّهِمُ الشَّفَتَانِ، اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ، وَذَهَاباً عَنْ ذِکْرِهِمْ! فَ(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ) ، (ظَهَرَ الْفَسَادُ) ، فَلَا مُنْکِرٌ مُغَیِّرٌ، وَلَا زَاجِرٌ مُزْدَجِرٌ. أَفَبِهذَا تُرِیدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللّهَ فِی دَارِ قُدْسِهِ، وَتَکُونُوا أَعَزَّ أَوْلِیَائِهِ عِنْدَهُ؟ هَیْهَاتَ! لَایُخْدَعُ اللّهُ عَنْ جَنَّتِهِ، وَلَا تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ. لَعَنَ اللّهُ الْآمِرِینَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِکِینَ لَهُ، وَالنَّاهِینَ عَنِ الْمُنْکَرِ الْعَامِلِینَ بِهِ!» .

الشرح والتفسیر

استعمل الإمام علیه السلام عبارات بلیغة رائعة فی هذا المقطع من الخطبة لیکشف النقاب عن فساد الزمان والتولی عن الصالحات والاقبال علی السیئات فقال: «أَیْنَ أَخْیَارُکُمْ وَصُلَحَاؤُکُمْ! وَأَیْنَ أَحْرَارُکُمْ وَسُمَحَاؤُکُمْ! (1)وَأَیْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ (2)فِی مَکَاسِبِهِمْ، وَالْمُتَنَزِّهُونَ فِی مَذَاهِبِهِمْ!» .

فقد بحث الإمام علیه السلام بهذه العبارات عن ستة طوائف فی المجتمع لیدل فقد انها أنذاک علی مدی الانحطاط والفساد، والطوائف الست هی: الأخیار، الصالحون، الأحرار، السمحاء،

ص:247


1- 1) «سمحاء» : جمع «سمیح» الشخص الرؤوف وصاحب الکرم، وقیل من یبذل حین وفرة النعمة وضیقها.
2- 2) «متورع» : من مادة «ورع» بمعنی اجتناب الذنب والشبهة.

المتورعون، والمتنزهون، حقّاً إنّ افتقرت المجتمعات البشریة إلی هذه الطوائف الشریفة والنجیبة فی المجتمع، فلیس هناک سوی الفساد والانحراف، والمراد من المتورعین فی مکاسبهم، الأفراد الذین لا یطففون فی البیع ولا یغشون ولا یکذبون ولا یقسمون بالباطل ولا یرابون والذین ینقضون عهودهم ومواثیقهم، فمن یری المجتمع الصالح العامر بالأخیار والصلحاء والأحرار والسمحاء علی أنّهم نماذج المجتمع إنّما یشعر بالامتعاظ لا سیّما إن رأی بدلاً منهم الأشرار والطلحاء والأسری والبخلاء فلا یمتلک سوی الصراخ: این اُولئک الأعزة؟ کیف خلی مکانهم؟

ثم قال الإمام علیه السلام: «أَلَیْسَ قَدْ ظَعَنُوا (1)جَمِیعاً عَنْ هذِهِ الدُّنْیَا الدَّنِیَّةِ، وَالْعَاجِلَةِ الْمُنَغِّصَةِ (2)» .

فأردفها علیه السلام بالقول: «وَهَلْ خُلِقْتُمْ (3)إِلاَّ فِی حُثَالَةٍ (4)لَاتَلْتَقِی بِذَمِّهِمُ الشَّفَتَانِ، اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ، وَذَهَاباً عَنْ ذِکْرِهِمْ! فَ(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ)» .

وقد انبثقت هذه الظروف العصیبة والأفراد المنحطین منذ انحراف الخلافة الإسلامیة عن محورها الأصلی وقد بلغ الأمر ذروته علی عهد عثمان، فقد فوضت المواقع الحساسة من الحکومة الإسلامیة إلی أصحاب الدنیا البعیدین عن الورع والتقوی وقد تغلغلوا فی المجتمع الإسلامی بحیث کان من المتعذر تغییرهم ابان حکومة علی علیه السلام، کما کان هؤلاء الأفراد هم السبب لکافة المعارک التی حدثت ضد الإمام علیه السلام.

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی الوظیفة التی ینبغی أن یقوم بها أصحابه تجاه تلک الظروف والأوضاع فقال: «ظَهَرَ الْفَسَادُ، فَلَا مُنْکِرٌ مُغَیِّرٌ، وَلَا زَاجِرٌ مُزْدَجِرٌ. أَفَبِهذَا تُرِیدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللّهَ فِی دَارِ قُدْسِهِ، وَتَکُونُوا أَعَزَّ أَوْلِیَائِهِ عِنْدَهُ؟» .

ص:248


1- 1) «ظعنوا» : من مادة «ظعن» السفر والرحیل.
2- 2) «المنغصة» : من مادة «نغص» علی وزن نقص الکدر وعدم الصفاء ماء الشرب، ثم اطلقت علی کدورة العیش ومنه العیش المنغص.
3- 3) وردت هذه المفردة فی أغلب شروح نهج البلاغة خلقتم التی لا تختلف کثیراً عن «خُلِّفتُم» کما لم تذکر إلّافی العبارة إلّابذمهم.
4- 4) «حثالة» : تعنی فی الأصل راسب الدهن ثم استعملت بشأن الأفراد الأراذل الذین لا شخصیة لهم.

طبعاً إنّ هذا الاستفهام إستفهام استنکاری، والمراد علی ضوء هذا الوضع الذی سلکتموه وقد سکتم إزاء الفساد أو أعنتم علیه، فلا من أمر بمعروف ولا نهی عن منکر، فلیس لکم أن تنالوا القرب الإلهی وتکونوا فی صفوف أولیاء اللّه، فأکد ذلک بالقول: «هَیْهَاتَ! لَایُخْدَعُ اللّهُ عَنْ جَنَّتِهِ، وَلَا تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ» .

فاُولئک المسلمون ظاهراً ویحسبون فی صفوف أهل الإیمان لکنّهم راضون بالفساد ساکتون باطناً، لا یقدرون علی خداع اللّه العالم بأسرارهم وأعمالهم، لعلم یخدعون الآخرین، بل وأنفسهم لمدّة، ولکن أنی لهم ذلک یوم القیامة یوم لا یخفی علی اللّه منهم خافیة، فلیس أمامهم سوی الندم.

ورد فی الحدیث عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لَیسَ الإیمانُ بِالتَّحلّی وَلا بِالَّتمنِّی وِلَکن الإِیمانَ ما خَلصَ فِی القَلبِ وَصَدَّقَهُ الأَعمالُ» (1).

ثم إختتم الخطبة مشدداً فی التأکید فقال: «لَعَنَ اللّهُ الْآمِرِینَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِکِینَ لَهُ، وَالنَّاهِینَ عَنِ الْمُنْکَرِ الْعَامِلِینَ بِهِ!» .

صحیح أنّ عمل الإنسان لا یشترط فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وبعبارة أخری فانّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وظیفتان مستقلتان وإن کان نفس الإنسان تارکاً للمعروف وعاملاً بالمنکر.

کما ورد عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «مُروا بِالمَعرُوفِ وَإن لَم تَفعَلوهُ وَانهُوا عن المُنکَرِ وإن لَم تَجتَنِبُوا کُلَّهُ» (2).

ولکن أن یأمر الإنسان بالمعروف ولا یأتمر به وینهی عن المنکر ولا ینتهی عنه بحدّ ذاته نوع من النفاق الواضح، والمنافق یستحق اللعن واللوم والعقاب.

وبعبارة أخری فانّ اختلاف الظاهر والباطن الذی یکون سبباً لخداع الناس وروح النفاق من أسوأ الصفات التی یحعل الإنسان یستحق اللعن فیوجب بُعده عن اللّه ورحمته.

ص:249


1- 1) بحار الانوار 66/72، ح26. [1]
2- 2) کنز العمال 3/66، ح5522.

شکوی أهل الزمان

من المسائل الغایة فی الصعوبة والمرارة فی التاریخ الإسلام هو أنّ علیاً علیه السلام بدلاً من أن یأخذ بزمام أمور الاُمة الاسلامیة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله لینشر الإسلام فی الشرق والغرب ویحفظ مبادیُ الإسلامیة، قد تسلم الحکومة الإسلامیة والاُمّة الإسلامیة عاشت الانحراف عن العدالة والزهد بفعل اضطراب عهود الخلفاء ولا سیّما عهد عثمان الذی ضاعت فیه القیم الإسلامیة وقد وضعت الأموال والمناصب تحت تصرف حثالة بنی أمیة وآل مروان، فهم لا یفکرون إلّافی المال والثروة والمقام والسیطرة علی الناس، وقد انتعشت أغلب مثل الجاهلیة، فقد قام الإمام علیه السلام فی ظل هذه الظروف العصیبة من أجل إحیاء القیم الإسلامیة وسنّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وإطفاء فتن الجاهلیة، من خلال الحث والتبشیر أحیاناً والانذار واللوم أحیاناً أخری، ون خلال الاستشهاد بحوادث عصر النبی الأکرم علیه السلام ومقارنتها بالأوضاع السائدة، کما یستعین أحیاناً بتاریخ سالف الأنبیاء والعذاب الذی صبّ علی العتاة الذین تمردوا علیهم، وهکذا أخذت تظهر الفضائل الإسلامیة والإنسانیة شیئاً فشیئاً بین أصحاب الإمام علیه السلام حتی استقرت وتبلورت بعد أن رویت شجرتها بدم الإمام علیه السلام، وکادت أن تثمر، ولکن مع الأسف الشدید أنّ تلک الأجواء تعکرت بفعل فتن الناکثین والقاسطین والمارقین، وقد بلغت الجریمة بأحدهم لأن ینهال بالسیف علی رأس الإمام علیه السلام لتبقی تلک البرامج ناقصة، فتنشط من جدید الشیاطین لتعیث فی الأرض الفساد.

ص:250

الخطبة المأة والثلاثون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

لأبی ذرّ رحمه اللّه لمّا أخرج إلی الربذة

نظرة إلی الخطبة

لما إنهال أزلام بنی أمیة وبنی مروان علی بیت مال المسلمین بتلویح من عثمان فجعلوا ینهبون ما یریدون، واجههم أبو ذر رحمه الله ذلک الصحابی الشجاع والاُسوة فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فأصبح یشکل خطراً جدّیاً علی منافعهم، فأشاروا علی عثمان بنفیه إلی ربذة التی تعتبر أسوأ المناطق مناخاً، أمّا الإمام علیه السلام فقد أراد أن یثبت عدم شرعیة هذا الحکم الجائر من جهة، وأن یشد من عزیمة أبی ذر من جهة أخری، فیعینه علی تحمل ما یواجهه من صعوبات، ومن هنا شایع أبی ذر وقد واساه بکلمات رائعة وعمیقة وأمله بالمستقبل الزاهر الذی ینتظره، کما أضاف ورقة سوداء أخری إلی سجل بنی أمیة ومروان المظلم.

ص:251


1- 1) سند الخطبة: ذکرها المرحوم الکلینی فی کتاب «روضة الکافی» باختلاف طفیف ویستفاد من ذیلها أن لیس علی علیه السلام شیعه إلی الربذة فقط، بل شیعه الإمام الحسن والحسین علیهما السلام وعمار (وعقیل حسب بعض الروایات) ، وبعبارات رائعة سیأتی بیانها فی الأبحاث القادمة (الکافی 8/206، ح25) ، قال صاحب مصادر نهج البلاغة بعد الإشارة إلی روایة الکافی نقلها ابن أبی الحدید عن کتاب «السقیفة» لأحمد بن عبدالعزیز الجوهری (مصار نهج البلاغة 2/291) . [1]

ص:252

القسم الأول: أبو ذر رحمه الله بطل مقارعة الفساد

اشارة

«یَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّکَ غَضِبْتَ لِلّهِ، فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ. إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوکَ عَلَی دُنْیَاهُمْ، وَخِفْتَهُمْ عَلَی دِینِکَ، فَاتْرُکْ فِی أَیْدِیهِمْ مَا خَافُوکَ عَلَیْهِ، وَاهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَیْهِ، فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَی مَا مَنَعْتَهُمْ، وَمَا أَغْنَاکَ عَمَّا مَنَعُوکَ! وَسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً، وَالْأَکْثَرُ حُسَّداً ] [خسّراً] [ . وَلَوْ أَنَّ السَّموَاتِ وَالْأَرَضِینَ کَانَتَا عَلَی عَبْدٍ رَتْقاً ثُمَّ اتَّقَی اللّهَ لَجَعَلَ اللّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً! لَا یُؤْنِسَنَّکَ إِلاَّ الْحَقُّ، وَلَا یُوحِشَنَّکَ إِلاَّ الْبَاطِلُ. فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْیَاهُمْ لَأَحَبُّوکَ، وَلَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوکَ» .

الشرح والتفسیر

کما ذکرنا فانّ الإمام علیه السلام أورد هذا الکلام حین نفی أبو ذر من قبل عثمان إلی الربذة، جاء فی الخبر: لما أخرج أبو ذر إلی الربذة أمر عثمان، فنودی فی الناس ألا یکلم أحد أبا ذر ولا یشیعه، وأمر مروان بن الحکم أن یخرج به، فخرج به، وتنحّی عنه الناس إلّاعلی بن أبی طالب علیه السلام وعقیلاً أخاه وحسناً وحسیناً علیهما السلام وعماراً رحمه الله، فانّهم خرجوا معه یشیعونه، فجعل الحسن علیه السلام یکلم أبا ذر، فقال مروان إیها حسن ألا تعلم أنّ أمیر المؤمنین (عثمان) قد نهی عن کلام هذا الرجل، فان کنت لا تعلم فاعلم ذلک، فحمل علی علیه السلام علی مروان فضرب بالسوط بین أذنی راحلته وقال: تنحّ لحالک اللّه إلی النار، فرجع مروان مغضباً إلی عثمان فأخبره الخبر (1).

ص:253


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 8/252. [1]

وهنا وقف أبو ذر رحمه الله فودعه القوم، وخطب الإمام علیه السلام بهذه الکلمات التی تتضمن کل واحدة منها نقطة مهمّة بهدف مواساة أبی ذر وتحمله المصاعب التی ستواجهه فی المستقبل، فقد أشار علیه السلام إلی ست نقاط فقال أولاً: «یَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّکَ غَضِبْتَ لِلّهِ، فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ» .

أمّا قوله علیه السلام فارج من غضبت له ولم یقل ارج اللّه، فالواقع بیّن الإمام علیه السلام دلیل ذلک الأمل، لأنّ کل شخص یغضب لآخر بالنسبة لشیء یؤذیه، فمن الطبیعی أنّ ذلک الشخص سیقف إلی جانبه.

وقال فی الثانیة: «إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوکَ عَلَی دُنْیَاهُمْ، وَخِفْتَهُمْ عَلَی دِینِکَ، فَاتْرُکْ فِی أَیْدِیهِمْ مَا خَافُوکَ عَلَیْهِ، وَاهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَیْهِ» .

إشارة إلی أنّهم شعروا بالخطر علی حکومتهم ومنافعهم المادیة إثر صراحة کلامک فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فلم یستطیعوا تحمل وجودک فی المدینة، لکنّک قاطعتهم ولم تقبل بذلهم، وذلک لأنّک شعرت بالخطر علی دینک، فلما قمت بوظیفتک واطلعت الناس علی أعمال هؤلاء الحکام، فاترکهم واهرب بدینک وإیمانک.

ثم قال الإمام علیه السلام: «فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَی مَا مَنَعْتَهُمْ، وَمَا أَغْنَاکَ عَمَّا مَنَعُوکَ! وَسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً، وَالْأَکْثَرُ حُسَّداً» ، فهم بحاجة إلی دینک، الدین الذی لم تکن مستعداً للتضحیة به من أجل دنیاهم، لکنّک لست بحاجة إلی دنیاهم وإن منعوها عنک (1)، والعبارة «وستعلم. . .» مواساة أخری لأبی ذر فعمر الدنیا قصیر کأنه ویوم وغدا تقوم القیامة، أنذاک سیفتضح الظلمة عبدة الدنیا ویغبطون الأتقیاء علی درجاتهم العالیة، ثم ضاعف من ذلک الرجاء فی قلب أبی ذر فقال فی الثالثة: «وَلَوْ أَنَّ السَّموَاتِ وَالْأَرَضِینَ کَانَتَا عَلَی عَبْدٍ رَتْقاً (2)ثُمَّ اتَّقَی اللّهَ لَجَعَلَ اللّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً!» .

والواقع هو أنّ هذه العبارة إشارة إلی الآیة الشریفة: «وَمَنْ یَتَّقِ اللّهَ یَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَیَرْزُقْهُ مِنْ حَیْثُ لَایَحْتَسِبُ» (3).

ص:254


1- 1) وعلیه تفسیر «ما» بالموصولة بمعنی الدین لأنّهم أرادوا أن یستفیدوا من دین أبی ذر لصالح دنیاهم، فحال أبو ذر دون ذلک، کما یحتمل أن یکون الدین بصورة مطلقة، إلّاأنّ هناک تقدیراً فی العبارة حیث یکون المعنی ما أحوجهم إلی الدین، الدین الذی حذرت علیه من إفسادهم له.
2- 2) «رتق» : إلتحام شیء بآخر وتعنی فی العبارة إغلاق طرق الخلاص والفرار.
3- 3) سورة الطلاق / 2 - 3. [1]

ثم قال فی الرابعة والخامسة: «لَا یُؤْنِسَنَّکَ إِلاَّ الْحَقُّ، وَلَا یُوحِشَنَّکَ إِلاَّ الْبَاطِلُ» .

فلیکن أنسک فی الحق ولا تخشی شیئاً مادمت فی هذا السبیل، ولتکن وحشتک من الباطل وإنّک لسعید مادمت هارباً من الباطل، فلا ضیر علیک إنّک قمت للّه وأمرت بالمعروف ونهیت عن المنکر فی اللّه، فلو قبلت دنیاهم وعاونتهم فی نیل أطماعهم المادیة لأحبّوک، ولو أخذت من ذلک شیئاً وهادنتهم لأمنوک، ولذا قال فی السادسة: «فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْیَاهُمْ لَأَحَبُّوکَ، وَلَوْ قَرَضْتَ (1)مِنْهَا لَأَمَّنُوکَ» ، فهم تجار ظلمة ذائبون فی الدنیا وأهل معاملة فیها، فمن وافق علی مظالمهم وهادنهم بقبول سهم من أموالهم، أحبّوه وقدّسوه ودافعوا عن ماله وعرضه.

فعبارته علیه السلام مواساة لأبی ذر من جانب وصاعقة شدیدة علی الحکام الظلمة من جانب آخر، فالحق أن نفی «أبوذر» ذلک العبد الصالح والزاهد الورع کان نموذجاً للأمر بالمعروف والنهی عن المنکر کان وصمة عار فی جبین الحکام الظلمة وأعوانهم، فقد کانوا یعلمون أنّ لسان ذلک الصحابی الجلیل یعدل مئة ألف سیف.

تأمّلات

1 - من هو أبو ذر رحمه الله

تعتبر حیاة أبی ذر ملیئة بالأحداث مقارنة بحیاة سائر صحابة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والتی یمکنها أن تکون أسوة لکافة المجاهدین فی سبیل الحق طیلة التاریخ البشری، ولا غرو فحیاته إقتباس من حیاة مولاه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وعلی علیه السلام مع فارق بسیط هو أنّه خضع لظروف صعبة جدّاً، لکنّه لم یتوان قط فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر الوقوف بوجه الظلمة والفساد، وإلیک جانب من سیرته:

اسمه جندب وأبوه جنادة (2)وأسماه رسول اللّه عبداللّه، ینسب إلی طائفة معروفة من طوائف

ص:255


1- 1) «قرضت» : من مادة «قرض» تعنی فی الأصل قطع الشیء ومن هنا یقال المقراض للمقص، کما یقال القرض لما یعطی من مال، ووردت فی العبارة المذکورة بمعنی قطعت منها جزءاً من المال لنفسک، ومهادنة الظالمین.
2- 2) روت أغلب المصادر «جندب وجنادة» بضم الجیم، وکنیته أبو ذر، حیث کان له ولد بهذا الاسم.

العرب وهی بنی غفار، کانت له ضیعة أطراف مکّة، سمع ببعث النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فاتجه إلی مکّة، فلما دخل المسجد رأی فیه طائفة من قریش وهی تتحدث عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وهی تسبه وتشتمه، فدخل أبو طالب، فقالوا: إسکتوا هذه عمّه، عرف أبو ذر، أبا طالب، فلما خرج من المسجد تبعه فالتفت إلی أبو طالب وسأله هل من حاجة؟ قال: اُرید الإیمان بالنبی صلی الله علیه و آله، فقال له أبو طالب تعال هنا غداً، فقضی أبو ذر لیلته فی المسجد الحرام، وفی الیوم التالی إلتقی حمزة، ثم تعرف بجعفر وعلی وأخیراً حمله علی علیه السلام إلی النبی صلی الله علیه و آله فأسلم وآمن طواعیة.

ثم أمره رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالرجوع إلی أهله وقال له: فان لک ابن عم قد توفی ولیس به وارث غیرک فاستعن بتلک الأموال حتی یؤذن لی بالدعوة العلنیة آنذاک عد إلینا، کان أبو ذر من أوائل من أسلم، وإلتحق بالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله بعد غزوة بدر وأحد و الخندق وحین أنفق کل ما لدیه فی سبیل اللّه، وقد وصفه النبی صلی الله علیه و آله بصدّیق الأمّة وشبیه عیسی بن مریم.

قال العلّامة المجلسی رحمه الله فی کتاب «عین الحیاة» یستفاد من مصادر الفریقین أنّه لم یکن من بین الصاحبة بعد المعصومین من هو أجل قدراً من سلمان و أبی ذر والمقداد وقد قال فیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «مَا أظَلَّتِ الخضرَاءُ ولا أَقَلَّتِ الغَبرَاءُ عَلَی ذِی لَهجَةٍ أَصدَقُ مِن أَبِی ذَر یَعیشُ وَحدَهُ وَیَمُوتُ وَحدَهُ وَیُبعَثُ وَحدَهُ وَیَدخُلِ الجَنَّةَ وَحدَهُ» (1).

لازم أبو ذر رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی المدینة، ولمّا ولی عثمان الخلافة وأعطی مروان من بیت المال، جعل أبو ذر یقول بین الناس وفی الطرقات والشوارع: «وَالَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا یُنفِقُونَهَا فِی سَبِیلِ اللّهِ. . .» (2).

فی إشارة إلی عثمان وبطانته الذین أخذوا ینهبون بیت مال المسلمین، کان أبو ذر یردد تلک الآیة ویرفع بها صوته، فرفع ذلک مراراً إلی عثمان وهو ساکت، ولم تمض مدّة حتی صعب علی الخلیفة وبطانته تحمل کلام أبی ذر، فأرسل إلیه عثمان مولی من موالیه أن إنته عمّا بلغنی عنک،

ص:256


1- 1) بحار الانوار 22/298. [1]
2- 2) سورة التوبة / 34. [2]

فقال أبو ذر: أو ینهانی عثمان عن قراءة کتاب اللّه تعالی؟ فواللّه لأن أرضی اللّه بسخط عثمان أحبّ إلیّ وخیر لی من أن أسخط اللّه برضا عثمان، فأغضب ذلک عثمان وأحفظه، فتطایر وتماسک، إلی أن قال یوماً والناس حوله: أیجوز للإمام أن یأخذ من المال شیئاً قرضاً، فاذا أیسر قضی؟ وکان فی المجلس کعب الأحبار وأبو ذر، فقال کعب الأحبار: لا بأس بذلک، فقال: أبو ذر: یابن الیهودیة أتعلمنا دیننا؟ (فمثل هذه الأمور لا تجوز فی بیت مال المسلمین) فقال عثمان: قد کثر أذاک وتولعک بأصحابی، إلحق بالشام، فأخرجه إلیها.

ولم یسکت أبو ذر فی الشام حین شاهد الخضراء التی بناها معاویة فی دمشق إلی جانب البیوت المتواضعه للفقراء من الناس والمحرومین، فقال لمعاویة: یا معاویة إن کانت هذه من مال اللّه فهی الخیانة، وإن کانت من مالک فهی الاسراف، واللّه لقد حدثت أعمال ما أعرفها، واللّه ما هی فی کتاب اللّه ولا سنّة نبیّه، واللّه إنّی لأری حقاً یطفأ وباطلاً یحیا، وصادقاً مکذباً، وأثرة بغیر تقی، وصالحاً مستأثراً علیه، فثقل ذلک الکلام علی معاویة، فکتب إلی عثمان، فکتب عثمان أن إحمل جندباً إلی علی أغلظ مرکب وأوعره حتی قدم به المدینة.

فلما دخل أبو ذر رحمه الله علی عثمان، سعی عثمان لأن یضطره للقول بخلاف ما یرید فقال له: أنت الذی تزعم أنا نقول: «إِنّ اللّهَ فَقِیرٌ وَنَحنُ الأغنِیاء» ، فقال أبو ذر: لو کنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال اللّه علی عباده، ولکنّی أشهد أنّی سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول: «إِذا بَلَغَ بَنو العاصِ ثَلاثِینَ رَجُلاً، جَعَلُوا مالَ اللّهِ دُولاً، وَعِبادَهُ خِولاً، وَدِینَهُ دَخلاً» ، فقال عثمان لمن حضر: أسمعتموها من رسول اللّه صلی الله علیه و آله؟ قالوا: لا؟ قال عثمان: ویلک یا أبا ذر! أتکذب علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله، ثم قال: ادعوا لی علیاً، فما جاء قال عثمان لأبی ذر: اقصص علیه حدیثک فی بنی العاص، فأعاده، فقال عثمان لعلی أسمعت هذا من رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: لا؛ وقد صدق أبو ذر، فقال: کیف عرفت صدقه؟ قال: لأنّی سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله، یقول: «مَا أظَلَّتِ الخضرَاءُ ولا أَقَلَّتِ الغَبرَاءُ عَلَی ذِی لَهجَةٍ أَصدَقُ مِن أَبِی ذَر. . .» . فقال من حضر: أما هذا فقد سمعناه کلّنا من رسول اللّه صلی الله علیه و آله، فندم عثمان.

وجاء فی الخبر عن الإمام الصادق علیه السلام قال: «إنّ عثمان بعث غلامین بمئتی دینار إلی أبی ذر وقال: قولا له إنّ عثمان یقرأک السلام وبعث بهذا المال لتستعن به علی معیشتک، فقال أبو ذر:

ص:257

فهل أعطی سائر المسلمین، قالا: لا، فقال: لا حاجة لی به، قالا: إنّ عثمان یقول إنّه من خاصة مالی ولم یخالطه الحرام، فلم یقبل أبو ذر وقال: إنّنی لأغنی الناس بولایة علی بن أبی طالب، فعودا بالمبلغ إلیه واللّه یحکم بینی وبینه» (1).

وأخیراً ضاق عثمان ذرعاً بأبی ذر واستشار من حوله، فأشاروا علیه بنفیه من المدینة، فاختار أبو ذر الشام والعراق، فلم یوافقوه حیث کانوا یخشون منه، إلی انتهی بهم الأمر لنفیه إلی الربذة (2)المعروفة بسوء أحوالها ومناخها حتی توفی فیها، ولم یکن لدیه حتی الکفن مرّت جماعة وفیهم مالک الأشتر فأخبرتهم بنته فی الطریق، فکفنوه وصلی علیه صحابی رسول اللّه صلی الله علیه و آله عبداللّه بن مسعود، ثم دفنوه (3).

2 - أبو ذر رحمه الله والاشتراکیة

لقد سعی البعض من المتعصبین بدافع حبّه لمعاویة وبنی أمیة أو لفرط ذوبانه فی عثمان لإثارة بعض الغبار علی شخصیة أبی ذر، وذلک لعدم إمکانیة الجمع بین کون أبا ذر من أولیاء اللّه أنّه أصدق من علی الأرض وأنّ عثمان خلیفةالمسلمین ومعاویة من الصحابة، ومن هنا فلم یروا أخف وطأة علیهم من أبی ذر فقالوا: إنّ أبا ذر لا یؤمن بالملکیة الفردیة وکانت له نزعة اشتراکیه.

وقال الرزکلی فی کتاب «الاعلام فی أبی ذر» : «ولعله أول اشتراکی طادرته الحکومات» (4).

وهذا فی الوقت الذی لم یتطرق فیه أبو ذر قط إلی نفی الملکیة الفردیة، بل شدد من حملاته ضد الأثریاء کمعاویة ممن یوزعون الثروة بصورة غیر عادلة، ولذلک لم یکن یشن مثل هذه

ص:258


1- 1) بحار الانوار 22/398. [1]
2- 2) ورد فی معجم البلدان أنّ الربذة من القری الواقعة أطراف المدینة حیث تبعد عنها ثلاثة أمیال (حدود 150کیلومتر) .
3- 3) لخصت هذه المطالب من عدّة کتب معروفة کشرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، وشرح المرحوم التستری، وشرح المرحوم الخوئی، وبحار الانوار.
4- 4) الأعلام للزرکلی، ذیل کلمة جندب.

الحملات علی عهد الخیفة الأول والثانی، قال البعض وردت عبارة «مال اللّه» فی کلمات أبی ذر، فاستفادو منها نفیه للملکیة الخاصة، والحال التعبیر بمال اللّه عن بیت المال هو تعبیر متداول وسائد، فقد صرّح المرحوم العلّامة الأمینی فی المجلد الثامن من الغدیر حین نقل نعت أبی ذر بالاشتراکیة أنّ التعبیر بمال اللّه کثیر فی أقوال الصحابة، ثم نقل عدّة روایات عن عمر عبّر فیها صریحاً بمال اللّه، کما وردت عدّة روایات عن أمیر المؤمنین علی علیه السلام عبّر فیها بمال اللّه (1).

لا شک أنّه یمکن التعبیر عن تلک الأموال بمال اللّه، بل یمکن اطلاق مال اللّه حتی علی الأموال الشخصیة للناس، فقد جاء فی القرآن الکریم مثل هذه التعبیر: «وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللّهِ الَّذِی آتَاکُمْ. . .» (2).

والحق إنّ هذه الفئة تسرعت فی الحکم علی أبی ذر، حیث کان یؤکد مراراً تمسکه بالآیة: «وَالَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ. . .» (3)، ونعلم جمیعاً أنّ هذه الآیة وردت بشأن مانعی الزکاة.

والأدهی من کل ذلک لجنة فتوی الأزهر قد أصدرت فتوی عام 1367 ق تحت تأثیر بعض المتعصبین فی نفی الشیوعیة لتنقل عقیدة أخری لأبی ذر وحکمت ببطلانها لتعتبرها معلولة لبعده عن مبادیء الإسلام، وهی أنّه کان یعتقد بوجوب اعطاء المال الزائد عن حاجته إلی أهل الحاجة ولا ینبغی أن یحتفظ بتلک الأموال، قال المرحوم الأمینی بعد ذکره لهذه الفتوی لو اُوکل شیخ الأزهر مطالعة هذه المسألة لمن هو أعرف بأبی ذر وحکموا فیها بعیداً عن التعصب، لعلم أنّ لیس هناک مثل هذه العقیدة لأبی ذر، والأسوأ من ذلک ماذکروه من عذر لأبی ذر بعدم معرفة بمبادیء الإسلام، وهذا ما یضحک الثکلی ویبکی کل مسلم غیور، فهل یصح مثل هذا الکلام بشأن صحابی جلیل قضی شرطاً من حیاته مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد شبّهه النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بعیسی خلقاً وخلقاً (4)، والطریف فی الأمر أنّ أبا ذر ثقة عند بعض

ص:259


1- 1) الغدیر 8/343. [1]
2- 2) سورة النور / 33. [2]
3- 3) سورة التوبة / 34. [3]
4- 4) الغدیر 8/312 و 363.

المحدثین کالبخاری ومسلم حیث نقلوا عنه 81 حدیثاً (1)، وهذا بدوره یکشف عن مدی بعد لجنة فتوی الأزهر عن الحقیقة.

3 - العاقبة المریرة لأبی ذر

إنّ الحدیث فی أبی ذر وما لم یقال فیه لکثیر ویتطلب کتاباً مستقلاً، ولکن یبدو من الضروری ذکر هذه النقطة فی أنّ ما منح أبی ذر القوة والصلابة وأرعب خصومه هو زهده الممزوج بصراحة لسانه، فهم لم یستطیعوا الاعتراض علیه لزهده من جانب، ومن جانب آخر لم یطیقوا تحمل صراحته، وإلیک نموذج من ذلک.

روی ابن أبی الحدید عن الجاحظ عن جلّام بن جندل الغفاری قال: کنت غلاماً لمعاویة علی قنسرین والعواصم فی خلافة عثمان، فجئت إلیه یوماً أسأله عن حال عملی، إذا سمعت صارخاً علی باب داره یقول: أتتکم القطار بحمل النار (إشارة إلی الجمال التی کانت تحمل أموال بین المال) ، اللّهم إلعن الآمرین بالمعروف التراکین به، اللّهم إلعن الناهین عن المنکر المرتکبین له، فازبأر معاویة وتعیّر لونه وقال: یا جلّام أتعرف الصارخ؟ فقلت: اللّهم لا. قال: من عذیری من جندب بن جنادة، یأتینا کل یوم فیصرخ علی باب قصرنا بما سمعت! ثم قال: أدخلوه علیَّ، فجیئی بأبی ذر بین قوم یقودونه، حتی وقف بین یدیه، فقال له معاویة: یا عدوّ اللّه وعدوّ رسوله تأتینا کل ویوم فتصنع ما تصنع، أمّا لو أنی کنت قاتل رجلاً من أصحاب محمد من غیر أذن أمیر المؤمنین عثمان لقتلتک، ولکنی أستاذن فیک. فقال أبو ذر: ما أنا بعدوّ للّه ولا لرسوله، بل أنت وأبوک عدوّان للّه ولرسوله، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الکفر، ولقد لعنک رسول للّه صلی الله علیه و آله ودعا علیک مرات ألا تشبع. . فغضب معاویة وأمر بحبسه وکتب إلی عثمان فیه، فکتب عثمان إلی معاویة أن إحمل جندباً علی أغلظ مرکب وأوعره، فوجه به مع من سار به اللیل والنهار، وحمله علی شارف لیس علیها إلّاقتب، حتی قدم به المدینة وقد سقط لحم

ص:260


1- 1) الأعلام للرزکلی 2/140.

فخذیه من الجهد، ثم نفاه عثمان إلی الربذة (1).

ونختتم هذا البحث بحدیث نبوی شریف ورد فی کتاب أسد الغابة، فقد أسلم أبو ذر لثلاث سنوات قبل البعثة، وکان یعبد اللّه: «وَبَایَع النَّبِی صلی الله علیه و آله عَلَی أَنْ لاتَأخُذُهُ فِی اللّهِ لَومَةَ لائِم وَعَلَی أَن یَقُولَ الحَقَّ وإرن کَانَ مرّاً» (2).

4 - کلمات الموّدعین لأبی ذر

جاء فی الکتب التاریخیة أنّ عقیلاً وحسناً وحسیناً علیهم السلام وعماراً رحمه الله قد ودعوا أبا ذر إلی جانب علی علیه السلام وکل قال فی وداعه کلمة، فققد قال عقیل:

«ما عسی أن نقول یا أبا ذر وأنت تعلم إنّا نُحبّک، وأَنت تُحبّنا! فاتق اللّه فان التقوی نجاة واصبر فان الصبر کرم» .

ثم تکلّم الحسن علیه السلام فقال:

«یا عمّاه، لولا أنّه ینبغی للمودع أن یسکت، وللمشیّع أن ینصرف، لقصر الکلام وإن طال الأسف، وقد أتی القوم إلیک ما تری، فضع عنک الدنیا بتذکر فراغها، وشدّة ما إشتد منها برجاء ما بعدها، واصبر حتی تلقی نبیّک صلی الله علیه و آله وهو عنک راض» .

ثم تکلّم الحسین علیه السلام فقال:

«یا عمّاه، إن اللّه تعالی قادر أن یغیر ما قد تری، واللّه کل یوم هو فی شأن، وقد منعک القوم دنیاهم، ومنعتهم دینک، فما أغناک عمّا منعوک وأحوجهم إلی منعتهم، فأسأل اللّه الصبر والنصر، واستعذ به من الجشع والجزع، فانّ الصبر من الدین والکرم. . .» .

ثم تکلّم عمار رحمه الله فقال: «لا آنس اللّه من أوحشک، ولا آمن من أخافک، أما واللّه لو أردت دنیاهم لأمنوک، ولو رضیت أعمالهم لأحبّوک، وما منع الناس أن یقولوا بقولک إلّاالرضا بالدنیا، والجزع من الموت، مالوا إلی ما سلطان جماعتهم علیه، والملک لمن غلب، فوهبوا لهم دینهم، ومنحهم القوم دنیاهم، فخسروا الدنیا والآخرة، ألا ذلک هو الخسران المبین» .

ص:261


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 8/257. [1]
2- 2) اُسد الغابة 1/301. [2]

فبکی أبو ذر رحمه الله وکان شیخاً کبیراً، وقال: رحمکم اللّه یا أهل بیت الرحمة إذا رأیتکم ذکرت بکم رسول اللّه صلی الله علیه و آله، ما لی بالمدینة سکن ولا شجن غیرکم، واللّه ما أرید إلّااللّه صاحباً، وما أخشی مع اللّه وحشة، توکلت علی اللّه والصلاة والسلام علی رسول اللّه وآله (1).

ص:262


1- 1) الکافی 8/208، [1] بتصرف، شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 8/253. [2]

الخطبة المأة والحادیة والثلاثون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

وفیه یبیّن سبب طلبه الحکم ویصف الإمام الحقّ

نظرة إلی الخطبة

أشار الإمام علی علیه السلام فی هذا الکلام إلی عدّة مطالب:

1 - قبوله الحکومة من أجل رفع رایة الدین والعدل فی المجتمع الإسلامی وإصلاح البلاد وأمان العباد واستقرار المظلومین.

2 - أشار علیه السلام فی جانب آخر من الخطبة إلی الاختلافات الفکریة لأصحابه فقال: لا یمکن بسط العدل فی ظل هذه الظروف واعطاء الحقوق إلی أصحابها، ویستحیل بلوغ هذه الأهداف ما لم تتحد قلوبکم وتتفق أعمالکم.

3 - خاض علیه السلام فی تعریف نفسه فقال: أنی أول من سمع رسول اللّه صلی الله علیه و آله فآمنت به، ولم یسبقنی إلّا رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالصلاة.

4 - أشار فی القسم الأخیر من الخطبة إلی صفات الزعیم المقتدر، فعدد أوصافه بکل دقّة، وهی الأوصاف التی یؤدّی توفرها فی الزعیم الإسلامی إلی الدیمومة والثبات.

ص:263


1- 1) سند الخطبة: أشار ابن الجوزی فی «تذکرة الخواص» إلی هذه الخطبة وقال: ابتدأ الإمام هذه الخطبة حین استوی علی منبر الکوفة بالقول: الحمد للّه وأومن به ثم خطب الخطبة، وأورد القاضی نعمان الفصل الأخیر من الخطبة فی المجلد الثانی من «دعائم الإسلام» ، کما أشار إلی بعضها ابن أثیر فی «النهایة» فی مادة ظار ومادة دعا (مصادر نهج البلاغة 2/295) [1] وتدلّ هذه المصادر علی أنّ الخطبة وردت فی عدّة کتب قبل السید الرضی.

ص:264

القسم الأول: لستم من الأصحاب الأخیار

اشارة

«أَیَّتُهَا النُّفُوسُ الُْمخْتَلِفَةُ، وَالْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ، الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، وَالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، أَظْأَرُکُمْ عَلَی الْحَقِّ وَأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَی مِنْ وَعْوَعَةِ الْأَسَدِ! هَیْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِکُمْ سَرَارَ الْعَدْلِ، أَوْ أُقِیمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ»» .

الشرح والتفسیر

من الحوادث الألیمة فی التاریخ الإسلامی أن یبتلی إمام عالم وکفوء مقتدر کعلی علیه السلام بناس جهّال وعبدة للأهواء یعیشون النتاحر والفرقة، فقد کانوا وسائل سیئة لإقامة حکومة الحق والعدل، وقد رأینا منذ بدایة الکتاب لحدّ الآن فی مختلف خطب نهج البلاغة أنّ الإمام علی علیه السلام کان یتألم بشدّة من هذا الأمر وکان دائم الشکوی، باحثاً عن مختلف الأسالیب لعلاج أمراضهم النفسیة والأخلاقیة، فقد قال علیه السلام مستهلاً هذه الخطبة: «أَیَّتُهَا النُّفُوسُ الُْمخْتَلِفَةُ، وَالْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ، الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، وَالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ» .

فقد رکز الإمام علیه السلام هنا علی الجذور الأصلیة لداء المجتمعات والاُمم، ألا وهو الاختلاف والتشتت والذی یؤدّی إلی النزاعات وهدر الطاقات، والعبارة: «الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُم. . .» إشارة إلی حضورهم الجسمانی فی المجتمع وغیابهم الفکری والروحی عن الحوادث الخطیرة التی تصیب المجتمع، أمّا أهمیة هذا الموضوع فقد دفعت بالإمام إلی ذکر مثل هذه العبارات مع اختلاف طفیف فی الخطب الأخری، کالذی ورد فی الخطبة 29 و 97 حیث قال فی الأولی: «أَیُّهَا النَّاس، الُْمجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ، والُْمخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ» .

ص:265

وقال فی الثانیة: «أَیُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الُْمخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ» .

ثم قال علیه السلام: «أَظْأَرُکُمْ (1)عَلَی الْحَقِّ وَأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَی (2)مِنْ وَعْوَعَةِ (3)الْأَسَدِ!» ، العبارة «أظأرکم» بالنظر إلی أنّ «ظأر» جاءت فی اللغة بمعنی القابلة، فهی تشیر إلی مراده أنّی کالقابلة الشفیقة قد رویتکم علی الدوام من عین الحق الجیاشة، لکنّکم کنتم تفرون من ذلک دائماً، تفرون فرارکم من الأسد، وهذه أسوأ حالة یمکن أن تعرض لإنسان فینفر من الحق ویهرب منه بالشکل الذی یفوق التصور، والعبارة «وَعْوَعَةِ الْأَسَدِ!» ، تعبیر رائع فلم یقل «من الأسد» بل قال «وَعْوَعَةِ الْأَسَدِ!» یعنی إنّ هذا الحیوان علی درجة من الجبن بحیث لا ینظر إلی أطرافه لیری هل هو أسد أم لا، بل یهرب لمجرّد سماعه الصوت، وهذا هو حال بعض الحیوانات التی تهرب إذا سمعت زئیر الأسد مهما کانت المسافة بعیدة فی الصحراء.

ثم قال علیه السلام: «هَیْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ (4)بِکُمْ سَرَارَ (5)الْعَدْلِ، أَوْ أُقِیمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ» .

قطعاً لیس للحق من إعوجاج لیراد قیامه، والمراد یخلطونه بالباطل وقد سعی أئمة الهدی علیهم السلام لتخلیص الحق من شوائب الباطل، کما لیس فی العدل من ظلمة لیجلوها عنه، فالظلم الذی غالباً ما یخالط العدل ویلبسه علی حال لا شک أنّ إزالة الظلمة عن العدالة وتمییز الباطل عن الحق، یتطلب أعواناً وأنصاراً من أهل الوعی والتضحیة، ولم یکن للجهال والغدرة المشتتین کأهل الکوفة من قدرة للإستعانة بهم فی إزالة الظلمات وتسویة الاعوجاجات، وهذا داء دوی عرض لإمام عادل وشجاع کعلی بن أبی طالب علیه السلام.

ص:266


1- 1) «أظأر» : من مادة «ظأر» علی وزن ضرب تعنی فی الأصل المراقبة والمواظبة علی الشیء ولما کان عمل القابلة الإرضاع ومراقبة الطفل فقد استعملت هذه المفردة لها.
2- 2) «المعزی» : بمعنی السخلة فی مقابل الضأن بمعنی الخروف.
3- 3) «وعوعة» : بمعنی الضراخ والضجة والزئیر، وتطلق علی الأموات المتداخلة.
4- 4) «اطلع» : لها معنی اللازم وهو الطلوع والظهور وکذلک معنی المتعدی، وهنا بالنظر لسرار مفعولها فقد وردت متعدیة، والباء فی بکم للاستعانة أو السبب.
5- 5) «سرار» : من مادة «سر» تعنی فی الأصل آخر لیلة من الشهر «لیلة المحاق التام) ویراد بها شدّة الظلمة.

العوامل الرئیسیة للفشل

أشرنا سابقاً إلی إبتلاء الإمام علیه السلام بالأصحاب الذین اعتادوا الحیاة المرفهة والدعة والراحة، وقد اعتمدوا مختلف الذارئع للهروب من الجهاد ومقاتلة العدو، وقد سعی الإمام علیه السلام جاهداً لتطهیر روحیتهم من هذه الأدران عن طریق الحث والتشجیع تارة واللوم والعتاب والذم تارة أخری.

وقد أشار فی هذه الخطبة إلی نقاط ضعفهم لیخلصها فی ثلاث هی الاختلاف و التشتت وغیاب العقل والهروب من الواقع، ثم صرّح إثر ذلک: کیف یمکن تطهیر المجتمع من رواسب بنی أمیة وعناصرهم المنافقة المتبقیة من عصر الجاهلیة وإقامة الحق وتسویة العوج، وأنتم بهذه الأحوال.

وکما أراده الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة قانون کلی دائم یحکم کل عصر ومصر ویصدق فی المشاریع السیاسیة والاجتماعیة والعسکریة، وهی الاُمة المتحدة الواعیة التی تستقبل الحق وتعمل به مهما کان مریراً.

ص:267

ص:268

القسم الثانی: الهدف هو إقامة الحق وبسط العدل

«اللَّهُمَّ إِنَّکَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ یَکُنِ الَّذِی کَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِی سُلْطَانٍ، وَلَا الِْتمَاسَ شَیْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلکِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِینِکَ، وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِی بِلَادِکَ، فَیَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِکَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِکَ. اللَّهُمَّ إِنِّی أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ، وَسَمِعَ وَأَجَابَ، لَمْ یَسْبِقْنِی إِلاَّ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله بِالصَّلَاةِ» .

الشرح والتفسیر

بیّن الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة أهداف الحکومة الإسلامیة - ومنها حکومته - بعبارات غایة فی الروعة والدقة لیضمنها دروساً خالدة لجمیع الحکّام المؤمنین والمخلصین فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّکَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ یَکُنِ الَّذِی کَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً (1)فِی سُلْطَانٍ، وَلَا الِْتمَاسَ شَیْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ» .

ربّما کانت هذه العبارة إشارة إلی أصل قبول بیعة الاُمة علی الخلافة، أو إشارة إلی المعارک التی وقعت بینه وبین الأعداء فی صفین وأمثالها، وهی تعکس الأهداف الرئیسیة لحکّام الاستبداد الذین یهدفون إلی أمرین: الحصول علی المنصب مهما کان الثمن والاستیلاء علی الأموال أینما کانت ومن أی کان، والواقع لیس ذلک سوی حب الجاه وحب المال الذی ساد تاریخ البشر واجتاح حتی الحکومات المستبدة، وقد أثبت الإمام علیه السلام عملیاً ما قال، فقد

ص:269


1- 1) «منافسة» : تعنی فی الاصل سعی فردین یرید کل منهما الظفر بشیء نفیس یمتلکه الآخر، فالواقع هی مسابقة شریفة بین فردین من أجل بلوغ کمال من الکمالات، ولکن قد تستعمل هذه المفردة فی الموارد السلبیة، کما تستعمل بشأن الأفراد الذین یتسابقون من أجل نیل المال والمقام، والمراد بها فی الخطبة المعنی الثانی.

اشترط علی الإمام علیه السلام من قبل الشوری التی عینها عمر نیل الخلافة شریطة الانحراف عن مسار رسول اللّه صلی الله علیه و آله فلم یستجب الإمام علیه السلام کما وقف بقوّة بوجه طلحة والزبیر وما قدماه من اقتراح لیس بصواب، کیف یستجیب لهما الإمام علیه السلام هو یری الدنیا کعطفة عنز، ثم بیّن الإمام أهدافه الأربعة من أجل قبول الحکومة وهی: «وَلکِنْ لِنَرِدَ (1)الْمَعَالِمَ مِنْ دِینِکَ، وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِی بِلَادِکَ، فَیَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِکَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِکَ» .

فالواقع أشار الإمام علیه السلام فی العبارات الأربع التی أوردها کدافع أصلیة لقبول البیعة، إلی برامجه المعنویة فی الحکومة ومشاریعه المادیة والظاهریة، فلابدّ فی الدرجة الأولی من إعادة معالم الدین التی تعین للناس مسیرتها نحو اللّه سبحانه وقد اندثرت بفعل الحکومات المستبدة، ومن ثم الإصلاحات فی کافة الشؤون الاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة والأخلاقیة، ونصرة المظلوم من الظالم وإجراء الحدود الإلهیّة بحیث یشعر المظلومون بالأمن والاستقرار حقاً، وإن کان هذه الأهداف الأربعة هی مراد الحکومات لعاشت المجتمعات السعادة والمادیة والمعنویة، وإن کان هدفهم الحصول علی المناصب ونیل الأموال والثروات، فلیست هناک من نتیجة سوی الفساد والظلم وتعطیل الحدود الإلهیّة ومحو الأخلاق والدین، وهذا بحدّ ذاته درس لجمیع المسلمین فی کافة الأزمنة والعصور، وهذه هی الأمور التی ذکرها القرآن الکریم کأهداف لبعثة الأنبیاء وتشکیل الحکومة الإسلامیة، فقد ذکر التعلیم والتهذیب والنجاة من الظلال المبین کهدف للبعثة فقال: (هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمْ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِنْ کَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلَالٍ مُبِینٍ» (2)، کما ذکر فی موضع آخر هذا الهدف المتمثل ببسط العدل والقسط: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَیِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْکِتَابَ وَالْمِیزَانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ. . .» (3)، کما قال: «الَّذِینَ إِنْ مَکَّنَّاهُمْ فِی الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّکَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْکَرِ وَللّهِ ِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ» (4).

ص:270


1- 1) یبدو أنّ هذه المفردة «لنَرِدَ» من مادة وورد قد وردت خطأ فی نسخة نهج البلاغة [1]لصبحی والصحیح لنردبالتشدید من مادة الرد بمعنی الإعادة، کما وردت کذلک فی أغلب نسخ نهج البلاغة. [2]
2- 2) سورة الجمعة / 2. [3]
3- 3) سورة الحدید / 25. [4]
4- 4) سورة الحج / 41. [5]

ثم إختتم الإمام علیه السلام هذا المقطع من الخطبة بذکر شهادة واضحة علی صدق قوله بالنسبة لداوفعه فی قبول البیعة فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّی أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ، وَسَمِعَ وَأَجَابَ، لَمْ یَسْبِقْنِی إِلاَّ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله بِالصَّلَاةِ» .

إشارة إلی أنّ الإسلام کان غریباً آنذاک، والرسول لوحده ولیس إلی جانبه سوی خدیجة علیها السلام زوجته الوفیة، فکان الجهر بالإسلام إزاء المشرکین المتعصبین غایة فی الخطورة، فقد بایع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وإنقاد له، فکان أول من إلتحق به، ولم یکن همّه سوی طاعة اللّه سبحانه وإحیاء الحق والتوحید والعدل، ومازال ذلک الهدف هوالدافع له من أجل قبول البیعة.

لیس هناک من خلاف بین علماء الفریقین بشأن خدیجة علی أنّها أول إمرأة أمنت بالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأنّ علیاً علیه السلام أول من آمن به من الرجال، وإن تذرع البعض من علماء العامّة بصغر سن علی حین أمن، لیسقطوا عنه تلک الفضیلة ویلصقوها بالآخرین، ولکن یتضح خواء هذه الذریعة من خلال قبول النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لإسلام علی صلی الله علیه و آله وأبعد من ذلک تسمیته بوصیّه فی یوم الدار (1).

ص:271


1- 1) ورد شرح إسلام علی علیه السلام وأنّه أول من أسلم فی أغلب مصادر الفریقین والرد علی التخرصات فی المجلد الثالث من هذا الکتاب، والمجلد التاسع، ص326 من نفحات القرآن. [1]

ص:272

القسم الثالث: شرائط حکّام العدل

اشارة

«وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَایَنْبَغِی أَنْ یَکُونَ الْوَالِی عَلَی الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَحْکَامِ، وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِینَ الْبَخِیلُ، فَتَکُونَ فِی أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ، وَلَا الْجَاهِلُ فَیُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلَا الْجَافِی فَیَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَیَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ، وَلَا الْمُرْتَشِی فِی الْحُکْمِ فَیَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ، وَیَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ، وَلَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَیُهْلِکَ الْأُمَّةَ» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام فی المقطع الأخیر من الخطبة فی بیان خصائص ولاة العدل ودعاة الحق حیث أشار إلی ست صفات من صفاتهم، وهکذا یختتم هذه الخطبة التی أوردها بشأن الحکومة الإسلامیة، والحذیر بالذکر أنه استهل الکلام بالعبارة «وقد علمتم» حیث یری الالتزام بهذه الصفات من الأمور العقلیة الواضحة والمسلمة التی یعرفها کل شخص، أو علی الأقل ینبغی معرفتها من کل شخص، فقال: «وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَایَنْبَغِی أَنْ یَکُونَ الْوَالِی عَلَی الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَحْکَامِ، وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِینَ الْبَخِیلُ، فَتَکُونَ فِی أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ (1)» .

والواقع هو أنّ هذه الأمور تشکل أصول الحیاة الفردیة والاجتماعیة للناس وهی الفروج، والأرواح، والأموال، والقوانین، وإدارت الدولة التی ینبغی لللإمام المدبّر والواسع الآفاق والعادل المنصف أن یؤدّی حقوقها جمیعاً، فتأمن الأمّة علی أرواحها وأموالها وأعراضها،

ص:273


1- 1) «النهمة» : تعنی فی الأصل الحاجة وشدّة الحب لشیء والمبالغة فی الحرص علیه.

وتطبق القوانین والأحکام وتوکل زعامة الاُمة وإمامتها إلی الصالحین من أفرادها، فان کان إمام الخلق بخیلاً اقتصرت همّته وشهوته علی جمع الأموال وضحی بکل شیء من أجل بلوغ هذا الهدف، فلا من أمن واستقرار، ولا من احترام للقوانین والأحکام.

ثم قال علیه السلام فی بیان الصفة الثانیة: «وَلَا الْجَاهِلُ فَیُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ» ، فلا شک أنّ العلم بالأحکام والموضوعات والأسالیب الصحیحة تعدّ من أهم دعائم الحکومة ولیس للجهّال من الأفراد قدرة إدارة شؤون الحکومة وإن صفت نیّتهم واتصفوا بالورع و التقوی، فهم یقودون الاُمة إلی المجهول بجهلهم.

وقال علیه السلام فی بیان الصفة الثالثة: «وَلَا الْجَافِی (1)فَیَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ» ، فمن أبرز صفات والی العدل العطف والمحبّة والسماحة والمدارسة، ونعلم بأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قد استقطب القلوب البعیدة عن الحق بهذه الشفقة والمحبّة، وهذه رحمة إلهیّة کبری کما وصفها القرآن الکریم بالقول: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ کُنْتَ فَظّاً غَلِیظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ. . .» (2).

ثم قال علیه السلام فی الصفة الرابعة: «وَلَا الْحَائِفُ (3)لِلدُّوَلِ (4)فَیَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ» ، وهذا هو البلاء الذی أصاب عثمان، وقد سدّد الضربات المهلکة للمجتمع الإسلامی بحیث لا یمکن معالجتها، فقد أغدق أموال بیت المال المسلمین علی قرابته وبطانته ومتملقیه، ممّا أدّی إلی قیام المظلومین علیه حتی قتلوه فظهرت الخلافات العظیمة بین الناس آنذاک وما زالت أثارها باقیة.

ثم قال علیه السلام فی الصفة الخامسة: «وَلَا الْمُرْتَشِی فِی الْحُکْمِ فَیَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ، وَیَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ (5)» ، فأهم عامل للحکم بالظلم والجور هو الرشوة التی یقدمها أصحاب الثراء والقدرة فیغیرون مسار القضاء لیصدر أحکامه لصالحهم ضد أصحاب الحق فیحولون دون إجراء الحق والعدل.

ص:274


1- 1) «الجافی» : من مادة «جفاء» تعنی قی الأصل العنف وأخذ الشیء.
2- 2) سورة آل عمران / 159. [1]
3- 3) «الحائف» : من مادة «حیف» بمعنی الظلم والجور وتعنی فی الأصل الانحراف فی الحکم التمییز.
4- 4) «دول» : جمع «دولة» بمعنی المال.
5- 5) «المقاطع» : جمع «مقطع» بمعنی أخر کل شیء، کما تطلق هذه المفردة أحیاناً علی الحدود الإلهیّة التی تنتهی بجرم المجرمین وقد وردت بهذا المعنی فی العبارة، وفی إشارة إلی أنّ القاضی إن کان مرتشیاً فانّه لا یأذن باجراء حدود اللّه تعالی.

طبعاً فلسفة القوانین والمحاکم حفظ حقوق الضعفاء، وإلّا فالأقویاء یحفظون حقوقهم، وإن تسللت هذه الرشوة إلی المحکمة ونفذت إلی ذهن القاضی والتی لا یقوی علی دفعها سوی الأثریاء والأقویاء، فعندما تسلب قدرة الضعفاء علی الدفاع فتضیع حقوقهم، وهذا هو الأمر الذی نشهده فی کافة أنحاء عالمنا المعاصر، ومن الضروری الالتفات إلی هذه النقطة أنّ الرشوة لا تقتصر علی الجانب المالی، فقد تتخذ أشکالاً أخری کتصفیة الحسابات السیاسیة والوصول إلی المناصب والمقامات والشهوات الجنسیة والمدح الکاذب وأمثال ذلک، وهکذا تتحرک عجلة المحکمة باتجاه الظلم والجور.

وقال علیه السلام فی الصفة السادسة الأخیرة: «وَلَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَیُهْلِکَ الْأُمَّةَ» ، طبعاً یمکن أن یکون المراد بالسنّة سنّة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أو السنن والقوانین التی أمضاها اللّه فی عالم الخلقة أوالسنین الاجتماعیة الحسنة التی أشیر إلیها فی عهد مالک الأشتر: «وَلاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هذِهِ لْأُمَّةِ» ، أو جمیعها وإن بدا المعنی الأول هو الأقرب.

آفة الحکومات

کما ورد فی بدایة هذه الخطبة، فهی تتألف فی الواقع من ثلاثة أقسام مرتبطة مع بعضها تماماً، الأول ذم الإمام علیه السلام القوی الجاهزة التی ینبغی لها أن تنشط فی إقامة الحق والعدل، لکنّها عاشت الضعف والجز بفعل الاختلاف وعدم توظیف العقل والفکر، ثم أشار إلی أهداف ودوافع حکومة العدل الإسلامیة والإنسانیة، بینما ذکر آخر الخطبة الأرکان الأصلیة لمواصفات حکّام العدل، طبعاً إن کانت القوی المؤمنة والمتحدة من جانب، والأهداف والدوافع المقدّسة والوالی الذی یتحلی بالصفات الست المذکورة من جانب آخر، فانّ ذلک سیؤدّی إلی قیام حکومة من شأنها حفظ الأمن والاستقرار وإحیاء القیم الإنسانیة، وبالعکس لو:

حل البخل بدل الکرم.

والجهل بدل العلم.

ص:275

والعنف بدل الرأفة والرحمة.

وخاض الحکّام فی البذخ ونهب الأموال والثروات والتمییز والظلم والجور، وتسللت الرشوة إلی الجهاز القضائی، وعطلت السنن الحسنة، فتتأسس حکومة فاسدة ینعدم فیها الدین کما تزول فیها الدنیا. . . ویا له من درس وعبرة لحکّام الحق.

ص:276

الخطبة المأة والثانیة والثلاثون

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطبَةٍ لهُ علیه السلام

یعظ فیها ویزهّد فی الدنیا

نظرة إلی الخطبة

تشمتل هذه الخطبة کما ورد فی عنوانها علی المواعظ والإرشادت والنصائح والوصیة بالزهد فی الدنیا، وتتألف من أربعة أقسام هی:

1 - حمد اللّه والثناء علیه مع ذکر صفات اللّه سبحانه الخاصة والشهادة الخالصة للنبی صلی الله علیه و آله بالنبوة.

2 - إشارة إلی انتهاء الأجل وسلخ الإنسان من کافة ممتلکاته التی حازها فی الحیاة الدنیا.

3 - لزوم الاعتبار بحیاة الاُمم السالفة، واُولئک الذین جمعوا الأموال والثروات، فکان عاقبة دورهم أن أصبحت قبورهم، کما خلّفوا للآخرین أزواجهم وأموالهم.

4 - ضرورة اغتنام فرض الدنیا وإعداد المتاع والزاد للآخرة.

ص:277


1- 1) سند الخطبة: نقلها بصورة متفرقة الآمدی - من علماء القرن الخامس - فی کتاب «الغرر» ، ویفهم من اختلافها مع ما ورد فی نهج البلاغة أنّها کانت فی مصدر آخر غیر نهج البلاغة، کما أشار ابن الأثیر المتوفی عام 606 ه فی «النهایة» إلی جوانب من هذه الخطبة (مصادر نهج البلاغة 2/298) .

ص:278

القسم الأول: صفات اللّه الخاصة

«نَحْمَدُهُ عَلَی مَا أَخَذَ وَأَعْطَی، وَعَلَی مَا أَبْلَی وَابْتَلَی. الْبَاطِنُ لِکُلِّ خَفِیَّةٍ، وَالْحَاضِرُ لِکُلِّ سَرِیرَةٍ. العَالِمُ بِمَا تُکِنُّ الصُّدُورُ، وَمَا تَخُونُ الْعُیُونُ. وَنَشْهَدُ أَنْ لَاإِلهَ غَیْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً نَجِیبُهُ نجیّه وَبَعِیثُهُ شَهَادَةً یُوَافِقُ فِیهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ» .

الشرح والتفسیر

استهل الإمام علیه السلام الخطبة بحمد اللّه والثناء علیه وذکر أوصافه الخاصة فقال: «نَحْمَدُهُ عَلَی مَا أَخَذَ وَأَعْطَی، وَعَلَی مَا أَبْلَی وَابْتَلَی» .

والمراد من «أخذ» سلب النعم والآلاء الإلهیّة، والمراد من «أعطی» وهبها، ومن «أبلی» إعطاء النعمة و «إبتلی» الامتحان بواسه أخذ النعم، ومن هنا ذهب أغلب شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ هاتین العبارتین تفسیرتین (أی أن أخذ تعادل أبلی وأعطی تعادل ابتلی) ، لکن یحتمل أن تکون الأولی إشارة إلی النعم المادیة والثانیة إشارة إلی النعم المعنویة، لأنّ المفردة «أخذ» کثیراً ما تستعمل فی الأمور المادیة.

علی کل حال یستفاد من العبارات المذکورة أنّ سلب النعمة قد یکون نفسه نعمة، لأنّ وفور النعمة سبب الغرور والابتعاد عن اللّه ومقاطعة الخلق، أضف إلی ذلک فانّ الحمد تجاه سلب النعم علامة علی التسلیم المطلق لمشیئة اللّه.

ثم أشار إلی ذکر ثلاثة أوصاف أخری من أوصاف اللّه سبحانه وتعالی والتی تشکل فی

ص:279

الواقع تحذیراً لکافة الأفراد الذین یراقبون أنفسهم ونیّاتهم فقال علیه السلام: «الْبَاطِنُ لِکُلِّ خَفِیَّةٍ (1)، وَالْحَاضِرُ لِکُلِّ سَرِیرَةٍ. العَالِمُ بِمَا تُکِنُّ الصُّدُورُ، وَمَا تَخُونُ الْعُیُونُ» .

فهذه الصفات تدلّ بوضوح علی أنّ علم اللّه سبحانه علم حضوری، یعنی أنّه حاضر وناظر فی کل مکان، فالخفیات والعلنیات لدیه علی حدّ سواء، والحضور والغیاب عنده واحد، فهو یعلم أسرار الصدور وخائنة الأعین، وهو علم بباطن کل شخص وکل شیء.

حقّاً إنّ الإنسان لو تأمل حقیقة الحمد والثناء وذکر هذه الصفات وأمن بها إیماناً راسخاً لأدرک أنّ العالم حاضر عند اللّه تبارک وتعالی، وللّه حضور فی روحه وفکره، ولما قارف السیئة، بل لما فکر فیها.

ثم إختتم هذا المقطع من الخطبة بالشهادة للّه بالوحدانیة وللنّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بالنبوة، فقال علیه السلام: «وَنَشْهَدُ أَنْ لَاإِلهَ غَیْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً نَجِیبُهُ (2)نجیّه وَ بَعِیثُهُ (3)شَهَادَةً یُوَافِقُ فِیهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ» .

طبیعی أنّ الشهادة بهذین الرکنین الأصلیین الذین یشکلان أسس الإیمان تدعو الإنسان إلی نفی معبود آخر وتحذر من عبادة الشیطان وهوی النفس الأمارة، کما تدعو الشهادة بالنبوّة إلی طاعة الإنسان لأوامر النبی صلی الله علیه و آله، ولا سیّما الشهادة التی لا تقتصر علی اللسان بل تتعزز بالقلب وروح الإنسان.

ص:280


1- 1) اللام فی «خفیة» بمعنی فی أو بمعنی مع وکذلک اللام فی «لکل سریرة» .
2- 2) «نجیب» : من مادة «نجابة» الإنسان أوالشیء المصطفی والنفیس.
3- 3) «بعیث» : من مادة «بعثة» بمعنی مبعوث.

القسم الثانی: نزول الموت؟

و منهَا: «فَإِنَّهُ وَاللّهِ الْجِدُّ لَااللَّعِبُ، وَالْحَقُّ لَاالْکَذِبُ. وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِیهِ، وَأَعْجَلَ حَادِیهِ. فَلَا یَغُرَّنَّکَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِکَ، وَقَدْ رَأَیْتَ مَنْ کَانَ قَبْلَکَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَحَذِرَ الْإِقْلَالَ، وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ - طُولَ أَمَلٍ وَاسْتِبْعَادَ أَجَلٍ - کَیْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ، مَحْمُولاً عَلَی أَعْوَادِ الْمَنَایَا، یَتَعَاطَی بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلاً عَلَی الْمَنَاکِبِ وَإِمْسَاکاً بِالْأَنَامِلِ. أَمَا رَأَیْتُمُ الَّذِینَ یَأْمُلُونَ بَعِیداً، وَیَبْنُونَ مَشِیداً، وَیَجْمَعُونَ کَثِیراً! کَیْفَ أَصْبَحَتْ بُیُوتُهُمْ قُبُوراً، وَمَا جَمَعُوا بُوراً؛ وَصَارتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِینَ، وَأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِینَ؛ لَافِی حَسَنَةٍ یَزِیدُونَ، وَلَا مِنْ سَیِّئَةٍ یَسْتَعْتِبُونَ!» .

الشرح والتفسیر

حذر الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة الجمیع فی أنّ هذه الحیاة الدنیا إلی زوال ولابدّ من مفارقة هذه الدنیا عاجلاً أم آجلاً والالتحاق بالآخرة وتحمل تبعات الأعمال فقال: «فَإِنَّهُ وَاللّهِ الْجِدُّ لَااللَّعِبُ، وَالْحَقُّ لَاالْکَذِبُ. وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِیهِ (1)، وَأَعْجَلَ حَادِیهِ (2)» .

ولما کان الموت حقیقة واقعة بالنسبة لجمیع الأفراد، وقضیة قطعیة تأبی الاجتناب، فقد

ص:281


1- 1) اسمع فعل وداعی فاعل وضمیره یعود إلی الموت ومفعوله محذوف وهو جمیع الناس، أی إنّ داعی الموت أوصل صوته لیسمع الجمیع.
2- 2) «حادی» : من مادة «حداء» من یسوق الجمال بسرعة والعبارة فعل وفاعل ومفعول محذوف کالجملة السابقة.

أکّد الإمام علیه السلام کلامه بأنواع التأکیدات (1)، والتی بلغت عشرة أنواع حسب قول بعض شرّاح نهج البلاغة، فقال أنّ صوت داعی الموت یطرق الأذن من کل جانب وقد دوّی صوت الرحیل لیملا کافة أرجاءالعالم، وملک الموت لا یفرق بین کهل وشاب وطفل، فقد کمن للجمیع ولا یتنظر سوی أمر اللّه، ثم قال علیه السلام: «فَلَا یَغُرَّنَّکَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِکَ، وَقَدْ رَأَیْتَ مَنْ کَانَ قَبْلَکَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَحَذِرَ الْإِقْلَالَ، وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ - طُولَ أَمَلٍ وَاسْتِبْعَادَ أَجَلٍ - کَیْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ (2)عَنْ وَطَنِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ» ، یمکن أن یکون للعبارة «فَلَا یَغُرَّنَّکَ سَوَادُ النَّاسِ» ، معنیان:

الأول: إن رأیت الناس أحیاء وسالمین فلا یخدعک ذلک ولا یغفلک من الموت.

والثانی: لا تخدعک جماعات الناس لأن تفکر فی الحیاة لا الموت، ومفهوم العبارة: «وَحَذِرَ الْإِقْلَالَ» ، ابعاد النفس (حسب طنه) عن الفقر بجمع الأموال، والعبارة: « وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ» تعنی تصور الشخص أنّه بمأمن من عاقبة عمله بسبب الآمال الفارغة بأنّ الوقت مازال مبکراً علی الموت، ولکن رغم کل هذه الآمال والأمانی، فقد فاجأهم الموت وأخرجهم بسرعة وعنف من وطنهم المألوف وطردهم من مکانهم الآمن، ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بأنّ ذلک فی الوقت الذی یحملون فیه علی الأولاد وقد تناولتهم أیدی الرجال لیمسکوهم بالأنامل، وکأنّهم متنفرون ومرعبون من حمل توابیتهم بکامل أیدیهم: « مَحْمُولاً عَلَی أَعْوَادِ الْمَنَایَا، یَتَعَاطَی بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلاً عَلَی الْمَنَاکِبِ وَإِمْسَاکاً بِالْأَنَامِلِ» .

فقد رسم الإمام علیه السلام صورة واضحة بهذه العبارات الصریحة والبلیغة المؤثرة لکیفیة نهایة حیاة الأثریاء المرفهین والمغرورین بالجاه والمنصب، ولاسیّما حین یدرکهم الموت المفاجیء، فهی عبارات تمزق کافة الحجب التی تسدل علی عین الإنسان، کما توقظ کل سامع من نوم غفلته.

ثم أضفی علیه السلام صورة أخری علی هذا المعنی مواصلة لکلامه فقال: «أَمَا رَأَیْتُمُ الَّذِینَ یَأْمُلُونَ

ص:282


1- 1) هذه الأنواع العشرة من التأکید هی: «ان» وضمیر الشأن «إن» اعتبرنا الضمیر فی «أنّه» ضمیر الشأن والجملةالاسمیة والقسم بلفظ الجلالة والجد والألف واللام التی دخلت علیه ولا اللعب والحق ولا الکذب والاستفادة من الحصر فی العبارة (ما هو إلّا. . .) .
2- 2) «ازعج» : من مادة «ازعاج» بمعنی الاقتلاع والاخراج.

بَعِیداً، وَیَبْنُونَ مَشِیداً (1)، وَیَجْمَعُونَ کَثِیراً! کَیْفَ أَصْبَحَتْ بُیُوتُهُمْ قُبُوراً، وَمَا جَمَعُوا بُوراً؛ وَصَارتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِینَ، وَأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِینَ؛ لَافِی حَسَنَةٍ یَزِیدُونَ، وَلَا مِنْ سَیِّئَةٍ یَسْتَعْتِبُونَ!

نعم، یفیق الإنسان من نوم الغفلة حین یصفعه الأجل، وفی تلک اللحظة تغلق صحف الأعمال تماماً، فلا من شیء یمکن واضافته إلی الحسنات، ولا یمکن تقلیل شیء من السیئات، ولو سلب الإنسان حیاته بینما بقیت صحف العمل مفتوحة والسبیل مشرع أمام تدارکها فلا عقبة ولا ضیر، إلّاأنّ المشکلة تکمن فی غلق صحیفة الأعمال فلا مجال لتدارکها، وهذا ما یجعل الإنسان یعیش الهم والغم.

ص:283


1- 1) «مشد» : من مادة «شید» علی وزن بید، لها معنیان: الأول بمعنی الارتفاع والآخر بمعنی الجص ومن هنایطلق علی القصور المرتفعة والعالیة التی تعانق السماء باقصور المشیدة، کما تطلق علی القصور المحکمة لتبقی محصنة من حوادث الدهر (فی مقابل مساکن المستضعفین التی تبنی عادة من الطین) .

ص:284

القسم الثالث: ممر یعرف باسم الدنیا

اشارة

«فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَی قَلْبَهُ بَرَّزَ ] [بَرز] [ مَهَلُهُ، وَفَازَ عَمَلُهُ. فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا، وَاعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا: فَإِنَّ الدُّنْیَا لَمْ تُخْلَقْ لَکُمْ دَارَ مُقَامٍ، بَلْ خُلِقَتْ لَکُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الْأَعْمَالَ إِلَی دَارِ الْقَرَارِ. فَکُونُوا مِنْهَا عَلَی أَوْفَازٍ. وَقَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّیَالِ ] [للزّوال] [ » .

الشرح والتفسیر

خلص الإمام علیه السلام إلی نتیجة بعد مقدمات دقیقة أوردها فی بدایة ووسط هذه الخطبة بشأن علم اللّه بکل شیء سیّما بأعمال العباد ونیّاتهم وکذلک قرب الموت والاعتبار بحیاة الماضین فقال: «فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَی قَلْبَهُ بَرَّزَ (1)بَرزمَهَلُهُ (2)، وَفَازَ عَمَلُهُ» . فمن الواضح أنّ التقوی إذا تجذرت فی أعماق قلب الإنسان ظهرت ثمارها علی یدیه ولسانه وعینه وسمعه، وذلک لأنّ التقوی ملکة نفسیة تتمثل بخشیة اللّه وهی الدافع القوی للإتیان بالأعمال الصالحة وحاجز عن الذنوب والمعاصی.

ثم واصل الإمام کلامه فقال: «فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا (3)، وَاعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا» ، إشارة إلی أنّ

ص:285


1- 1) «برز» : من مادة «بروز» بمعنی الظهور والسبقة، وتوضیح ذلک أنّ هذه المفردة تکون أحیاناً علی هیئة ثلاثی مجرّد (علی وزن ضرب) بمعنی الظهور، وأحیاناً أخری من باب تفعیل (علی وزن صرّف) بمعنی السبقة، وقد استعملت فی العبارة الثانی، وإن وردت بصیغة الثلاثی المجرد فی بعض النسخ.
2- 2) «مهل» : له معنی الاسم المصدری وتعنی الوفق والمداراة، کما تستعمل بمعنی الفرصة للقیام بالعمل الصالح.
3- 3) «هبل» : نعنی أحیاناً الهلکة وفقدان الشیء أحیاناً، وأخری بمعنی الغنیمة والاهتبال بمعنی الخدعة، کمایعنی الاغتنام والاستیلاء علی شیء، والمعنی الثانی هوالمراد بالعبارة.

الجنّة لا تعطی لأحد بالمجان، کما لا تتأتی من خلال الظن والتصور والخیال والزعم الفارغ، فمفتاح الجنّة الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة تنبعث من التقوی.

ثم قال علیه السلام فی مواصلة لشرح وضع الدنیا والآخرة ومنزلة کل جماعة: «فَإِنَّ الدُّنْیَا لَمْ تُخْلَقْ لَکُمْ دَارَ مُقَامٍ، بَلْ خُلِقَتْ لَکُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الْأَعْمَالَ إِلَی دَارِ الْقَرَارِ» ، فالنظرة الإسلامیة التی تعرض لها القرآن الکریم ونهج البلاغة مراراً تکمن فی أنّ الدنیا دار ممر وأنّها قنطرة ومیدان للتدریب وبالتالی فهی متجر ومقدمة للآخرة الموضوع الأصلی للإنسان، وإن اعتمدنا هذه النظرة للدنیا آنذاک سیبدو لنا کل شیء بصیغة أخری وستحول دون مقارفتنا للذنب والظلم، وتسوقنا نحو الخیر والاحسان.

أمّا أتباع المدارس المادیة التی تری الدنیا ولذاتها هدفها النهائی، وقد غفلت تماماً عن الآخرة، فلیس هناک من حد لتلوثها بالذنوب والنزاعات من أجل الاستحواذ علی الأموال والمناصب الظاهریة، وعلیه فلا أمل فی إطفاء غائلة المعارک والنزاعات بینها، وأخیراً خلص الإمام إلی نتیجة رائعة عمیقة المعنی فقال: «فَکُونُوا مِنْهَا عَلَی أَوْفَازٍ (1). وَقَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّیَالِ (2)» ، فی إشارة إلی أنّ الوقت ضیق والموانع کثیرة وزمان الرحیل مجهول تماماً، ولا ینبغی أن یقتصر التأهب علی الکهول، بل لابدّ أن یعیش ذلک التأهب حتی الشباب علی الدوام، فما أکثر من بقی من الآباء الکهول والعجزة، بینما رحل الشبان الأشداء.

نتیجة الخطبة

أشار الإمام فی هذه الخطبة إلی أمور مهمّة یمکن إیجازها فی ما یلی:

1 - لفت الأنظار فی بدایة الخطبة إلی حضور اللّه سبحانه فی کل مکان وعلمه بخفایا الإنسان وباطنه، لیراقب الجمیع أعمالهم.

ص:286


1- 1) «أوفاز» : جمع «وفز» علی وزن نبض السرعة والعجلة والاستعداد للسفر.
2- 2) «الزیّال» : بمعنی الفراق والعبارة «قربوا الظهور للزیّال» تعنی أعدوا المراکب للرحیل من الدنیا ولازمةذلک الإتیان بالأعمال الصالحة والتوبة من الذنوب وأداء حقوق المخلوق والخالق.

2 - عدّ الشهادة الحقیقة بالوحدانیة للحق والنبوة للنبی صلی الله علیه و آله من العلم الذی ینسجم فیه الظاهر والباطن وینفصل عن کل نفاق.

3 - إلفات إنتباه الجمیع إلی قرب الموت والرحیل عن الدنیا وهو سبب الیقظة والعلم.

4 - دعی مخاطبیه لمطالعة تاریخ الماضین من خلال الکتب والآثار التی خلفوها فی المدن والمناطق، لیعلموا أنّ ذلک المصیر ینتظرهم مهما کانوا ومهما بلغوا.

5 - دعی الجمیع إثر تلک المواعظ والإرشادات إلی الروع والتقوی، التقوی التی تخترق أعماق قلب الإنسان وتظهر آثارها علی جمیع أفعاله وممارساته.

6 - یذکّر کافة مخاطبیه بهذه النقطة وهی عدم إعطاء الجنّة لأحد دون حساب، بل لها ثمن لا یبلغها العبد إلّابه.

7 - یستعرض أخیراً هذا الأمر فی أنّ الدنیا ممر ولا مقر، متجر ینبغی للجمیع التزود منه فیستعدوا فی کل آن للرحیل والانطلاق.

ص:287

ص:288

الخطبة المأة والثالثة والثلاثون

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطبَةٍ لهُ علیه السلام

یُعظّم اللّه سبحانه ویَذکر القرآن والنبی ویَعظُ الناس

نظرة إلی الخطبة

یتضح من النظرة الإجمالیة إلی الخطبة أنّها تتألف من خمسة أقسام مهمّة هی:

القسم الأول: یتحدث عن عظمة اللّه وقدرته المطلقة وسجود کافة المخلوقات لذاته المقدّسة.

القسم الثانی: إشارة إلی عظمة القرآن الکریم وخلوده.

القسم الثالث: فی النبی صلی الله علیه و آله وأنّ اللّه سبحانه أرسله بعد فترة وختم به النبوة.

القسم الرابع: الحدیث عن تفاهة الدنیا ودعوة الجمیع للیقظة والتعرف علی الدنیا والتزود منها.

القسم الخامس: وعظ المخاطبین والعود علی التذکیر بالقرآن وعظمته ولزوم التدبر فی آیاته، وهکذا یعرض اطروحة کاملة لأهل الحق لنیل السعادة.

ص:289


1- 1) سند الخطبة: لم یجد کاتب مصادر نهج البلاغة سنداً آخر لهذه الخطبة، سوی ما قاله ابن أبی الحدید من أنّ ما ورد فی هذه الخطبة جزء اقتطفه السید الرضی من خطبة طویلة، فیراه دلیلاً علی أنّه أصل الخطبة وإن لم یشر إلی سندها، ولکن یحتمل أن یکون کلام ابن أبی الحدید استنباطاً لهذه الخطبة فی نهج البلاغة، لأنّ السید الرضی بیّن من خلال تعبیره «منها ومنها» والذی کرره فی هذه الخطبة أنّه قطعها، کما أنّ عدم إرتباط أجزائها یفید أنّ أصل الخطبة طویل جدّاً، وقد ذکرها الآمدی فی «الغرر» ویحتمل أنّه نقلها من مصدر آخر.

ص:290

القسم الأول: انقیاد ما فی الدنیا لله

اشارة

«وَانْقَادَتْ لَهُ الدُّنْیَا وَالْآخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا، وَقَذَفَتْ إِلَیْهِ السَّموَاتُ وَالْأَرَضُونَ مَقَالِیدَهَا، وَسَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ الْأَشْجَارُ النَّاضِرَةُ، وَقَدَحَتْ لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّیرَانَ الْمُضِیئَةَ، وَآتَتْ أُکُلَهَا بِکَلِمَاتِهِ الِّثمَارُ الْیَانِعَةُ» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علیه السلام فی هذا المقطع فی بیان طائفة من أوصاف اللّه تبارک وتعالی، وأشار بخمس عبارات إلی أمور دقیقة بهذا الشأن فقال: «وَانْقَادَتْ لَهُ الدُّنْیَا وَالْآخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا (1)» .

فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام شبّه الدنیا والآخرة بالحیوانات السلسة والمروضة التی أسلمت زمامها فیقودها حیث یشاء، ثم قال علیه السلام فی العبارة الثانیة مؤکّداً ذات المعنی السابق بصیغة أخری: «وَقَذَفَتْ إِلَیْهِ السَّموَاتُ وَالْأَرَضُونَ مَقَالِیدَهَا (2)» ، فهو یفتح ما یشاء ویغلق ما یشاء ویفعل کل ذلک علی أساس الحکمة، وأشار فی العبارة الثالثة إلی سجود الأشجار والناضرة لذاته المقدّسة وقال علیه السلام: «وَسَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (3)الْأَشْجَارُ النَّاضِرَةُ» .

صبعاً الترکیز علی الأشجار الناضرة لا یعنی الحصر، بل نموذج من أجمل الکائنات الحیة

ص:291


1- 1) «أزمة» : جمع زمام اللجام.
2- 2) «مقالید» : قال أغلب أرباب اللغة مقلید وقال البعض الآخر جمع مقلاد بمعنی مفتاح، وقال صاحب «لسان العرب» أنّ أصلها فارسی کلید الذی یعنی المفتاح، کما قال صاحب «لسان العرب» تأتی أحیاناً بمعنی الخزائن إلّاأنّ المعنی الأول أنسب وأکثر إنسجاماً مع العبارة أزمة فی الجملة السابقة وقذفت فی هذه الجملة.
3- 3) «غدو» : جمع «غدوة» بمعنی الصباح، و «الآصال» جمع أصل علی وزن رسل وهی جمع من مادة أصل بمعنی العصر وآخر النهار واعتبر بعض أرباب اللغة الآصال والأصل جمع أصیل.

لعالم الخلیقة، کما یشیر الغدو والآصال إلی جمیع الأوقات، کقولنا إنا فی خدمة نشر المبادیء الإسلامیة لیل ونهار، أی فی جمیع الأحوال والأوقات، ومن هنا أطلق القرآن الکریم القول: «والنَّجمِ والشَّجَرِ یَسجُدَانِ» (1)، کما یحتمل أن تکون آثار اللّه وعظمته أوضح فی الأشجار حین شروق الشمس وغروبها أکثر من أی زمان، ویمکن أن یکون هذا السجود بلسان الحال، لأنّ نظامها الدقیق یعکس علم خالقها وقدرته المطلقة، کما یمکن أن یکون بلسان القال، وبناءاً علی تمتع کافة ذرات کائنات العالم بالعلم والشعور وتسبیحها للّه سبحانه عن علم وسجودها له.

وقال علیه السلام فی العبارة الرابعة: «وَقَدَحَتْ (2)لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا (3)النِّیرَانَ الْمُضِیئَةَ» .

وهذا من عجائب القدرة الإلهیّة بأن یخلق مادة بین الماء والتراب تکون مرکزاً للنور والضوء، وذلک الضوء الذی تحل من خلاله أغلب مشاکل الإنسان.

ثم قال علیه السلام: «وَآتَتْ أُکُلَهَا بِکَلِمَاتِهِ الِّثمَارُ الْیَانِعَةُ (4)» .

اسجام الآیات والروایات

تتفق عبارات الخطبة التی تضمنت آثار التوحید اللّه وعظمته وما ورد فی الآیات والقرآنیة، فقد ورد فی موضع من القرآن الکریم: «لَهُ الْحَمْدُ فِی الْأُولَی وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُکْمُ وَإِلَیْهِ تُرْجَعُونَ» (5)، وفی موضع آخر: «لَهُ مَقَالِیدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِینَ کَفَرُوا بِآیَاتِ اللّهِ أُوْلَئِکَ هُمْ الْخَاسِرُونَ» (6)، وکذلک: «أَلَمْ تَرَی أَنَّ اللّهَ یَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِی السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِی الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ. . .» (7)، وورد أیضاً: «الَّذِی

ص:292


1- 1) سورة الرحمن / 6. [1]
2- 2) «قدحت» : من مادة «قدح» علی وزن مدح بمعنی ضرب الحجر بالسندان لتولید شعلة النار والتی کانت شائدة سابقاً، ثم وردت بمعنی اشتعلت.
3- 3) «قضبان» : جمع قضیب بمعنی عضن الشجرة وقضب علی وزن نبظ بمعنی الفاکهة.
4- 4) «یانعة» : من مادة «ینع» علی وزن منع بمعنی نضج الفاکهة.
5- 5) سورة القصص / 70. [2]
6- 6) سورة الزمر / 63. [3]
7- 7) سورة الحج / 18. [4]

جَعَلَ لَکُمْ مِنْ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» (1)، وقال: «وَهُوَ الَّذِی أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَیْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُکُلُهُ وَالزَّیْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَیْرَ مُتَشَابِهٍ کُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ. . .» (2).

علی کل حال کلما تأملنا آیات القرآن الکریم وخطب نهج البلاغة کهذه الخطبة اتضحت لنا عظمة الحق تبارک وتعالی وقدرته ونعمته فتثیر الدنیا حس الشکر له لنرتوی من العین الصافیة لفرات معرفته وتعرفنا علی صفات جماله وجلاله.

ص:293


1- 1) سورة یس / 80. [1]
2- 2) سورة الانعام / 141. [2]

ص:294

القسم الثانی: إعجاز القرآن

اشارة

منهَا: «وَکِتَابُ اللّهِ بَیْنَ أَظْهُرِکُمْ نَاطِقٌ لَایَعْیَا لِسَانُهُ، وَبَیْتٌ لَاتُهْدَمُ أَرْکَانُهُ، وَعِزٌّ لَاتُهْزَمُ أَعْوَانُهُ» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علیه السلام فی هذا المقطع القصیر من کلامه بالحدیث عن أهمیّة کتاب اللّه القرآن الکریم، وقد أدّی حق المطلب بثلاث عبارات قصیرة وبلیغة: «وَکِتَابُ اللّهِ بَیْنَ أَظْهُرِکُمْ (1)نَاطِقٌ لَایَعْیَا (2)لِسَانُهُ، وَبَیْتٌ لَاتُهْدَمُ أَرْکَانُهُ، وَعِزٌّ لَاتُهْزَمُ أَعْوَانُهُ» .

فقد أشار فی العبارة الاُولی إلی هدایة القرآن فی کل زمان ومکان وتحت أیة ظروف، وإن بدا صامتاً، لکنّه تحدث بمئة لسان، وقد سمعه کل من جلس إلیه ومنحه آذاناً صاغیة، فهو لا ینفک یلقن الإنسان دورس الحیاة السعیدة، والعبارة: «لَا یَعْیَا لِسَانُهُ» ، یمکن أن تکون إشارة إلی أنّ تقادم الزمان لا یؤثر مطلقاً علی حقائق القرآن الکریم، وهو غض طری علی الدوام کما صورته الأخبار والروایات (3).

وأشار فی العبارة الثانیة إلی نقطة أخری حفظ القرآن الکریم، فکما یحفظ البیت المستحکم

ص:295


1- 1) «أظهر» : جمع «ظهر» کل شیء، والتعبیر بین أظهرکم تعنی فی أغلب الموارد الدفاع عن الشیء، وذلک لأنّ الأفراد إن أرادوا الدفاع عن منطقة ولوا إلیها ظهورهم وإلتفوا حولها واستقبلوا العدو، ثم استعملت هذه المفردة حین یکون الشخص وسط جماعة سواء دافعوا عنه أم لم یدافعوا، وهذا هوالمعنی المراد بها فی العبارة.
2- 2) «یعیی» : من مادة «عی» علی وزن حی بمعنی التعب والعجز، وقال الراغب فی المفردات تعنی فی الأصل العجز الذی یعرض لجسم الإنسان إثر کثرة المشی، ثم اطلقت علی کل تعب وعجز.
3- 3) ورد هذا الکلام فی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «هو فی کل زمان جدید وعند کل قوم غض إلی یوم القیامة» (بحار الانوار 2/280) . [1]

ذا الأعمدة القویة أصحابه من مخاطر الحوادث والحرارة والبرودة والحیوانات الوحشیة والأعداء واللصوص، فانّ القرآن الکریم یتکفل بحفظ أتباعه من الانحراف والضلال ووسوسة الخناسین وإلقاءات الشیاطین.

وأشار فی العبارة الثالثة إلی هذده الحقیقة وهی أنّ قدرة الإنسان لا تقهر إن لاذ بالقرآن وهبّ لنصرته، وذلک لأنّ قدرة هدایة القرآن تستند إلی قدرة اللّه سبحانه وقدرة اللّه قاهرة لا تغلب، وبفعل مصداق الآیة الشریفة: «إِنْ یَنْصُرْکُمْ اللّهُ فَلَا غَالِبَ لَکُمْ. . .» (1)، فمن تأید بنصر القرآن لن یهزمه عدو.

القرآن الناطق

لعل العبارة التی وردت فی هذا المقطع من الخطبة والتی عبّرت عن القرآن الکریم بأنّ «نَاطِقٌ لَایَعْیَا لِسَانُهُ» تشیر هذا السؤال: کیف التوفیق بین هذه العبارة وما ورد عن الإمام فی الخطبة 158 بشأن القرآن إذ قال علیه السلام: «ذلِکَ الْقُرْآنُ، فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ یَنْطِقَ، وَلَکِنْ أُخْبِرُکُمْ عَنْهُ» .

وکذلک العبارة التی وردت فی الخطبة 183 إذ قال علیه السلام: «فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ» ، أو لیس هناک من تضاد بین هذه العبارات؟

تتضج الإجابة علی هذا السؤال من أدنی دقّة وتأمل، بعبارة أخری فانّ العبارات المذکورة تفسر بعضها البعض الآخر، لأنّ القرآن حین یعبر عن القرآن بالصامت والناطق فمفهوم ذلک أنّ کل تعبیر ناظر لشیء، مثلاً یمکن القول: القرآن صامت من حیث الظاهر، لکنّه فی الواقع تحدث بصوت جلی بلیغ، أو أنّه صامت إزاء الأفراد السطحیین بینما ناطق هو تجاه العلماء المفکرین، أو أنّه ناطق فی مواصلة الطرق العملیة الأصولیة، أمّا بالنسبة لتطبیقها علی مصادیقها استنباط الأحکام الفرعیة (کقضیة التحکیم فی حادثة معرکة صفین) ، فیجب علی المجتهدین أن ینطقوا عنه، ویمکن جمعها معاً فی مفهوم جامع لکلام علی علیه السلام وسیأتی مزید من التوضیح فی ذلک هذه الخطبة.

ص:296


1- 1) سورة آل عمران / 160. [1]

القسم الثالث: رسالة خاتم الأنبیاء صلی الله علیه و آله

منهَا: «أَرْسَلَهُ عَلَی حِینِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَتَنَازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ، فَقَفَّی بِهِ الرُّسُلَ، وَخَتَمَ بِهِ الْوَحْیَ، فَجَاهَدَ فِی اللّهِ الْمُدْبِرِینَ عَنْهُ، وَالْعَادِلِینَ بِهِ» .

الشرح والتفسیر

تحدّث الإمام علیه السلام فی المقطع الأول والثانی عن صفات اللّه سبحانه والقرآن الکریم، ثم أشار هنا بعبارات قصیرة عمیقة المعنی إلی النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی أنّ اللّه تعالی أرسله بالإسلام بعد مدّة وفترة من الرسل السابقین حین کان النزاع قائماً علی قدم وساق بین الأفراد فی دفاع کل عن معتقده فقال: «أَرْسَلَهُ عَلَی حِینِ فَتْرَةٍ (1)مِنَ الرُّسُلِ، وَتَنَازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ» .

فالعبارة: «تَنَازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ» ، إشارة إلی أنّ الحوادث التی تدور بین أتباع المذهب المختلفة بما فیهم عبدة الأوثان وأهل الکتاب ومن لیس له دین وعقیدة، لم تکن حوارات منطقیة ذات محتوی فکری وعقلی، بل کان کل یسطّر بعض الألفاظ بدافع التعصب لإثبات أحقیقته، بل کان هذا النزاع والاختلاف اللفظی أحیاناً مصدر معارک طاحنة وسفک دماء غزیرة.

ثم قال علیه السلام: «فَقَفَّی (2)بِهِ الرُّسُلَ، وَخَتَمَ بِهِ الْوَحْیَ» ، فقد أشار الإمام إلی نقطتین: الأولی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله واصل مسیرة الأنبیاء الماضین، وذلک لأنّ مسرتهم بصورة کلیة واحدة، والثانیة أنّه بلغ بتعالیمهم الکمال وختم بهم النبوّة، ثم إختتم کلامه علیه السلام بالقول: «فَجَاهَدَ فِی اللّهِ الْمُدْبِرِینَ عَنْهُ، وَالْعَادِلِینَ (3)بِهِ» .

ص:297


1- 1) «فترة» : وفتور تعنی فی الأصل الهدوء والاستقرار وتأتی أحیاناً بمعنی الضعف والفتور، وتطلق علی الفاصلة بین حرکتین أو حادثتین أو انقلابین، ومن هنا عبروا بالفترة عن الفاصلة بین ظهور الانبیاء.
2- 2) «قفی» : من مادة «قفا» بمعنی ظهر، کما ورد بمعنی خلف الشیء فی المجییء.
3- 3) «العادلین» : جمع «عادل» من مادة عدل علی وزن فکر بمعنی المعادل والشبیه والمثیل وإن وردت من مادة عدل علی وزن نظم عنت العدالة، ومن مادة العدول بمعنی الانحراف والرجوع عن الشیء، وعلیه فالعادل علی ثلاثة معانی، وأرید بها المعنی الأول فی الخطبة (لابدّ من الالتفات إلی أنّ المعنی الأول یتعدی عادة بالباء والمعنی الثالث بواسطة عن) .

فالواقع هو أنّ الکفّار فریقان: فریق نسی اللّه تعالی بالمرّة ولا یعتقد بالحق، وفریق آخر مشرک جعل للّه سبحانه شریکاً، وقد جاهد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله کلا الفریقین، جهاد ثقافی وإعلامی وخاضه لمدّة ثلاث عشرة سنة وقد أسلم العدید منهم، وعندما شاهد الفریق المعاند الذی حال دون إقبال الناس علی الدین اللّه خاض الجهاد المسلح لیقضی علی تلک الموانع دون أن یجبر أحداً علی قبول دینه ذلک لأنّه: «لَاإِکْرَاهَ فِی الدِّینِ. . .» (1)، وزبدة الکلام فقد أوجز الإمام علیه السلام جمیع أنشطة نبی الإسلام صلی الله علیه و آله فی الجهاد، وهو الجهاد ذو المفهوم الواسع والذی یشمل کل سعی وجهد من أجل نشر دین الحق، والعبارة جاهد فی للّه إشارة لطیفة فی أنّه لم یکن أسیراً للمال أو المقام والجاه والجلال، بل جاهد من أجل اللّه سبحانه وسعی لنجاة العباد.

ص:298


1- 1) سورة البقرة / 256. [1]

القسم الرابع: الدنیا غایة بصر الأعمی

اشارة

منهَا: «وَإِنَّمَا الدُّنْیَا مُنْتَهَی بَصَرِ الْأَعْمَی، لَایُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَیْئاً، وَالْبَصِیرُ یَنْفُذُهَا بَصَرُهُ، وَیَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا. فَالْبَصِیرُ مِنْهَا شَاخِصٌ، وَالْأَعْمَی إِلَیْهَا شَاخِصٌ. وَالْبَصِیرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ، وَالْأَعْمَی لَهَا مُتَزَوِّدٌ» .

الشرح والتفسیر

أورد الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة کما ذکر ذلک الشارح البحرانی عدّة نقاط لطیفة ورائعة رغم اقتضابها، وقد لفت الأنظار إلی الأصول التی تعد معالم حیاة الأفراد فقال: «وَإِنَّمَا الدُّنْیَا مُنْتَهَی بَصَرِ الْأَعْمَی» . ثم أکمل ذلک بقوله: «لَا یُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَیْئاً، وَالْبَصِیرُ یَنْفُذُهَا بَصَرُهُ، وَیَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا» .

نعم، فعبّاد الدنیا وبسبب حبّهم وشغفهم بزخارف الدنیا وزبرجها کالمحبوس فی سجن لا یری سوی ما فی داخل السجن، فأمّا نظرهم ضعیف، أو هناک حجب تحیط بأطرافهم، أو کلاهما، وأمّا دعاة الحق فنظرهم ثابت ولا حجاب لهم، ومن هنا فهم یرون ببصیرتهم الثاقبة الدار الآخرة منزلهم الأبدی الخالد بکل وضوح فلیس لهم من هم سواها والحق إننا عرفنا الدنیا کما هی تبع ذلک الإیمان بالآخرة، وذلک لتعذر فهم الدنیا دون الآخرة، فهل خلق الخالق الحکیم کل ما فی هذا العالم الواسع لیعیش الإنسان هذه المدّة المعینة فیأکل ویشرب وینام ویصحو بالتالی یموت ویواری جثمانه الثری ویدع النسیان؟ والحال بدایة عمره کنهایته ممزوجة بالضعف والعجز، ووسطه الذی یمکن الاستفادة منه مشوب بأنواعه المشاکل المصائب والآلام والمعاناة؟ هل هناک حکیم یقوم بمثل هذا العمل الطائش؟ ولذلک صرّح

ص:299

القرآن الکریم: «یَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ» (1).

وقال فی النقطة الثانیة التی تمثل فی الواقع نتیجة بالنسبة للنقطة الأول: «فَالْبَصِیرُ مِنْهَا شَاخِصٌ، وَالْأَعْمَی إِلَیْهَا شَاخِصٌ» .

وبناءاً علی هذا فقد استعمل الشاخص بمعنیین وما یصطلح علیه بالجنس التام، المعنی الأول من مادة شخوص بمعنی الرحیل والمفارقة، والمعنی الثانی التطلع وتصویب العین نحو موضع والتخلف عن الحرکة، وکأن العین ترید مغادرة الحدقة، وللعبارة تفسیر آخر اقتصر علی ذکره شرّاح نهج البلاغة وهو أنّ الشاخص هنا یعنی الراحل غایة ما فی الأمر تطلق حین یقال «منها شاخص» ، کما یقال «إلیها شاخص» وهذا هو الفارق بین من کانت له بصیرة والأعمی، وقال فی النقطة الثالثة والأخیرة: «وَالْبَصِیرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ، وَالْأَعْمَی لَهَا مُتَزَوِّدٌ» .

فهل البصیرة یتزودون من الدنیا للآخرة کما صرّح بذلک القرآن الکریم: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوَی» (2)، بینما یتزود عمی القلوب من أجل العیش فی الدنیا، فهناک اختلاف تام بین المسیرین بتعین فقط بکلمة «منها» و «لها» .

التعامل مع الدنیا

هناک علی الدوام نظرتان یمتلکها الإنسان تجاه الدنیا، فأتباع الأدیان السماویة یرون الدنیا بصفتها منزلاً لابدّ من التزود فیها إلی الآخرة، یبلغون مرادهم بواسطة هذا الزاد والمتاع ولیس لهم من مراد سوی السعادة الأبدیة والفوز برضوان اللّه سبحانه وتعالی، أمّا أتباع المدرسة المادیة (والمدارس التی تتفق معها) فهم ینظرون إلی الدنیا علی أنّها الهدف النهائی والغایة فیوظفون کافة طاقاتهم ویجندون قواهم من أجل الظفر بها، وأحیاناً یتفق أصحاب النظرة الأولی فی العمل مع أتباع النظرة الثانیة، یعنی رغم اعتقادهم بأنّ الدنیا وسیلة لنیل الآخرة، إلّا أنّ عملهم یشیر إلی نسیان ذلک الاعتقاد وتعاملهم مع الدنیا کهدف نهائی ومن هنا وردت

ص:300


1- 1) سورة الروم / 7. [1]
2- 2) سورة البقرة / 197. [2]

تحذیرات أئمّة الدین التی تهدف ایقاظهم من الغفلة، فیقولون أحیاناً: «تَجَهَّزُوا، رحِمَکُمُ اللّهُ، فَقَدْ نُودِیَ فِیکُمْ بِالرَّحِیلِ» (1).

وأخری یقولون: «النَّاسُ عَبِیدُ الدُّنیا وَالدِّینُ لَعرقٌ عَلی ألسِنَتِهِم» (2)، کما یقولون: «الدنیا: تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ» (3).

وأخیراً یقولون: إنّما الدنیا منتهی بصر الأعمی، ولا یبصر ما وراءها شیئاً والبصیر ینفذها بصره، ویعلم أنّ الدار وراءها» .

وأعظم مانع من الا فراد، وأهم وظائف أئمّة الدین إیقاظ هؤلاء الأفراد ولفت إنتباهم إلی أنّ الدنیا ممر لا مقر.

ص:301


1- 1) نهج البلاغعة، الخطبة 204.
2- 2) بحار الانوار 44/383. [1]
3- 3) نهج البلاغة، قصار الکلمات 415. [2]

ص:302

القسم الخامس: أهمیة القرآن و دور عبادة الدنیا فی الصراعات

منهَا: «وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَیْسَ مِنْ شَیْءٍ إِلاَّ وَیَکَادُ صَاحِبُهُ یَشْبَعُ مِنْهُ وَیَمَلُّهُ إِلاَّ الْحَیَاةَ فَإِنَّهُ لَایَجِدُ فِی الْمَوْتِ رَاحَةً. وَإِنَّمَا ذلِکَ بِمَنْزِلَةِ الْحِکْمَةِ الَّتِی هِیَ حَیَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَیِّتِ، وَبَصَرٌ لِلْعَیْنِ الْعَمْیَاءِ، وَسَمْعٌ لِلْأُذُنِ الصَّمَّاءِ، وَرِیٌّ لِلظَّمْآنِ، وَفِیهَا الغِنَی کُلُّهُ وَالسَّلامَةُ. کِتَابُ اللّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ، وَتَنْطِقُونَ بِهِ، وَتَسْمَعُونَ بِهِ، وَیَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَیَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَی بَعْضٍ، وَلَا یَخْتَلِفُ فِی اللّهِ، وَلَا یُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللّهِ. قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَی الْغِلِّ فِیَما بَیْنَکُمْ، وَنَبَتَ الْمَرْعَی عَلَی دِمَنِکُمْ. وَتَصَافَیْتُمْ عَلَی حُبِّ الْآمَالِ، وَتَعَادَیْتُمْ فِی کَسْبِ الْأَمْوَالِ. لَقَدِ اسْتَهَامَ بِکُمُ الْخَبِیثُ، وَتَاهَ بِکُمُ الْغُرُورُ، وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَی نَفْسِی وَأَنْفُسِکُمْ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع إلی مسائل مهمّة وقضایا مختلفة لا یبدو أنّها مرتبطة مع بضعها، ومن هنا یعتقد بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ هذه العبارات قطوف اختارها المرحوم السید الرضی من خطبة طویلة مرتبطة، وذلک لأنّه رآها أعظم فصاحة وبلاغة، وإلی هذا یعود سبب عدم رؤیتنا لإرتباط واضح بینها، ومع ذلک فهناک حکمة بالغة تختزنها هذه العبارات، فقد ساق فی البدایة تثبیتها من أجل لفت الأنظار إلی أهمیّة العلم الذی یمثل حیاة قلب الإنسان فقال: «وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَیْسَ مِنْ شَیْءٍ إِلاَّ وَیَکَادُ صَاحِبُهُ یَشْبَعُ مِنْهُ وَیَمَلُّهُ إِلاَّ الْحَیَاةَ فَإِنَّهُ لَایَجِدُ فِی الْمَوْتِ رَاحَةً» .

وقد صرّح أغلب شرّاح نهج البلاغة هنا سؤالاً وهو: لا ینسجم هذا التعبیر مع ما ورد فی

ص:303

بعض الآیات والروایات التی تصور راحة أولیاء اللّه سبحانه فی الموت، ومن ذلک ما ورد فی سورة الجمعة: «قُلْ یَا أَیُّهَا الَّذِینَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّکُمْ أَوْلِیَاءُ للّهِ ِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ کُنتُمْ صَادِقِینَ» (1). وما ورد فی سورة الواقعة: «فَأَمَّا إِنْ کَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِینَ * فَرَوْحٌ وَرَیْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِیمٍ» (2).

فمن الطبیعی ألا یکره الموت من یری نفسه علی أعتاب الروح والریحان والجنّة الملیئة بالنعم، وقد ورد فی الحدیث النبوی الشریف: «لَیسَ لِلمُؤمِنِ راحَةٌ دُونَ لِقاءِ اللّهِ» (3)، کما ورد هذا المعنی بعبارة أخری عن الإمام الصادق أنّه قال: «لا راحَةَ لِلمُؤمِنِ عَلَی الحَقِیقَةِ إلّاعِندَ لِقاءر اللّهِ» (4).

وجاء فی الدعاءالمعروف للإمام علی بن الحسین علیهما السلام فی یوم الثلاثاء: «وَاجعّل الحَیاةَ زِیادَِةً لِی فِی کُلِّ خَیرٍ وَالوَفاةَ راحَةً لِی مِنْ کُلِّ شَرٍ» . وقد ذکرت عدّة أجوبة علی هذا السؤال أوضحها جمیعاً أنّ هذه العبارة إشارة إلی الناس الذین یهربون عادة من الموت، بینما لیس لأمر کذالک بالنسبة لخواص اللّه سبحانه، کما یحتمل أن یکون المراد کراهة حتی أولیاء اللّه تعالی للموت بفضله نهایة التزود ومواصلة مسیرتهم التکاملیة، علی کل حال فقد أراد الإمام علی علیه السلام هذه المقدمة علی أنّها نتیجة وتشیبه للعلم والمعرفة التی یرتوی منها الإنسان مطلقاً فقال: «وَإِنَّمَا ذلِکَ بِمَنْزِلَةِ الْحِکْمَةِ الَّتِی هِیَ حَیَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَیِّتِ، وَبَصَرٌ لِلْعَیْنِ الْعَمْیَاءِ، وَسَمْعٌ لِلْأُذُنِ الصَّمَّاءِ، وَرِیٌّ (5)لِلظَّمْآنِ (6)، وَفِیهَا الغِنَی کُلُّهُ وَالسَّلامَةُ» .

فالواقع أراد الإمام علیه السلام أن هناک نوعین من الحیاة حیاة مادیة وجسمانیة والتی لا یشبع منها الناس غالباً، والحیاة المعنویة والروحانیة والأفضل منها العلم والمعرفة التی لا یرتوی منها العقلاء والعلماء قط، وبناءاً علی هذا فانّ المشار إلیه «ذلک» بالضبط هو ذلک الشیء الذی ورد

ص:304


1- 1) سورة الجمعة / 6. [1]
2- 2) سورة الواقعة / 88 - 89. [2]
3- 3) شرح نهج البلاغة، لابن میثم 3/157. [3]
4- 4) بحار الانوار 69/69. [4]
5- 5) «ریّ» : له معنی مصدری هو الارتواء.
6- 6) «الضمآن» : من مادة «ظمأ» علی وزن طمع بمعنی العطش.

قبل ذلک وهو الحیاة المادیة التی لا یشبع منها الناس، والغریب هنا کما أورده شرّاح نهج البلاغة حیث ذکر کل واحد منهم احتمالاً للعبارة المذکورة، الحال تفسیرها واضح وهو یشبه ما ورد فی إحدی قصار الکلمات لأمیرالمؤمنین علی علیه السلام إذ قال: «مَنْهُومَانِ لاَ یَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْیَا» (1).

علی کل حال فالمراد بالحکمة فی العبارة المذکورة هو العلم والمعرفة التی تقرب الإنسان من اللّه وتنظم أموره المادیة والمعنویة وتحول دون أعماله العبثیة، وبعبارة قصیرة کما وردت فی القرآن الکریم فانّ الخیر الکثیر یعود إلی صاحبه: «وَمَنْ یُؤْتَ الْحِکْمَةَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً کَثِیراً. . .» (2).

وقد یبیّن الإمام علیه السلام فی عبارته المذکورة العمیقة المعنی الأوصاف الخمسة للحکمة وکشف عن منزلتها فی حیاة الإنسان المادیة والمعنویة، فقال أولاً إنّ الحکمة حیاة القلب المیت، یعنی أنّ الأرواح والأفکار التی تصبح بفعل الجهل کالأموات خالیة من أیة حرکة إیجابیة، إنّما تعود إلی الحیاة فی ظلّ العلم والحکمة فتحیا وتمارس الحرکة.

وثانیاً وثالثاً أنّ الحکمة تبصر الأعمی وتسمع الأصم وتوضح الحقائق لمن غطت الحجب بصره وأثقل الوقر أذنه، بحیث یری الحق فی کافة أنحاء الخلق ویسمع نداء تسبیح الکائنات ویدرک رسالته أولیاء اللّه سبحانه، وقال فی الوصف الرابع والخامس أنّ عطشی الحق لا یرتوون من منابع الحکمة ویجدون فیها أسباب عافیتهم وسلامتهم، وعلیه فلن یبقی من الخیر والبرکة والسعادة شیئاً إلّاوقد اختزنته الحکمة.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بالحدیث عن القرآن الکریم والذی یراه بعض شرّاح نهج البلاغة أنّه جمل استئنافیة قطع إرتباطها بالعبارات السابقة بسبب ما اعتمده السید الرضی فی الانتخاب (3)، ولکن کما أورد المرحوم البحرانی فانّه لا یمکن القول أنّ لیس هناک إرتباط بین هذه العبارات وسابقاتها حیث بیّنت أحد منافع الحکمة المهمّة وهی القرآن الکریم، أو بعبارة

ص:305


1- 1) نهج البلاغة، قصار الکلمات 466. [1]
2- 2) سورة البقرة / 269. [2]
3- 3) هذا الاحتمال مختار ابن أبی الحدید والمرحوم الشارح الخوئی ومحمد عبده.

أخری قد رکّزت علی المصداق التام للحکمة، والجدیر بالذکر أنّ الأوصاف التی بیّنتها للقرآن تشبه الأوصاف التی بیّنتها العبارات المذکورة للحکمة، علی کل حال فقد قال کتاب اللّه الذی تبصرون به الحقائق وتتحدثون به، وتسمعون به ینطق بعضه البعض الآخر (وتفسر فیه المتشابهات علی ضوء المحکمات) ویشهد بضعه علی البعض الآخر (ویؤید بعضه الآخر) ولا یختلف ما یقوله فی اللّه، ومن یصحبه لا یخلاف اللّه: «کِتَابُ اللّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ، وَتَنْطِقُونَ بِهِ، وَتَسْمَعُونَ بِهِ، وَیَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَیَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَی بَعْضٍ، وَلَا یَخْتَلِفُ فِی اللّهِ» .

والأوصاف السبعة التی بیّنها الإمام علیه السلام بشأن القرآن تشبه من جهات الأوصاف الخمسة التی بیّنها بصورة کلیة بخصوص الحکمة.

والجدیر بالذکر أنّ الحکمة اقترنت بالکتاب فی غلب الآیات القرآنیة (1)والذی یدلّ علی العلاقة الوثیقة بینهما وأنّ رسل اللّه سبحانه کانوا یمضون قدماً فی ظلّهما (الکتاب والحکمة) .

من جانب آخر فانّ الأوصاف التی تضمنتها العبارة بشأن القرآن الکریم فی أنّه أساس البصر والسمع والنطق، وقد وردت الإشارة إلیها فی بعض الآیات القرآنیة ومن ذلک الآیة: «قَدْ جَاءَکُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّکُمْ. . .» (2).

وممّا لا شک فیه أنّ الآیات الإلهیّة ودلائل الحق قد وردت بکثرة فی القرآن الکریم بحیث یسع الإنسان بواسطتها رؤیة جمال الحق ویسمع نداء اللّه تبارک وتعالی، وهناک فارق واضح بین العبارة: «یَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ» والعبارة: «یَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَی بَعْضٍ» ، لأنّ الحدیث فی العبارة الأولی عن آیات القرآن التی یفسر بعضها البعض، وتتضح المتشابهات فی ظل المحکمات، وأمّا العبارة الثانیة فتتحدث عن إنسجام آیات القرآن وکلّ منها یعاضد الأخری وتشهد علی صدقها، وبالعبارة: «وَلَا یَخْتَلِفُ فِی اللّهِ» ، إشارة إلی عدم اختلاف القرآن الکریم فی بیان صفات الجمال والجلال والتی تعدّ من أهم مباحث القرآن الکریم، ویتحدث بجمیع أیاته عن تلک الذات المقدّسة الجامعة لکافة الکمالات اللامتناهیة، والعبارة: «وَلَا یُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللّهِ» . إشارة إلی أنّ أی من آیات القرآن لا تبعد الإنسان عن مسار الحق، بل

ص:306


1- 1) سورة البقرة / 129، 151؛ [1] وآل عمران / 48، 81 و. . . [2]
2- 2) سورة الانعام / 104. [3]

تأخذ بیده إلیه، فمن تمسک بالقرآن لن یضل أبداً، ومن رجاه لا یخیب، فالقرآن یعرّف نفسه: «أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ کَانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلَافاً کَثِیراً» (1).

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه کطبیب حاذق وحکیم ماهر فخاض فی بیان معاناة مخاطبیه المعنویة وقد ذکرهم بنقطة مهمّة، کیف ولم عجزتم عن مواصلة سبیل الحق وعندکم هذا القرآن - وعلیه لا یبدو صواباً ما أورده شرّاح نهج البلاغة من عدم إرتباط العبارات اللاحقة بالعبارات السابقة، فقال بادیء الأمر کأنّی بکم قد إتفقتم علی الخیانة والحسد والحقد: «قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَی الْغِلِّ (2)فِیَما بَیْنَکُمْ» . ثم قال: «وَنَبَتَ الْمَرْعَی عَلَی دِمَنِکُمْ (3)» ، إشارة إلی أن أعمالکم الخاطئة إنّما تفرزها أفکارکم الملوثة، وأضاف فی بیانه لنقطة ضعفهم الرابعة والخامسة فقال: «وَتَصَافَیْتُمْ عَلَی حُبِّ الْآمَالِ، وَتَعَادَیْتُمْ فِی کَسْبِ الْأَمْوَالِ» ، فنقطة اشتراککم تکمن فی تعلقکم بالآمال والأمانی الفارغة، ونقطة اختلافکم فی کسب المال، حیث یرید کل منک أن یختطف المال الذی فی ید غیره.

والواقع یمکن خلاصة نقاط ضعفهم فی أربع کلمات هی الحقد والحسد والریاء وطول الأمل والنزاع من أجل کسب المال، والحق أنّ المجتمع لن یری الأمن والاسقرار إن سادته هذه الرذائل، ولا یسوده سوی النزاع والقتال وأنواع التوتر، کما لا یعیش سوی الضعف والوهن تجاه العدو الخارجی، وإن طالعتنا بعض مظاهر الجمال فی هذا المجتمع فهی بمثابة الزهور الجمیلة التی تنبت فی المزابل وجذورها عفنة، وکأنّ الإمام علیه السلام أراد أن یفهمهم هذه القضیة وهی أنّ المبادیء التی سادت المجتمع الجاهلی قبل الإسلام والتی وردت الإشارة إلیها فی صدر هذه الخطبة قد إنتعشت الیوم مرّة أخری فی وسطکم، ثم أشار الإمام علیه السلام فی آخر الخطبة إلی أحد الأرکان المهمة لانحرافهم والذی یتمثل بوساوس الشیاطین والتی جعلتهم یضلون سبیل

ص:307


1- 1) سورة النساء / 82. [1]
2- 2) «غل» : من مادة «غلول» أو غلل علی وزن أفول وأجل تعنی فی الأصل النفوذ التدریجی والخفی للماء فی جذور الأشجار، ثم اطلق الغل الذی له معنی (الاسم المصدری) علی الخیانة لأنّها تحصل بصورة تدریجیة وخفیة.
3- 3) «دمن» : جمع «دمنة» علی وزن فتنة بمعنی السرقین، کما یطلق علی الحقد القدیم.

السعادة والنجاة: «لَقَدِ اسْتَهَامَ بِکُمُ الْخَبِیثُ، وَتَاهَ (1)بِکُمُ الْغُرُورُ (2)، وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَی نَفْسِی وَأَنْفُسِکُمْ» . قال سبحانه وتعالی فی کتابه العزیز: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللّهِ عَلَیْکُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَکَا مِنْکُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً. . .» (3)، کما قال: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللّهِ عَلَیْکُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّیْطَانَ إِلَّا قَلِیلاً» (4)، استهام من مادة هیام علی وزن قیام خرج لا یدری أین یذهب، فهو یمشی دون هدف حیران فلا یبلغ الهدف، ولمّا کان العاشق حیران فی حیاته فقد اطلقت هذه المفردة علی العشق الشدید.

علی کل حال فانّ الشیطان یحث الإنسان علی العبث والعشوائیة ولا یقود ذلک سوی للحیرة والاضطراب، وهذا بدوره یلقی بالإنسان فی وادی الهلکة، وبالنتیجة فانّ صفاتهم الباطنیة القبیحة من جانب، والانقیاد لوساوس الشیاطین من جانب آخر قد مهدت السبیل لبؤسهم وشقائهم وسلبتهم بصیرتهم وسمعهم ونطقهم وفهم الصحیح، وهکذا یستعرض هذا الطبیب الربانی بهذه الخطبة الغرّاء جذور الأمراض وطرق مکافحتها وعلاجها.

أشار الإمام فی هذا المقطع الأخیر من الخطبة إلی عدّة أمور مهمّة منها:

1 - أنّ القرآن الکریم مصدر البصر السمع والنطق، مع ذلک هناک من لم یستثمر ذلک، لأنّهم محجوبون وحجابهم فسادهم والباطنی وتلوثهم وطول أملهم وغرقهم فی حبّ الدنیا، ونعلم أنّ هذه الأمور أهم حجب المعرفة، نعم فالکتب السماویة مهما ملئت الحکمة، ومهما تحلی الأئمّة بالعلم والبلاغة فلا جدوی من ذلک ما لم تکن هناک قابلیة فی القابل، فالشمس ترسل أشعتها

ص:308


1- 1) «تاه» : من مادة «تیه» بمعنی الحیرة ومن مادة «توه» علی وزن لوح بمعنی الهلکة، ویبدو المعنی الثانی فی العبارة هو الأنسب.
2- 2) «غرور» : إن قرأ بالضم فهو الخداع والمکر، وإن قرأ بالفتح أفاد الوصف وعنی الشخص الخادع وقد أطلقه القرآن علی الشیطان، وقد ورد بالصیغة الأولی فی النسخة المعروفة لصبحی الصالح، بینما ورد بالصیغة الثانیة فی أغلب النسخ، وتبدو الصیغة الثانیة أنسب علی ضوء تناسق العبارات.
3- 3) سورة النور / 21. [1]
4- 4) سورة النساء / 83 [2]

علی الدوام ولکن ما جدوی هذا الشعاع بالنسبة للأعمی، وکذلک هی الأمطار فی لطافة طبعها لکنه لا ینبت الأزهار فی کل مکان.

2 - إنّ حبّ المال والثراء أساس الحروب والمعارک النزاعات ولا یقتصر هذا الأمر علی الزمان والماضی، بل تلمسه بوضوح فی کل مکان فی الوقت الحاضر، فالدول الغاشمة تصرّح دون خشیة إننا دخلنا تلک الحرب من أجل حفظ مصالحنا، أو لدینا بعض المصالح فی البلد الفلانی (طبعاً مصالح غیر مشروعة) وعلیه فلابدّ أن یکون لنا تواجد عسکری فیه لنرعی تلک المصالح، والمؤسف أن وجه الدنیا أخذ یتکدر یوماً بعد آخر والحیاة أصبحت فیها عدیمة الأمن، ولیس ذلک سوی ما أورده الإمام علیه السلام إذا قال: «وَتَعَادَیْتُمْ فِی کَسْبِ الْأَمْوَالِ» .

ص:309

ص:310

الخطبة المأة والرابعة والثلاثون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

وقد شاوره عمرُ بن الخطاب فی الخروج إلی غزو الروم

نظرة إلی الخطبة

قال بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ الإمام علیه السلام خطب بهذا الکلام حین اتّجه قیصر بجیشه نحو ثغور الإسلام عندما عزل خالد بن الولید عن إمرة جیش المسلمین وقد تولی الإمرة أبو عبیدة الجراح وشرحبیل وقد ضاق علیهما الأمر، لذلک عزم عمر أن یحضر بنفسه وأستشار أمیر المؤمنین علی علیه السلام (2)، ویفهم من کلام ابن أبی الحدید أنّ عمر خالف ما أشار علیه علی علیه السلام، فلمّا علم الروم مقدم عمر بنفسه خافوا وسألوا الصلح علی أن یؤدّوا الجزیة إلی المسلمین، ثم روی قصة أشبه بالخرافة (3).

قال المرحوم العلّامة التستری أولاً: ما وراه ابن أبی الحدید عن سیف وروایات سیف لا تخلو من الوضع والتحریف.

ثانیاً: لا دلیل لدنیا أنّ هذا الکلام قاله علی علیه السلام حین استشارة عمر فی الخروج بنفسه

ص:311


1- 1) سند الخطبة: نقل هذا الکلام عن الإمام علیه السلام باختلاف طفیف ابن الأثیر فی النهایة فی مادة کنف وأبو عبید فی کتاب الأموال (مصادر نهج البلاغة 2/302) [1]
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن میثم البحرانی 3/162.
3- 3) شرح نهج البلاغة، لابن أبی الحدید 8/298. [2]

لقتال الروم، بل ظاهر بعض کلمات الشیخ المفید رحمه الله أنّ الکلام فی معرکة القادسیة أو نهاوند (1).

والجدیر بالذکر هنا أنّ عمر کان یقبل عادة ما یشیر علیه علی علیه السلام وکان یری نجاته فی ذلک القبول، وهذا بدوره یؤید ما أورده المرحوم العلّامة التستری.

علی کل حال تتألف هذه الخطبة من قسمین: الأول وعد اللّه سبحانه لهذه الاُمة بالنصر والغلبة والامل بهذا الوعد، والثانی الذی قال فیه علی علیه السلام لعمر: لا تشخص بنفسک فانّک متی تسر إلی هذا العدو بنفسک، فتلقهم فتنکب لا یکن للمسلمین کهف دون أقصی بلادهم، لیس بعدک مرجع یرجعون إلیه.

ص:312


1- 1) شرح نهج البلاغة، للتستری 7/421 - 423، بتصرف.

«وَقَدْ تَوَکَّلَ اللّهُ لِأَهْلِ هذَا الدِّینِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ. وَالَّذِی نَصَرَهُمْ، وَهُمْ قَلِیلٌ لَایَنْتَصِرُونَ، وَمَنَعَهُمْ وَهُمْ قَلِیلٌ لاَ یَمْتَنِعُونَ، حَیٌّ لاَ یَمُوتُ.

إِنَّکَ مَتَی تَسِرْ إِلَی هذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِکَ، فَتَلْقَهُمْ فَتُنْکَبْ، لَاتَکُنْ لِلْمُسْلِمِینَ کَانِفَةٌ دُونَ أَقْصَی بِلَادِهِمْ. لَیْسَ بَعْدَکَ مَرْجِعٌ یَرْجِعُونَ إِلَیْهِ. فَابْعَثْ إِلَیْهِمْ رَجُلاً مِحْرَباً، و احْفِزْ مَعَهُ أَهْلَ الْبَلاءِ وَالنَّصِیحَةِ، فَإِنْ أَظْهَرَ اللّهُ فَذَاکَ مَا تُحِبُّ، وَإِنْ تَکُنِ الْأُخْرَی، کُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ وَمَثَابَةً لِلْمُسْلِمِینَ» .

الشرح والتفسیر

الحضور الخطیر

استهل الإمام علیه السلام کلامه للخلیفة بهدف تقویة معنویاته حذراً من خوف لقاءالعدو الغاشم کالروم بقوله: وَقَدْ تَوَکَّلَ اللّهُ لِأَهْلِ هذَا الدِّینِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ (1)، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ» ، والعبارة توکل تشیر إلی أنّ اللّه سبحانه تکفل بحمایتهم والدفاع عنهم، وهو الأمر الذی أشار إلیه القرآن الکریم: «هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَی وَدِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ» (2).

وهذا الوعد الإلهی - طبق کلام الإمام علیه السلام - لم یکن مقتصراً علی زمان النبی صلی الله علیه و آله، بل یجری فی کل عصر ومصر، والعبارة: «وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ» ، بالنظر إلی أنّ العورة تعنی فی الأصل النقاط الحدودیة الهشة وما یخشاه الإنسان ویخافه، فهی تشیر إلی أنّ الحق تبارک وتعالی وإضافة إلی

ص:313


1- 1) «حوزة» : من مادة «حوز» علی وزن موز تعنی الجمع والاتصال والإمتلاک وعادة ما تطلق الحوزة علی کل مجموعة.
2- 2) سورة التوبة / 33. [1]

تعهده بعزّة المسلمین ورفعتهم فانّه یمنع العدو من الالتفات إلی نقاط ضعفهم أسرارهم حتی لا یتمکن من تسدید ضرباته للمسلمین.

ثم شدّ من العزائم أکثر فأتی بشاهد حی فقال علیه السلام: «وَالَّذِی نَصَرَهُمْ، وَهُمْ قَلِیلٌ لَا یَنْتَصِرُونَ، وَمَنَعَهُمْ وَهُمْ قَلِیلٌ لاَ یَمْتَنِعُونَ، حَیٌّ لاَ یَمُوتُ (1)» .

فقد نصر اللّه تعالی اُولئک المسلمین الذین کانوا یبدون فی الظاهر ضعفاء ومن حیث العدّة قلائل، والیوم وقد اتسعت حوزة الإسلام والحمد للّه وقد إنضوت عدّة أفواج تحت رایته، فهم مشمولون قطعاً بنصرة الحق والغلبة لهم والهزیمة لأعدائهم، فناصرهم هو اللّه تعالی الحی القیوم الذی لا یموت، طبعاً إنّ أی موجود تثق به وتعتمد علیه فانّ مرور الزمان یصیبه بالضعف والهن والفتور وبالتالی الزوال والفناء، والذات الإلهیّة المقدّسة الوحیدة التی لا تعرف للضعف الفتور من معنی والتی لا ینبغی الاعتماد سوی علیها.

ثم ورد الإمام علیه السلام ذی مقدمة بعد هذه المقدمة فیخلص إلی نتیجة لیؤکد علی عمر عدم حضور میدان القتال بنفسه بعد أن ذکر دلیلاً واضحاً لذلک والذی یقبل بصورة تامة فی الموارد المشابهة فقال: «إِنَّکَ مَتَی تَسِرْ إِلَی هذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِکَ، فَتَلْقَهُمْ فَتُنْکَبْ (2)، لَاتَکُنْ لِلْمُسْلِمِینَ کَانِفَةٌ (3)دُونَ أَقْصَی بِلَادِهِمْ، لَیْسَ بَعْدَکَ مَرْجِعٌ یَرْجِعُونَ إِلَیْهِ» .

إشارة إلی هذا الأمر إن حضرت میدان القتال بنفسک وقتلت فانّ أرادت الاُمة مبایعة شخص آخر فانّ المجتمع الإسلامی سیفقد مرکزیته وتنها المناطق النائیة التی تکون عرضة للخرق أکثر من غیرها وهذا ما سیسری إلی سائر أنحاءالبلاد، ولما کان السلب فی القضایا الاجتماعیة یقترن دائماً بالایجاب بغیة سدالفراغ الاجتماعی، فبعد أن أشار علیه الإمام بعدم الذهاب بنفسه، طرح علیه البدیل ببعث رجل مجرب فی الحرب وطائفة ممن أبلت فی القتال، من أهل النصح والخیر فانّ أتاهم النصر فذلک ما یبغی ویحب، وإن حدث شیء آخر (إشارة

ص:314


1- 1) العبارة «والذی نصرهم. . .» مبتدأ وخبرها «حی لا یموت» .
2- 2) «تنکب» : من مادة «نکب» علی وزن نخل بمعنی الانحراف عن المسیر، وفی هذه العبارة بمعنی الهزیمةوالقتل.
3- 3) «کانفة» : من مادة «کنف» علی وزن ظرف بمعنی الحفظ، وعلیه کانفة تقال للشخص أو الشیء العاصم الذی یحفظ الأفراد.

إلی الهزیمة المسلمین) فسیکون هو ملاذ المسلمین وکهفهم (فیستطیع ومن خلال بعث القوی السیطرة علی الأوضاع وتحیق النصر علی العدو) : «فَابْعَثْ إِلَیْهِمْ رَجُلاً مِحْرَباً (1)، واحْفِزْ (2)مَعَهُ أَهْلَ الْبَلاءِ (3)وَالنَّصِیحَةِ، فَإِنْ أَظْهَرَ اللّهُ فَذَاکَ مَا تُحِبُّ، وَإِنْ تَکُنِ الْأُخْرَی، کُنْتَ رِدْءاً (4)لِلنَّاسِ وَمَثَابَةً (5)لِلْمُسْلِمِینَ» .

فقد بیّن الإمام علیه السلام جوابه للخلیفة حین المشورة بدلیل منطقی وواضح وهو أنّ حضور زعیم جماعة فی میدان القتال أمر خطیر سوی فی الموارد الاستثنائیة، لأنّ من الاحتمالات الواردة قتله فی المعرکة ونتیجة ذلک إنیهار الجیش من جانب وتصدع کیان البلاد من جانب آخر، بینما لو بقی مکانه کان له أن یبعث بجیوش بدل جیش واحد ویحتفظ بقدرته وسیطرته علی جمیع البلاد.

تأمّلات

1 - الردّ علی سؤال

طرح بعض شرّاح نهج البلاغة هذا السؤال أشار علی علیه السلام علی عمر ألا یشخص بنفسه، فما بال رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان یشاهد الحروب بنفسه، ویباشرهم بشخصه، وما بال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام شهد حرب الجمل وصفین والنهروان بنفسه؟

وقد أجاب بعض الشرّاح بالقول أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله کان عالماً عن طریق الوحی بأنّه لا یقتل فی الحرب، کما کان علی علیه السلام عالماً من جهة النبی صلی الله علیه و آله أنّه لا یقتل فی هذه الحروب، ویشهد لذلک الخبر المتفق علیه بین الناس یقاتل بعدی الناکثین، والقاسطین، والمارقین، وعلیه

ص:315


1- 1) «محرب» : من مادة «حرب» بمعنی المقاتل والشجاع.
2- 2) «احفز» : من مادة «حفز» علی وزن نبض الدافع والسوق الشدید.
3- 3) «بلاء» : بمعنی الاختبار وأهل البلاء أهل المهارة فی الحرب.
4- 4) «ردء» : بالکسر من مادة «ردء» علی وزن عبد بمعنی المساعدة وعلیه فردء بمعنی النصیر والعضید والسند.
5- 5) «مثابة» : من مادة «ثوب» علی وزن قوم بمعنی رجوع الشیء إلی حالته الاُولی ومثابة بمعنی المرجع ومن یعاد إلیه.

فلیست هنالک من خطورة فی حضورهما، وقال البعض الآخر، أنّهما کانا یحضران المعارک التی لم تکن تدور بعیداً عن مرکز البلاد، بینما اقتصر حضور النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی المعارک الخارجیة علی تبوک فقط، وبعد أن استخلف علیاً علیه السلام فی المدینة.

وبعبارة أخری یمکن القول: الموارد مختلفة تماماً ولکل میدان من میادین القتال وشرائطه ووضع العدو حکمه الخاص، ولکن غالباً إن کان المیدان بعیداً عن مرکز الحکومة واشترک رئیس الحکومة فیه وقتل أدّی إلی عدّة مشاکل، ومن هنا نهی الإمام علیه السلام الخلیفة عن حضور میدان القتال بنفسه.

2 - شبهة أخری

لعل هناک من یشکل: کیف قدم الإمام علیه السلام هذه النصیحة الودّیة والمشفقة للخلیفة مع أنّه یری الحکومة من حقوقه المسلمة وقد صرّح النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والآیات القرآنیة بهذا المعنی فی أنّ الولایة لعلی علیه السلام؟

الجواب علی هذا السؤال واضح وهو أنّ الإمام علیه السلام إنّما یفکر فی المصیر النهائی للإسلام والمسلمین لا فی شخصه، وهو یعلم أنّ الخلیفة الثانی قد تربع علی مسند الحکومة وتسلم زمام الأمور وقد وقف إلی جانبه عوام الناس وطائفة من الخواص، فانّ تعرض فی ظل هذه الظروف إلی أزمة عظیمة وقتال خطیر ساد الهرج والمرج البلاد وعمتها الفوضی وتعرض کیان الإسلام للخطر، فروح علی علیه السلام العظیمة تقتضی نسیانه لکل شیء وإیثاره لخیر المسلمین علی کل شیء.

3 - الأمانة فی الاستشارة

الکلام المذکور درس لجمیع المسلمین بتقدیم الخیر والصلاح حین المشورة دون الأخذ بنظر الاعتبار قضیة المستشار وکیفیة العلاقة به.

ص:316

بعبارة أخری: إمّا یرفض المشورة وإمّا أنّ یقبلها ویؤدّی حقها، فقد ورد فی الحدیث أنّ الإمام الصادق علیه السلام قال: «اعْلَم أَنَّ ضَارِبَ عَلِیٍّ بِالسَّیفِ وَقَاتِلَهُ لَو إِتَمَنَنی واستَنصَحَنِی وَاستِشارَنِی ثُمَّ قَبِلْتُ ذَلِکَ مِنْهُ لأَدَّیتُ الأَمانَةَ» (1).

4 - إستنتاج خاطیء

أراد بعض المخالفین التشبث بکلام الإمام علیه السلام لیقیموا الدلیل علی أحقیّة الخلیفة الثانی بالخلافة وعلی لسان علی علیه السلام، ولکن من الواضح أنّ هذا الاستنباط خاطیء، لأنّ الوظیفة الشرعیة والعقلیة وحفظاً لمصالح المسلمین تتطلب من کل شخص فی مثل ظروف علی علیه السلام أن یقدم النصح لمن کان یمر بظروف عمر، فینطق لسانه بخیر المسلمین وصلاحهم، وإن جرت الأمور علی خلاف مصالحه الشخصیة، بل إن کانت بضرورة، والعبارة: «لَیْسَ بَعْدَکَ مَرْجِعٌ یَرْجِعُونَ إِلَیْهِ» ، لا تعنی قط أنّک أصلح الاُمة، بل معناها أنّ الناس عرفوک فی ظلّ الظروف الفعلیة - حقّاً أم بغیر حق - بهذه الصفة فان قتلت تطلبت البیعة لآخر زماناً طویلاً وهنا تنهار الاُمة.

ص:317


1- 1) تحف العقول /374.

ص:318

الخطبة المأة والخامسة والثلاثون

اشارة

(1)

ومِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

وقد وقعت مشاجرة بینه وبین عثمان

فقال المغیرة بن الأخنس لعثمان: أنا أکفیکه، فقال علی علیه السلام للمغیرة:

نظرة إلی الخطبة

صرّح ابن أبی الحدید وآخرون أنّ هذا الکلام لم یکن بحضرة عثمان، وإن أفادت عبارات الخطبة أنّ هذه المشاجرة کانت بحضرة عثمان، فقد جاء فی الخبر أنّ عماراً لما سمع بخبر وفاة أبی ذر ترحم علیه بحضور عثمان، فغضب عثمان وقال: انفوه إلی الربذة، فقال عمّار: مجالسة الکلاب والخنازیر أحبّ إلیَّ من مجالستک قال ذلک وخرج، فعزم عثمان علی نفیه، فذهب بنو مخزوم إلی علی علیه السلام وشکوا له ضرب عثمان لعمار وهو عازم الآن علی إبعاده فسألوه أن یکلم عثمان وإلّا وقعت فتنة عظیمة، فذهب الإمام علی علیه السلام إلی عثمان وقال له: نفیت أبی ذر إلی الربذة حتی مات غریباً وهو من صحابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد نقم علیک الناس ذلک، وترید الآن نفی عمار.

فغضب عثمان وقال: لابدّ من نفیک أولاً لکی لا یجرأ عمار، ففسادهم منک، فقال علی علیه السلام: لا تقدر علی ذلک وفساد أمثال عمار بسبب أعمالک، فأنت تعمل خلاف دین اللّه تعالی فنقم

ص:319


1- 1) سند الخطبة: لم ینقل صاحب کتاب مصادر نهج البلاغة من نقل هذه الخطبة سوی أحمد بن أعثم الکوفی فی کتاب الفتوح، لکنّه أورد بعض التوضیحات بشأن وورد الخطبة عن کتاب شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید.

الناس علیک، قال ذلک ثم خرج من عند عثمان، وقد أحاط الناس به وقالوا فلیبعدنا عثمان جمیعاً لنموت بعیداً عن أهلنا، فقال الإمام علیه السلام قولوا لعمار یلازم بیته ولا یخرج.

فقال بنو مخزوم: إن کنت معنا فلیس لعثمان أن یفعل شیئاً، فلما بلغ ذلک عثمان شکی علیاً علیه السلام إلی الناس، فقال له زید بن ثابت وکان من شیعته وخاصته: أفلا أمشی إلیه فأخبره بموجدتک فیما یأتی إلیک، قال: بلی، فأتاه زید معه المغیرة بن الأخنس (1)وعداده بنی زهرة واُمّه عمة عثمان، فحمد زید اللّه وأثنی علیه ثم قال: أمّا بعد فانّ اللّه قدم لک سلفاً صالحاً فی الإسلام، وجعلک من الرسول بالمکان الذی أنت به، فأنت للخیر کل الخیر أهل، وأمیرالمؤمنین عثمان ابن عمک ووالی هذه الاُمة، فله علیک حقان، حق الولایة وحق القرابة، وقد شکا إلینا أنّ علیاً یعرض لی، ویرد أمری علیَّ، وقد مشینا إلیک نصیحة لک، وکراهیة أن یقع بینک وبین ابن عمک أمر نکرهه لکما، فحمد علی علیه السلام اللّه وأثنی علیه وصلی علی رسوله ثم قال: أمّا بعد، فواللّه ما أحبّ الاعتراض ولا الردّ علیه، إلّاأن یأبی حقّاً للّه لا یسعنی أن أقول فیه إلّابالحق، وواللّه لأکفنّ عنه ما وسعنی الکف.

فقال المغیرة بن الأخنس وکان رجلاً وقاحاً، وکان من شیعة عثمان وخلصائه: إنّک واللّه لتکفن عنه أو لتکفن، فانّه أقدر علیک منک علیه.

فقال له علیه السلام: یابن اللعین الأبتر، والشجرة التی لا أصل لها ولا فرع. . . (2).

بناءاً علی هذا فخلاصة الکلام أنّه اعتراض شدید علی المغیرة بن الأخنس الذی نطق بکلام أکبر منه واعتقد أنّ له منزلة أعظم ممّا فی نفسه.

ص:320


1- 1) المغیرة بن الأخنس وأبوه أحد المنافقین وهو غیر المغیرة بن شعبة المعروف بنفاقه وعداوته لأهل البیت علیهم السلام.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 8/301 - 302؛ [1] والفتوح لابن أعثم الکوفی 1/16 طبقاً لنقل شرح نهج بالبلاغة للمرحوم التستری 9/261.

«یَابْنَ اللَّعِینِ الْأَبْتَرِ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِی لَا أَصْلَ لَهَا وَلاَ فَرْعَ، أَنْتَ تَکْفِینِی؟ فَوَاللّهِ مَا أَعَزَّ اللّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ، وَلَا قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ. اُخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللّهُ نَوَاکَ، ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَکَ، فَلَا أَبْقَی اللّهُ عَلَیْکَ إِنْ أَبْقَیْتَ!» .

الشرح والتفسیر

أنت عاجز

کان علی علیه السلام الکهف الحصین للمظلومین والمحرومین علی عهد الخلفاء الثلاث سیّما علی عهد الخلیفة الثالث عثمان الذی جاوزت بطانته الحدّ فی الظلم والجور، فلم ترحم صغیراً ولم توقر کبیراً، فکان علیه السلام من یوصل نداء المظلومیة للخلیفة، فمن الطبیعی أن یسبب له هذا الأمر بعض المشاکل حیث کان یجند الاُمة ضد الخلافة الحاکمة.

فقد عرض الإمام علیه السلام بهذا الردّ علی تهدید المغیرة بن الأخنس بالذم له والاستخفاف به، فأشار بادیء الأمر إلی جذور فساده ونقاط ضعفه لیخلص إلی نتیجة تفید عجزه عن القیام بأی عمل ضد الإمام علیه السلام فقال: «یَابْنَ اللَّعِینِ الْأَبْتَرِ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِی لَا أَصْلَ لَهَا وَلاَ فَرْعَ، أَنْتَ تَکْفِینِی؟» ، والتعبیر عن المغیرة بن الأخنس باللعین کونه من رؤوس النفاق حیث أظهر الإسلام فی فتح مکة وأبطن الکفر، وقد حاول رسول اللّه صلی الله علیه و آله إستمالة قلبه فأعطاه سهماً کبیراً من غنائم حنین، وأخوه أبو الحکم الذی قتله علی علیه السلام یوم اُحد، ومن هنا حقد المغیرة علی علی علیه السلام (1).

وأمّا وصف الإمام لأبیه بالأبتر لا أنّه لم یکن له عقب، بل الأبتر هنا تعنی انقطاعه عن الخیر والسعادة، أو أبتر من حیث النسب حیث کان أولاده ممن لا خیر فیهم فکانوا کالعدم،

ص:321


1- 1) یقال إنّ عداء آل المغیرة استمر ضد علی علیه السلام حتی شهد ولده عبد اللّه المعرکة الجمل فقتل فیها (شرح نهج البلاغة للمرحوم التستری 9/266) .

وأمّا قوله والشجرة التی لا أصل لها ولا فرع فهو کنایة عن وضاعة هذه الاُسرة وبُعدها عن القیم والمثل، فالواقع أنّ قول الإمام علیه السلام إقتباس من الآیة الشریفة: «وَمَثَلُ کَلِمَةٍ خَبِیثَةٍ کَشَجَرَةٍ خَبِیثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ» (1).

ثم قال الإمام علیه السلام: «فَوَاللّهِ مَا أَعَزَّ اللّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ، وَلَا قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ (2)» ، العزّة والقدرة بید اللّه سبحانه ذلک طبقاً للآیة الکریمة: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللّهَ یَنصُرْکُمْ وَیُثَبِّتْ أَقْدَامَکُمْ» (3).

وقوله تعالی: «إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَیَوْمَ یَقُومُ الْأَشْهَادُ» (4)، فالعزّة للّه لا للمنافقین، ثم إختتم الخطبة باستخفافه الشدید بالمغیرة فقال: «اُخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللّهُ نَوَاکَ (5)، ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَکَ، فَلَا أَبْقَی اللّهُ عَلَیْکَ (6)إِنْ أَبْقَیْتَ!» .

إشارة إلی أنّک لأصغر من أن تهدد علیاً علیه السلام، فافعل ما بوسعک لتری إنّک لا تقوی علی شیء، وبائس هو الفرد الذی أنت ناصره.

سلوک الإمام علیه السلام تجاه الفرد العدیم المنطق

لو أنعمنا النظر فی شأن وورد هذا الکلام للإمام علیه السلام وتتبعنا بدقة مساره التاریخی لرأینا کیف اصطدم الإمام علیه السلام بصورة منطقیة بالانحرافات فی عصر الخلفاء ولا سیّما علی عهد عثمان، فلم یتوان فی تقدیم الوعظ والنصح من أجل منع أی توتر واضطراب حیث کان یکتفی بالحدّ الأدنی من التذکیر، أمّا حین کان یصطدم بالمنافقین والجهّال عدیمی المنطق، فقد کان یقف بوجههم بکل شدّة وصلابة حتی لا یقتدح فی أذهانهم التفکیر بالأعمال الطائشة والخطیرة، وصدر وذیل الکلام المذکور خیر شاهد علی السلوکین.

ص:322


1- 1) سورة ابراهیم / 26. [1]
2- 2) «منهض» : من مادة «نهض» القیام من المکان ومنهض من باب إفعال الشخص الذی یساعد غیره لینهض.
3- 3) سورة محمّد / 7. [2]
4- 4) سورة غافر / 51. [3]
5- 5) «نواک» : من مادة «نوا» والکاف ضمیر متصل تعنی فی الأصل غایة المسافر بعیدة کانت أم قریبة.
6- 6) فالعبارة لا أبقی اللّه علیک تطلق حین اللعن لیبعد عن رحمة اللّه، والعبارة إن بقیت تعنی لا رحمک اللّه إن رحمتنی، فهی فی الواقع استخفاف بالمخاطب، فافعل ما شئت إنّک لا تقدر علی شیء.

الخطبة المأة والسادسة والثلاثون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

فی أمر البیعة

نظرة إلی الخطبة

أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی أمور:

الأول: أنّ بیعتی لم تکن صدفة بعیدة عن تفکیر الناس وتخطیطهم، وعلیه فلا یحق لأحد نقضها لأنّها بیعة عامّة.

الثانی: أنّی أریدکم جنوداً لتبلور الأهداف الربانیة، لکنّکم تریدوننی من أجل ضمان منافعکم الدنیویة.

الثالث: أبغی من کل الافراد النصرة لاستنقاذ حق المظلوم من الظالم، ویبیّن الإمام علیه السلام عزمه القاطع بهذا الشأن

ص:323


1- 1) سند الخطبة: قال المرحوم الشیخ المفید رحمه الله فی کتاب «الإرشاد» أنّ الإمام علی علیه السلام أورد هذا الکلام إمتنع البعض عن بیعة الإمام علیه السلام - حسب روایة الشعبی - ومنهم عبداللّه بن عمر وسعد بن أبی وقاص ومحمد بن مسلمة وحسان بن ثابت واسامة بن زید، فخطب الإمام علیه السلام لبیان أحقیّة بیعته (مصادر نهج البلاغة 2/306) وهکذا نقل هذه الخطبة الشیخ المفید فی إرشاده وقد عاش قبل السید الرضی، وکذلک أشار إلیها ابن الأثیر فی کتاب «النهایة» فی مادة (فلت) .

ص:324

«لَمْ تَکُنْ بَیْعَتُکُمْ إِیَّایَ فَلْتَةً، وَلَیْسَ أَمْرِی وَأَمْرُکُمْ وَاحِداً. إِنِّی أُرِیدُکُمْ لِلّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِیدُونَنِی لِأَنْفُسِکُمْ.

أَیُّهَا النَّاسُ، أَعِینُونِی عَلَی أَنْفُسِکُمْ، وَایْمُ اللّهِ لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّی أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ کَانَ کَارِهاً» .

الشرح والتفسیر

أنصف المظلوم من الظالم

کما ورد سابقاً فانّ الإمام أورد هذا الکلام - بعبارة أخری هذا المقطع من الخطبة - حین إمتنع بعض صحابة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله عن بیعته، فأتمّ الإمام علیه السلام الحجة علیهم بهذا الکلام فقال: «لَمْ تَکُنْ بَیْعَتُکُمْ إِیَّایَ فَلْتَةً» ، بل حین رأیتم المشاکل الناشئة من بیعة الخلفاء السابقین ولاسیّما بیعة الخلیفة الثالث وما ترتب علیها من آثار فقد عزمتم علی الإقبال علیَّ فأبیتم أمراً جدیداً فی مسألة البیعة، وبناءاً علی ما تقدم فانّ الأقلیة لا تمتلک الحق فی نقض البیعة التی سارعت إلیها الأکثیرة من الاُمة.

وبالنظر إلی أنّ الفلتة تعنی العمل الذی یقع بغتة دون رویة وتدبر فقد أراد الإمام:

أولاً: یوضح أنّ بیعته کانت دقیقة جدّاً وقد حصلت بعد مشورة الاُمة وزعماء القبائل مع بعضهم.

ثانیاً: التلمیح إلی بیعة أبی بکر التی حصلت فی أجواء متوترة مغلقة من قبل قلّة قلیلة حتی قال عمر بهذا المضمون: «إِنَّ بَیعةَ أبی بَکرٍ کَانتْ فَلتَةً، وَقی اللّهُ شرّها» (1)، کما ورد فی بعض الروایات فی ذیل هذا الحدیث «فَمَن عادَ إِلی مِثلِها فاقتُلُوهُ» (2)، وسنقدم شرحاً وافیاً لهذا الموضوع فی البحث اقادم.

ثم قال الإمام علیه السلام فی مواصلة کلامه: «وَلَیْسَ أَمْرِی وَأَمْرُکُمْ وَاحِداً، إِنِّی أُرِیدُکُمْ لِلّهِ،

ص:325


1- 1) صحیح البخاری 6/2505 طبعة دارالنشر بیروت وصحیح ابن جبان 2/148، طبع مؤسسةالرسالة.
2- 2) بحار الانوار 10/248 ( [1]نقلاً عن مناقب ابن شهر آشوب) . [2]

وَأَنْتُمْ تُرِیدُونَنِی لِأَنْفُسِکُمْ» ، فلست من قبیل طلاب الدنیا من الحکّام الذین ینشدون من وراءها تأمین جلالهم وأبهتهم ومصالحهم الشخصیة، فما أریده هو إقامة الدین بواسطتکم وأن اُؤدّی حقوق الناس وأفوز برضی اللّه سبحانه، ولکنکم تریدوننی لمصالکم الشخصیة کالحصول علی سهم کبیر من بیت المال أو نیل المناصب والمقامات والرفاه فی الحیاة، وبالإلتفات إلی الاختلاف بین هاتین النظرتین فمن الطبیعی ألا تتساوی المسارات تبعاً لوسائل العمل، ثم دعاهم لإصلاح أنفسهم بعد أن وبّخهم وأیقظهم فقال: «أَیُّهَا النَّاسُ، أَعِینُونِی عَلَی أَنْفُسِکُمْ» ، فی إشارة إلی أنّ مدرستی التربویة معدة لإصلاحکم، فما اُریده منکم وبقبول نصائحی - التی تستند إلی مصدر الوحی والقرآن الکریم وتعالیم النبی الأکرم صلی الله علیه و آله - الإلتحاق بها والتعاون معی، فانّ لم یکن لدیکم الإندفاع فلا جدوی من أی برنامج، ثم أشار فی الختام إلی نقطة مهمّة ووضح عزمه الراسخ فیها وهی مسألة بسط العدالة فی کافة أرجاء البلد الإسلامی مقاتلة الظلمة فقال: «وَایْمُ اللّهِ لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ (1)حَتَّی أُورِدَهُ مَنْهَلَ (2)الْحَقِّ وَإِنْ کَانَ کَارِهاً» ، فهذا التشبیه الرائع للظلمة بالبعیر الجامح الذی یمتنع حتی من شرب الماء ویرید صاحبه أن یورده مشربه کرهاً ویرویه، یفید أنّ الهدف من مقارعة الظلمة لا یقتصر علی استرداد حقوق المظلومین فحسب، بل أنّ هذا العمل بنفعهم أیضاً، لأنّ الظالم إن جاوز الحدّ فانّ التمرد والعصیان العام سیکون کألسنة اللهب التی تحرق الأخضر والیابس وأنّ الظلمة أول من تحرقهم تلک النار، الأمر الذی وقع فی عصر عثمان قبیل حکومة الإمام علیه السلام کما یفید من جانب آخر أنّ أهم هدف اجتماعی للإمام علیه السلام بسط العدل وأخذ حق المظلومین، وهذا هو الدواء الشافی المریر علی ألسنة أغلب الأفراد الجهّال، وهذا أهم هدف لبعثة الأنبیاء والذی صوره القرآن الکریم بالقول: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَیِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْکِتَابَ وَالْمِیزَانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ. . .» (3).

ص:326


1- 1) «خزامة» : بالکسر حلقة من شعر تجعل فی وترة أنف البعیر لیشد فیها الزمام ویشهل قیاده، وقال البعض إن کان جنس الحلقة من النحاس قیل لها البرة وإن کانت من الشعر فهی الخزامة.
2- 2) «منهل» : من مادة «نهل» علی وزن جهل بمعنی الشربة الأولی ویطلق المنهل علی الموضع الذی یمکن الاستفادة منه من ماء النهر (لابدّ من الالتفات إلی أنّ سطح ماء أغلب الأنهار أکثر انخفاضاً من الساحل وعادة ما یشقون بعض الأماکن لوصول الماء لیبلغه الناس والحیوانات بسهولة ویقال لمسیر هذه الأماکن الشریعة وآخرها المنهل.
3- 3) سورة الحدید / 25. [1]

الخطبة المأة والسابعة والثلاثون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

فی شأن طلحة والزبیر وفی البیعة له

نظرة إلی الخطبة

المحاور الأصلیة للخطبة هی:

1 - نقض طلحة والزبیر للبیعة لحجّة اشتراک علی علیه السلام فی قتل عثمان، والحال هم کانوا یحرضون الناس للقیام علی عثمان.

2 - النصیحة المشوبة بالتهدید لطلحة والزبیر لیکفا عن الفتنة، ویلتحقا بصفوف عامّة المسلمین.

3 - الإشارة إلی مسألة البیعة وأنّ الإمام علیه السلام لم یکن طالباً للحکومة، بل هم الذین أصروا علیه بقبول البیعة.

4 - لعن الإمام علیه السلام فی ختام الخطبة طلحة والزبیر وهو الأمر الذی جری علیهما عملیاً فساءت عاقبتهما.

ص:327


1- 1) سند الخطبة: رواها ابن عبد البر من علماء العامّة للقرن الخامس فی کتاب «الاستیعاب» فی شرج سیرة طلحة، کما رواها ابن الأثیر من علماء القرن السابع فی «اسد الغابة» ، ونقلها المرحوم الشیخ المفید رحمه الله فی کتاب «الجمل» عن الواقدی، کما فسّر بعض أجزاءها ابن أبی الحدید عن أبی مخنف وکذلک ابن الأثیر فی کتاب «العوذ» (مصادر نهج البلاغة 2/309) .

ص:328

القسم الأول: الحاقدون الظالمون

«وَاللّهِ مَا أَنْکَرُوا عَلَیَّ مُنْکَراً، وَلَا جَعَلُوا بَیْنِی وَبَیْنَهُمْ نِصْفاً. وَإِنَّهُمْ لَیَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَکُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَکُوهُ، فَإِنْ کُنْتُ شَرِیکَهُمْ فِیهِ، فَإِنَّ لَهُمْ نَصِیبَهُمْ مِنْهُ، وَإِنْ کَانُوا وَلُوهُ ] [وُلُّوهُ] [ دُونِی فَمَا الطَّلِبَةُ إِلاَّ قِبَلَهُمْ. وَإِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُکْمُ عَلَی أَنْفُسِهِمْ. إِنَّ مَعِی لَبَصِیرَتِی؛ مَا لَبَسْتُ وَلَا لُبِسَ عَلَیَّ. وَإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِیَةُ؛ فِیهَا الْحَمَأُ وَالْحُمَةُ، وَالشُّبْهَةُ الْمُغْدِفَةُ؛ وَإِنَّ الْأَمْرَ لَوَاضِحٌ؛ وَقَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغَبِهِ. وَایْمُ اللّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ، لَایَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِیٍّ، وَلَا یَعُبُّونَ بَعْدَهُ فِی حَسْیٍ!» .

الشرح والتفسیر

لا شبهة ولا شک أنّ طلحة والزبیر کانا من بین اُولئک الذین أثاروا الناس ضد عثمان ویجمع العدو والصدیق علی اشتراکهما فی قتل عثمان، کما أعلنت عائشة صراحة اعتراضها علی عثمان، إلّا أنّ العجیب ما إن هبت الاُمة لمبایعة علی علیه السلام فتسلم زمام الأمور حتی وقف بوجهه طلحة والزبیر وکذلک عائشة، والأعجب من ذلک أنّ حجّتهم لذلک الوقوف هو الطلب بدم عثمان، ولا زال التاریخ یحفل بالکثیر من هذه العجائب والأفراد الذین یحرصون علی الدنیا وزخارفها، علی کل حال فانّ الإمام علیه السلام أشار فی هذه الخطبة إلی هذا المطلب فقال: «وَاللّهِ مَا أَنْکَرُوا عَلَیَّ مُنْکَراً، وَلَا جَعَلُوا بَیْنِی وَبَیْنَهُمْ نِصْفاً (1)» ، ثم أضاف قائلاً: «وَإِنَّهُمْ لَیَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَکُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَکُوهُ» .

ص:329


1- 1) «نصف» : بکسر النون وضمها الإنصاف.

ثم استدلّ بدلیل واضح علی ذلک فقال: «فَإِنْ کُنْتُ شَرِیکَهُمْ فِیهِ، فَإِنَّ لَهُمْ نَصِیبَهُمْ مِنْهُ، وَإِنْ کَانُوا وَلُوهُ ] [وُلُّوهُ] [ دُونِی فَمَا الطَّلِبَةُ إِلاَّ قِبَلَهُمْ. وَإِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُکْمُ عَلَی أَنْفُسِهِمْ» ، قطعاً لیس الإمام علیه السلام من ید فی قتل عثمان، وإن اعتبر أغلب الصحابة أنّ عثمان یستحق القتل، إلّا أنّ الإمام علیه السلام لیس فقط لن یشترک فی هذا العمل فحسب، بل بعث بولدیه الحسن والحسین علیهما السلام للدفاع عنه، مع ذلک صرّح تجاه ذرائع طلحة والزبیر وبغیة سلبهم حق المطالبة فقد قال لم یقل أحد بأنّی کنت الوحید فی قتل عثمان علی فرض أنّی اشترکت فی قتله، فقد شرکتمونی فیه، وعلیه فأی منطق یستول لکم مطالبة الآخرین بأمر اشترکتم فیه معهم، وإن کنتما لوحدکما من فعل ذلک، فالعقاب یقتصر علیکم، وعلیکم أن تدینوا أنفسکم قبل أی شخص، فالمتعارف بین الساسة الشیاطین أنّهم یسعون لخلق بعض الذرائع التی یستحسنها العوام بغیة التشنیع علی منافعهم، فهم یبذلون قصاری جهدهم لإتهام منافسهم بما یشوه سمعتهم لدی الرأی العام، وفی ظلّ هذه الأجواء تغیب معانی المنطق والعدالة والوجدان والشرف، فالهدف إقصاء المنافس الخصم مهما کان الثمن، وهذا بالضبط هو المنهج الذی مارسه طلحة الزبیر وعائشة بعد بیعة الاُمة لعلی علیه السلام فألبّوا الکثیر من الناس لقتاله علیه السلام حتی احترقوا بنیران تلک المعارک، علی کل حال فانّ الإمام علیه السلام سلب من خصومه الحجّة وأفشل خططهم لیعلم الناس أنّهم قتلة عثمان وقد تذرعوا بالمطالبة بدمه وهدفهم ضمان مصالحهم الشخصیة، فهم لا یفکرون فی الناس ولا یهتمون بدم الخلیفة المظلوم.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بالإشارة إلی حدیث النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بشأن أصحاب الجمل الذین ینقضون البیعة: «إِنَّ مَعِی لَبَصِیرَتِی (1)؛ مَا لَبَسْتُ وَلَا لُبِسَ عَلَیَّ. وَإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِیَةُ؛ فِیهَا الْحَمَأُ وَالْحُمَةُ، وَالشُّبْهَةُ الْمُغْدِفَةُ؛ وَإِنَّ الْأَمْرَ لَوَاضِحٌ؛ وَقَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغَبِهِ (2)» .

فهذا الکلام إشارة للحدیث المعروف عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لا تَذهَب اللّیالِی وَالأَیّامُ حتّی تَتنابَحَ کِلابُ ماءٍ بِالعِراقِ یُقَالُ لَها الحَوأَبُ إِمرَأَةً مِنْ نِسائِی فِی فِئَةٍ بَاغِیةٍ» (3).

ص:330


1- 1) أوردنا شرحاً تاماً للعبارة «إنّ معی لبصیرتی» فی هذا الکتاب 1/481.
2- 2) «شغب» : مصدر وبمعنی تهییج الشر والفساد.
3- 3) منهاج البراعة 8/338؛ الاحتجاج 1/165. [1]

فالحدیث یشیر إلی الحادثة المعروفة لأصحاب الجمل حین قدموا من المدینة إلی البصرة، فلمّا بلغوا الحوأب نبحت عائشة کلابها، فتذکرت حدیث النبی صلی الله علیه و آله فقالت: إرجعونی إلی المدینة، لکن الساسة المحترفین جندوا أهل تلک المنطقة لیشهدوا بأنّ تلک المنطقة لیست الحوأب (1).

وروی ابن عساکر فی «تاریخ دمشق» ومتقی الهندی فی کنز العمال أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال لعلی علیه السلام: «یَا عَلَیُّ ستُقاتِلُ الفِئَةِ البَاغِیةِ وَأَنتَ عَلَی الحَقِّ فَمَن لَم یَنصُرکَ یَومَئذٍ فَلَیسَ مِنِّی» (2)، ومن هنا قال الإمام علیه السلام إنّ معی لبصیرتی ما لبست ولا لبس علیَّ، فالعبارة: «فِیهَا الْحَمَأُ وَالْحُمَةُ» ، بالنظر إلی أنّ الحمأ بمعنی المستنقع والمادة الغامقة فی جرف الأحواض والجداول، والحمة بضم ففتح بمعنی الإبرة اللاسعة للعقرب والحیة، فهی کنایة عن الأفراد الأرجاس والخطیرین الذین کانوا من مثیری فتنة الجمل.

وهنا تفسیر آخر لهاتین المفردتین فی أنّ الحمأ بمعنی القرابة الحمیمة والحمة بمعنی الزوج وهی کنایة عن الزبیر بن العوام ابن عمة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، وعائشة إحدی أزواج النبی صلی الله علیه و آله، والعبارة الشبهة المغدقة بالنظر إلی أنّ المغدقة من مادة أغداق تعنی فی الأصل التغطیة إشارة إلی الضجة التی أقامها أصحاب الجمل بعنوان المطالبة بدم عثمان والحال أیدیهم ملطخة بدم عثمان، بینما صوروا أنفسهم من حماته، وهذه العبارة لا تنافی العبارة اللاحقة التی قالت بوضوح المطلب، لأنّ المراد هو عدم خفاء الأمر علی الأفراد من ذوی العقول والإدراک، لأنّهم کانوا علی علم بمؤامرات أصحاب الجمل ودعایاتهم المغرضة الکاذبة.

ثم إختتم الإمام علیه السلام کلامه بتوجیه تهدید شدید استهله بالقسم فقال علیه السلام: «وَایْمُ اللّهِ

ص:331


1- 1) أورد ابن الأثیر فی المجلد الثانی، ص315 عن الکامل شرحاً مفصلاً لقضیة نباح کلاب الحوأب وصراخ عائشة وعزمها علی الرجوع وشهادة البعض علی کذب من قال تلک المنطقة هی الحوأب.
2- 2) تاریخ دمشق 32/171، طبعه بیروت؛ کنز العمال 12/211 طبعة حیدر آباد (مطابق نقل أحقاق الحق17/166) . [1]

لَأُفْرِطَنَّ (1)لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ (2)، لَایَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِیٍّ (3)، وَلَا یَعُبُّونَ (4)بَعْدَهُ فِی حَسْیٍ! (5)» .

کما أوردنا فی الخطبة العاشرة التی تشبه إلی حدّ بعید هذه الخطبة، مراد الإمام علیه السلام من هذه العبارة أنّی سأجعل من میدان معرکة الجمل مستنقعاً خطیراً مملوءاً بالماء بحیث لا یسعهم الهروب منه وأخمد الفتنة فی مهدها حتی لا یفکروا قط فی العودة إلی مثل ذلک المیدان، وکما ورد فی التواریخ فانّ الإمام علیه السلام حقق عملیاً ما قاله، فقد قتل زعماء الجمل وعادت عائشة مخذولة إلی المدینة وافتضح أصحاب الفتنة وتشتتوا فی البلاد.

ص:332


1- 1) «افرطن» : من مادة «افراط» تعنی فی الأصل تجاوز الحدّ، لکنّها وردت أحیاناً بمعنی القیام بالحدّ الأکثر من العمل وقد جاءت بهذا المعنی فی العبارة، یعنی سأملأ حوض المعرکة للخصوم (طبعاً المراد حوض المنیة) بحیث لا یبقی أمامهم من سبیل للنجاة، وبناءاً علی هذا فلا مجال لطرح مثل هذا السؤال أو یمکن للإمام علیه السلام أن یفرط فی شیء.
2- 2) «ماتح» : من مادة «متح» علی وزن مدح بمعنی سحب الماء من الأعلی کسحب الماء من البئر بواسطة الدلو، وعلیه فالماتح تطلق علی من یطرح الدلو بواسطة الحبل فی البئر ویسحب منه الماء.
3- 3) «ریّ» : اسم مصدری ومصدره «ری» علی وزن حی والباء للمعیة.
4- 4) «یعبون» : من مادة «عبّ» بمعنی شرب الماء أو مانع أخر دون تنفس.
5- 5) «حسی» : السهل من الأرض الذی یتجمع فیه الماء.

القسم الثانی: إصرارکم علی البیعة

اشارة

و منه: «فَأَقْبَلْتُمْ إِلَیَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ الْمَطَافِیلِ عَلَی أَوْلَادِهَا، تَقُولُونَ: الْبَیْعَةَ الْبَیْعَةَ! قَبَضْتُ کَفِّی فَبَسَطْتُمُوهَا، وَنَازَعَتْکُمْ یَدِی فَجَاذَبْتُمُوهَا. اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا قَطَعَانِی وَظَلَمَانِی، وَنَکَثَا بَیْعَتِی، وَأَلَّبَا النَّاسَ عَلَیَّ؛ فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا، وَلَا تُحْکِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا، وَأَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِیَما أَمَّلَا وَعَمِلاَ. وَلَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَا قَبْلَ الْقِتَالِ، وَاسْتَأْنَیْتُ بِهِمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ، فَغَمَطَا النِّعْمَةَ، وَرَدَّا الْعَافِیَةَ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی مسألة البیعة فقال: «فَأَقْبَلْتُمْ إِلَیَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ (1)الْمَطَافِیلِ (2)عَلَی أَوْلَادِهَا، تَقُولُونَ: الْبَیْعَةَ الْبَیْعَةَ! قَبَضْتُ کَفِّی فَبَسَطْتُمُوهَا، وَنَازَعَتْکُمْ یَدِی فَجَاذَبْتُمُوهَا» .

فقد أشار الإمام علیه السلام فی الواقع إلی هذه الحقیقة وهی أنّ علیکم أن تقارنوا بی الزاعمین الطالبة بدم عثمان لیجعلوا ذلک ذریعة للوصول إلی الخلافة والحکومة وهم طلحة والزبیر، فهما لا یتورعان عن أیة حیلة وخدعة من أجل تحقیق أهدافهما، أمّا أنا فقد أریتکم منذ البدایة أنّی لا أطلب المقام، وأنتم الذین أصررتم علیَّ البیعة، ولأن قبلت بیعتکم فإنما ذلک بسبب القیام بالمسؤولیة التی تتمثل باجراء الحق وبسط العدل والقسط وإحیاء الإسلام فعبارات الإمام علیه السلام

ص:333


1- 1) «العوذ» : بضم العین جمع «عائذ» الإنسان أو الحیوان الذی یلد حدیثاً.
2- 2) «المطافیل» : جمع «مطفل» علی وزن مسلم ذات الطفل من الإنسان والوحش، وعلیه فالعوذ والمطافیل قریبة المعنی وهما هنا للتأکید.

تکشف مدی شوق الناس للبیعة، وفی ذات الوقت مدی زهد الإمام علیه السلام بها.

ثم إتّجه إلی الحق تبارک وتعالی فشکی إلی اللّه الظلمة الذین نقضوا العهد وجعلوا من إراقة دماء الأبریاء وسیلة لتحقیق أطماعهم وأغراضهم، ثم أخذ بالدعاء علیهم ولعنهم: «اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا قَطَعَانِی وَظَلَمَانِی، وَنَکَثَا بَیْعَتِی، وَأَلَّبَا (1)النَّاسَ عَلَیَّ» .

ثم قال: «فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا، وَلَا تُحْکِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا، وَأَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِیَما أَمَّلَا وَعَمِلاَ» ، والتفت إلی الناس قائلاً: «وَلَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَا (2)قَبْلَ الْقِتَالِ، وَاسْتَأْنَیْتُ (3)بِهِمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ (4)، فَغَمَطَا (5)النِّعْمَةَ، وَرَدَّا الْعَافِیَةَ» ، لعل العبارة الأخیرة مواصلة شکوی الإمام علیه السلام للّه سبحانه، ویمکن أن تکون خطاباً للناس، ، یبدو المعنی الثانی أنسب، علی کل حال فانّ هذه العبارات تبیّن مدی سعی الإمام علیه السلام لاجتناب الحرب وسفک الدماء وقد بذل قصاری جهده لوعظ أصحاب الجمل ومثیری الفتن علّهم یعودون إلی رشدهم وتثار حمیتهم الدینیة، فیعودا عن سبیل الغی، إلّاأنّ حبّ الخلافة والجاه والمقام قد أعمی أبصارهم وأصم أسماعهم بحیث لم یعد لنصائح الإمام علیه السلام ومواعظه من تأثیر علیهم، بالتالی حلّت علیهم لعنة الإمام علیه السلام ففشلوا فی تحقیق أهدافهم، فانهزموا شرّ هزیمة وقتلوا بذلة وهوان.

القاتل یطالب بالثأر

لا شک أنّ طلحة والزبیر کانا ممن أثارا الناس ضد عثمان، فقد أورد ابن قتیبة فی کتابه «السیاسة والإمامة» أنّ أهل الکوفة ومصر حین قاما ضد عثمان وحاصروه فی داره کان

ص:334


1- 1) «ألبا» : من مادة «تألیب» بمعنی الافساد وإثارة الناس.
2- 2) «استثبت» : من مادة «ثوب» علی وزن صوم بمعنی رجوع الرمیض إلی العافیة ومفهوم العبارة أنی أردت من طلحة والزبیر الرجوع عن انحرافهما.
3- 3) «استأنیت» : من مادة «أناة» علی وزن قناة بمعنی الصبر والانتظار ومفهوم الجملة أنّی کنت أنتظر تأثیر اقتراحی علیهما فیعودا إلی رشدهما ویسلکا سبیل العافیة والسلامة، لکن من المؤسف. . .
4- 4) «وقاع» : بمعنی الحرب وتستعمل هذه المفردة أحیاناً بمعنی المصدر وأخری الجمع «وقیعة» .
5- 5) «غمطا» : من مادة «غمط» علی وزن غصب بمعنی استصغار الشیء وکفران النعمة والعبارة المذکورة إشارةإلی أنّ طلحة والزبیر استخفا بما منحتهم من فرصة وکفرا بالنعمة.

طلحة ممن أثار الفریقین ضد عثمان ویقول: أنّ عثمان لا یهتم لمحاصرتکم طالما یحمل إلیه الماء والغذاء فاقطعوا عنه الماء (1)، کما ورد عن ابن أبی الحدید بشأن الزبیر أنّه کان یقول: اقتلوا عثمان فقد أحدث فی دنیکم، فقالوا له: ابنک علی باب دار عثمان یدافع عنه، قال: إن قتل عثمان فلیقتل ابنی قبله (2)، فقد کان تصور طلحة العکس حین قتل عثمان وبایع الناس علیاً علیه السلام فتغیّرت الأوضاع تماماً، ولم تکن الاُمة مستعدة لبیعتهما علی حدّ قول الکاتب المصری المعروف العقاد، حیث لم یکن أمرهما یختلف عن عثمان (3)، وکانت عائشة من الناقمین علی عثمان (4)، إلّاأنّ هؤلاء الأفراد الثلاث انقلبوا علی عقبهم بعد بیعة الاُمة لأمیر المؤمنین علی علیه السلام فاصبحوا من أنصار عثمان وهبوا للمطالبة بدمه، وکثیرة هی هذه الانقلابات التی تسود حرکة الساسة المحترفین، وبالتالی ذاق الثلاث العاقبة المریرة لإثارتهم الفتن، فقد هزم طلحة والزبیر وقتلا فی المعرکة، وعادت عائشة تجر أذیال الخیبة إلی المدینة، وقد تناولنا بالتفصیل موقعة الجمل وطیش عائشة ودور طلحة والزبیر فی المجلدات السابقة من هذا الشرح (5).

ولکن ما ینبغی إضافته هنا أنّ اتباعهم ممن حاول توجیه أعمالهم قد خسروا أنفسهم فی زوایة حرجة، فمن جانب اعتبروا طلحة والزبیر من الصحابة، کما یجرون علیهم نظریة عدالة الصحابة (طهارة وقدسیة جمیع صحابة النبی صلی الله علیه و آله) ، ومن جانب آخر یعتبرونهما من ضمن العشرة المبشرة، تارة یزعمون أنهّم کانوا مجتهدین وإن أخطاؤا فی اجتهادهم، وعلیه فهم معذورون ومأجورون، والحال لو وجهنا أعمالهم تحت هذا الغطاء لأمکن تبریر کل جریمة ومن کل فرد، ذلک لأنّ الاجتهاد لا یقتصر علی هؤلاء الأفراد، وهذا بدوره یؤدّی إلی تجاوز البدیهیات العقلیة والنصوص القرآنیة، وتارة أخری یزعمون أنّهم تابوا، وتوبتهم مقبولة عند اللّه، ولکن هل یمکن اشعال فتیل حرب تؤدّی بسبعة عشر آلف شخص ثم تنسلخ مسؤولیة هذه الدماء بمجرّد لقلقة اللسان بالقول استغفر اللّه؟ ! فهل أدّوا حق تلک الدماء لأصحابها؟ أم

ص:335


1- 1) السیاسة والإمامة 1/38.
2- 2) شرح نهج البلاغة ابن أبی الحدید 9/36.
3- 3) فی ظلال نهج البلاغة 2/294.
4- 4) الکامل لابن الأثیر 3/206؛ تاریخ الطبری 3/477.
5- 5) ج1 شرح الخطبة الثالثة عشرة، ج2 شرح الخطبة الثلاثون والحادیة والثلاثون ج 3، ص 209 - 301.

هل عوضوا تلک الأموال التی ذهبت هدراً بهذا الخصوص؟ وهل اعترف طلحة والزبیر وعائشة بخطأهم أمام الملأ العام؟

إنّ مثل هذا الدفاع العابث هو نتیجة للأغماض عن الحقائق والتعصب الأعمی، أو لیس من الأجدر بنا تقسیم صحابة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله إلی طائفتین، طائفة کانت صالحة علی عهده وأخری منافقة وطالحة، کما تقسم الطائقة الصالحة إلی فئتین، فئة واصلت صلاحها، وأخری انقلبت علی عقبها فجانبت الحق والعدل والإیمان والسلاح، کما علینا أن نعلم بأنّ المراد من بشارة القرآن الکریم النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بنجاة شخص أو أشخاص فی ذلک الزمان هو شمولها بهذا الحکم، علی أنّهم ربّما غیروا مسیرتهم، فممکن أن یقوم الإنسان بعمل بحیث تجب له الجنّة، ثم یفعل بعد ذلک ما یوجب دخوله النار.

ص:336

الخطبة المأة والرابعة والثلاثون

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطبَةٍ لهُ علیه السلام

یومئ فیها إلی ذکر الملاحم

نظرة إلی الخطبة

تتألف هذه الخطبة فی الواقع من ثلاثة أقسام مرتبطة مع بعضها:

القسم الأول: إشارة إلی ولی من أولیاء اللّه سبحانه ینطلق فی عمله علی أساس هدایة القرآن، ویری أغلب شرّاح نهج البلاغة أنّ ذلک الولی واستناداً إلی صفاته هو الإمام المهدی «عجلّ اللّه تعالی فرجه الشریف» .

والقسم الثانی: إشارة إلی الأحداث الدامیة التی یفرزها قیام ذلک الولی من أجل بسط العدل فی ظلّ الحکومة الإلهیّة حیث یملأ الأرض بالقسط والعدل.

القسم الثالث: إشارة إلی الحوادث دامیة أخری تظهر من الشام، ولعل ذلک إشارة إلی حکومة البعض من بنی مروان، أو ظهور بعض الأفراد کالسفیانی الذی یسبق ظهور الإمام المهدی علیه السلام.

ص:337


1- 1) سند الخطبة: ورد فی مصادر نهج البلاغة أنّه نقل جانباً من هذه الخطبة عن الآمدی فی «غرر الحکم» وقال بالنظر إلی أنّ بعض شرّاح نهج البلاغة اعتبروا القسم الأول إشارة إلی قیام الإمام المهدی علیه السلام فانّ ذلک یدل علی أنّهم نقلوا الخطبة من مصدر آخر أشار إلی هذه القیام (مصادر نهج البلاغة 2/302) لکننا لا نعتقد بتوجیه هذا الاستنتاج، ولعلهم استنبطوا ذلک من خلال بعض القرائن الواردة فی الخطبة.

ص:338

القسم الأول: خصائص الإمام المهدی علیه السلام

«یَعْطِفُ الْهَوَی عَلَی الْهُدَی، إِذَا عَطَفُوا الْهُدَی عَلَی الْهَوَی، وَیَعْطِفُ الرَّأْیَ عَلَی الْقُرْآنِ إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَی الرَّأْیِ» .

الشرح والتفسیر

کما ورد سابقاً فانّ هذه الخطبة تشیر إلی الحوادث المستقبلة حیث تطرقت إلی ثلاث حوادث، الاُولی عدّها أغلب شرّاح نهج البلاغة فی الإمام المهدی علیه السلام، لأنّه قال یجعل رغبات النفس وهواجس القلب تابعة للهدی حین یسود العکس باتباع الهدی للهوی، ویجعل الرأی والفکر منقاداً للقرآن فی الوقت الذی یجعلون القرآن فیه تابعاً للرأی: «یَعْطِفُ (1)الْهَوَی عَلَی الْهُدَی، إِذَا عَطَفُوا الْهُدَی عَلَی الْهَوَی، وَیَعْطِفُ الرَّأْیَ عَلَی الْقُرْآنِ إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَی الرَّأْیِ» .

والسؤال هل للعبارتان مفهوم واحد ویؤکد کل منهما الآخر؟ أم أنّ العبارة الاُولی إشارة إلی الهدایة العقلیة والعبارة الثانیة إلی الهدایة القرآنیة؟ یبدو المعنی الثانی أنسب، یعنی فی ذلک الیوم الذی یغیب فیه الناس منطق العقل والهدایة بسبب عبادة الهوی فانّه یزیل حجب الهوی، ویجعل السیادة لهدایة العقل، کما یجعل القرآن هو میزان التقییم بعد أن یقصی التفسیر بالرأی حین یحاول ذوی الاطماع تطبیق النصوص القرآنیة علی ضوء تفسیرهم إیّاه حسب أرائهم

ص:339


1- 1) یعطف من مادة عطف علی وزن فتح بمعنی المیل والرغبة أو الترغیب بشیء، وقد تستعمل أحیاناً بصیغةالمتعدی فتعنی الترغیب، کما تتعدی أحیاناً بحرف إلی فتعنی الرغبة فی شیء، وتتعدی أیضاً بحرف علی فتعنی الرجوع إلی الشیء وأخیراً تتعدی بحرف عن فتعنی الانصراف عن الشیء.

من أجل تحقیق أطماعهم للامشروعة، ولو تأملنا أسباب البؤس والشقاء لرأیناها تتمثل بهذین الدائین، تحکیم هو النفس علی العقل وتطبیق الرغبات الخفیة علی آیات القرآن من التفسیر بالرأی، وإن زال هذان السبیلان تمهد السبیل من أجل بلوغ حکومة العدل الإلهی، ولعل جمیع القضایا التی أصابت المسلمین منذ البدایة لحدّ الآن إنما تعود إلی هذین الانحرافین کما یعود سبیل الصلاح إلی إصلاحهما.

ذکر العلماء فی بحث المعرفة أنّ الهوی من بین حجب المعرفة، حیث قال القرآن الکریم: «أَفَرَأَیْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلَی عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَی سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَی بَصَرِهِ غِشَاوَةً. . .» (1).

وما أورع ما قال أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی الخطبة 109: «وَمَنْ عَشِقَ شَیْئاً أَعْشَی بَصَرَهُ» ، والتفسیر بالرأی وحمل الآیات القرآنیة علیه إحدی مکائد الشیطان الکبری فی تحریف العبارات عن معناها الواقعی وإسقاط الوحی عن قیمته، ومن هنا فقد عدت الأحادیث الإسلامیة هذا العمل بمنزلة الکفر حیث قال الإمام الصادق علیه السلام: «مَنْ فَسَّرَ بِرَأیهِ آیَةً مِنْ کِتَابَ اللّهِ فَقَد کَفَرَ» (2)، ولمّا کان الوقوف بوجه هذین الانحرافین من خصائص الإمام المهدی (أرواحنا فداه) فانّ الضمیر فی هذه العبارات یعود کما یعتقد شرّاح نهج البلاغة إلی الإمام المهدی علیه السلام.

ص:340


1- 1) سورة الجاثیة / 23. [1]
2- 2) بحار الانوار 1/19. [2]

القسم الثانی: جانب من الحوادث المرعبة آخر الزمان

و منهَا: «حَتَّی تَقُومَ الْحَرْبُ بِکُمْ عَلَی سَاقٍ، بَادِیاً نَوَاجِذُهَا، مَمْلُوءَةً أَخْلَافُهَا، حُلْواً رَضَاعُهَا، عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا. أَلَا وَفِی غَدٍ - وَسَیَأْتِی غَدٌ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ - یَأْخُذُ الْوَالِی مِنْ غَیْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَی مَسَاوِیِ أَعْمَالِهَا، وَتُخْرِجُ لَهُ الْأَرْضُ أَفَالِیذَ کَبِدِهَا، وَتُلْقِی إِلَیْهِ سِلْماً مَقَالِیدَهَا، فَیُرِیکُمْ کَیْفَ عَدْلُ السِّیرَةِ، وَیُحْیِی مَیِّتَ الْکِتَابِ وَالسُّنَّةِ» .

الشرح والتفسیر

یمثل هذا القسم من الخطبة فی الواقع استمراراً للقسم السابق وهو إشارة إلی حوادث آخر الزمان یتعرض بادیء الأمر فیها إلی المعارک الدمویة المدمرة التی تثقل کاهل المجتمعات البشریة ویعمّ الظلم والجور کافة الأماکن، ثم یظهر رمز العدل الإلهی فینهی النزاعات والاقتتال ویملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ویوفر کافة مستلزمات الراحة والرفاه، فقال علیه السلام بأنّ هذا الوضع سیتواصل: «حَتَّی تَقُومَ الْحَرْبُ بِکُمْ عَلَی سَاقٍ، بَادِیاً نَوَاجِذُهَا (1)» ، ثم أشار إلی الانتصارات التی تتحقق فی بدایة الحرب والمرارة التی تختتم بها فقال: «مَمْلُوءَةً أَخْلَافُهَا (2)، حُلْواً رَضَاعُهَا، عَلْقَماً (3)عَاقِبَتُهَا» ، وکأنّ الحرب تنطوی علی لبن حلو وفی نفس الوقت مسموم

ص:341


1- 1) «نواجذ» : جمع «ناجذ» أقصی الأضراس أو الأنیاب، کما فسّر بجمیع الأسنان وهذا هو المعنی المراد منهافی العبارة.
2- 2) «أخلاف» : جمع «خلف» بالکسر بمعنی حلمة ضرع الناقة، کما وردت بمعنی حلمة ضرع سائر الحیوانات کالبقرة والشاة.
3- 3) «علقم» : برعم شدید المرارة یطلق علیه الحنظل، وتطلق هذه الکلمة علی کل شیء مرّ.

بحیث یجذب الأفراد المهوسین لیأملوا بتحقیق نصر خاطف سریع، بینما یصرعون ویهلکون فی نهایة الأمر، ثم أشار الإمام إلی ظهور حکومة العدل الإلهی: «أَلَا وَفِی غَدٍ - وَسَیَأْتِی غَدٌ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ - یَأْخُذُ الْوَالِی مِنْ غَیْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَی مَسَاوِیِ أَعْمَالِهَا» .

ثم تطرق إلی ذکر الأوضاع المطلوبة المفعمة بالخیر والبرکة والتی تحصل بعد قیامه فقال: «وَتُخْرِجُ لَهُ الْأَرْضُ أَفَالِیذَ (1)کَبِدِهَا، وَتُلْقِی إِلَیْهِ سِلْماً مَقَالِیدَهَا، فَیُرِیکُمْ کَیْفَ عَدْلُ السِّیرَةِ، وَیُحْیِی مَیِّتَ الْکِتَابِ وَالسُّنَّةِ» ، فمن جانب: یتم اکتشاف المعادن النفیسة باطن الأرض بسهولة.

ومن جانب ثان: بیده مقالید تلک الکنوز أو مقالید حکومة أرجاء الأرض.

ومن جانب ثالث: یبسط العدل والقسط بالاستناد إلی التمتع بتلک المصادر الغنیة وهذه الحکومة الشاملة.

ومن جانب رابع: یحیی التعالیم المندرسة والقیم المغیبة للقرآن والکریم والسنّة الشریفة، وهکذا تسیر البشریة باتجاه التکامل علی المستوی المادی والمعنوی، فالعقول تتم فی ظلّ حکومة الإمام المهدی علیه السلام، وتحیی القیم الإنسانیة وتفیض النعم بأنواعها علی الناس ویطاح بصنم الظلم والجور.

وقد وردت مثل هذه العبارات فی الروایات المتعلقة بقیام الإمام المهدی علیه السلام فقد روی عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال: « وتَظهرُ لَهُ الکُنُوزُ ویَبلُغُ سُلطَانُهُ المَشرِقَ والمَغرِبَ، وِیُظْهِرَهُ دِیَنهُ عَلیَ الدِّینِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکوُنَ فَلا یَفقَی عَلَی وَجهُ الأَرضِ خَرابٌ إِلّا عُمِّرَ» (2).

وقا فی موضع آخر: «یَملأُ اللّهُ بِهِ الأَرضَ عَدلاً وَقِسطَاً کَمَا مُلِئَتْ ظُلمَاً وَجَوراً، فَیَفتَحُ اللّهُ لَهُ شَرقَ الارضِ وَغَربِها» (3).

ص:342


1- 1) «أفالیذ» : جمع «أفلاذ» وهذا جمع «فلذ» علی وزن فکر بمعنی کبد الناقة، أو کبد کل إنسان أو حیوان، : وفلذةتعنی قطعة من الکبد، والمراد بها فی هذه العبارة الأشیاء النفیسة والکنوز والمعادن الثمینة فی جوف الأرض.
2- 2) شرح نهج البلاغة لعلّامة الخوئی 8/353.
3- 3) بحار الأنوار 52/390. [1]

القسم الثالث: خصائص ذلک الحاکم الدموی

منهَا: «کَأَنِّی بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ، وَفَحَصَ بِرَایَاتِهِ فِی ضَوَاحِی کُوفَانَ، فَعَطَفَ عَلَیْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ، وَفَرَشَ الْأَرْضَ بِالرُّؤُوسِ. قَدْ فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ، وَثَقُلَتْ فِی الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ، بَعِیدَ الْجَوْلَةِ، عَظِیمَ الصَّوْلَةِ. وَاللّهِ لَیُشَرِّدَنَّکُمْ فِی أَطْرَافِ الْأَرْضِ حَتَّی لَایَبْقَی مِنْکُمْ إِلاَّ قَلِیلٌ، کَالْکُحْلِ فِی الْعَیْنِ، فَلَا تَزَالُونَ کَذلِکَ، حَتَّی تَؤُوبَ إِلَی الْعَرَبِ عَوَازِبُ أَحْلَامِهَا! فَالْزَمُوا السُّنَنَ الْقَائِمَةَ، وَالْآثَارَ الْبَیِّنَةَ، وَالْعَهْدَ الْقَرِیبَ الَّذِی عَلَیْهِ بَاقِی النُّبُوَّةِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ الشَّیْطَانَ إِنَّمَا یُسَنِّی لَکُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة إلی حاکم دموی وغاشم ومقتدر یظهر مستقبلاً بالشام فیشهر سیفه ویستولی علی جمیع البلاد الإسلامیة، ثم ذکر له تسع صفات، فقال: «کَأَنِّی بِهِ قَدْ نَعَقَ (1)بِالشَّامِ، وَفَحَصَ (2)بِرَایَاتِهِ فِی ضَوَاحِی (3)کُوفَانَ (4)» .

ص:343


1- 1) «نعق» : من مادة «نعق» علی وزن کعب تعنی فی الأصل صوت الغراب أوالصوت الذی یخرج من الشاة حین یذودها الراعی وتشیر هنا إلی زعیق الظالم فی الشام.
2- 2) «فحص» : من مادة «فحص» علی وزن بحث تعنی فی الأصل البحث، کما وردت بمعنی البسط وهذا هو المعنی المراد بها فی الخطبة.
3- 3) «ضواحی» : جمع «ضاحیة» من مادة «ضحو» علی وزن سهو بمعنی التعرض للشمس کما تطلق الضواحی علی المناطق أطراف المدن.
4- 4) «کوفان» : اسم آخر للکوفة وتعنی فی الأصل تلال الرمل الحمراء الدائریة.

ثم قال: «فَعَطَفَ عَلَیْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ (1)، وَفَرَشَ الْأَرْضَ بِالرُّؤُوسِ. قَدْ فَغَرَتْ (2)فَاغِرَتُهُ، وَثَقُلَتْ فِی الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ، بَعِیدَ الْجَوْلَةِ (3)، عَظِیمَ الصَّوْلَةِ (4)» . ثم أقسم قائلاً: «وَاللّهِ لَیُشَرِّدَنَّکُمْ (5)فِی أَطْرَافِ الْأَرْضِ حَتَّی لَایَبْقَی مِنْکُمْ إِلاَّ قَلِیلٌ، کَالْکُحْلِ فِی الْعَیْنِ» .

فهذه الصفات التسع لذلک الحاکم الدموی المقتدر والتی تکشف عن شخصه بصورة تامة تشیر إلی أنّه یدک أهل الإیمان دکاً بحیث لا یبقی منهم إلّاالقلیل، فهو یکتم الأنفاس فی الصدور ویخنق کل حرکة ونشاط، ویستولی علی البلاد بعد سفکه للدماء وانطلاقه من الشام إلی الکوفة ثم سائر المناطق، أمّا من هو هذا الشخص الذی یتصف بهذه الصفات؟ هناک رأیان لشرّاح نهج البلاغة، رأی یراه عبدالملک بن مروان خامس خلفاء بنی أمیة، کان جباراً طاغیاً ودمویاً، فقد تحرک بجیش عظیم من الشام لیقضی علی مصعب بن الزبیر الذی کان یحکم الکوفة، فاستولی علی العراق والکوفة، ثم وجه جشیاً بقیادة الحجاج إلی الحجاز فقتل عبد اللّه بن الزبیر فسیطر علی مکة والمدینة، کما هدم جانباً من الکعبة بعد أن لاذ بها جمع من جیش عبداللّه بن الزبیر.

والرأی الآخر أنّ ذلک الشخص هو السفیانی الذی یسبق ظهور الإمام المهدی علیه السلام حیث یظهر فی الشام ویسفک الدماء ویدعو الناس إلی نفسه، وبالنظر إلی أنّ الأقسام السابقة من الخطبة بشأن ظهور الإمام المهدی علیه السلام لذلک یبدو أنّ هذا القسم فی الظهور أیضاً، والعبارات المذکورة إشارة إلی ظهور السفیانی.

وقد ورد فی الخبر عن حذیفة بن الیمان أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أشار إلی فتنة بین أهل الشرق والغرب فیخرج السفیانی حتی یرد دمشق فیبعث بجیش إلی الشرق وآخر إلی المدینة حتی

ص:344


1- 1) «ضروس» : من مادة «ضرس» بمعنی عض الشیء والضغط علیه، وتطلق الضروس علی الناقة السیئةالخلق التی تعض حالبها.
2- 2) «فغرت» : من مادة «فغر» علی وزن فقر بمعنی فتح الفم، وهی هنا کنایة عن الحرص فی الاستیلاء علی کل شیء، وافغر اسم فاعل من هذه المادة.
3- 3) «جولة» : من مادة «جول» علی وزن قول بمعنی الحرکة والدوران حول مکان، وهی کنایة عن السعی والجهد المتواصل.
4- 4) «الصولة» : من مادة «صول» علی وزن قول بمعنی الحملة فی الحرب أو القفز علی شیء.
5- 5) «لیشردنکم» : من مادة «تشرید» بمعنی النفی والطرد والتفریق.

یصل بابل وبغداد، فیقتل أکثر من ثلاثة الاف وینتهک عرض أکثر من مئة إمرأة، ثم یتّجهون إلی الکوفة فیخربون أطرافها، ثم یعودن إلی الشام، فتظهر رایة هدی فی الکوفة وینطلق جیشها إلی جیش السفیانی فیقتله ولا ینجو منه إلّاواحد یخبر عن الحادثة (وهکذا تخمد الفتنة) .

قال المرحوم العلّامة المجلسی نقل أصحابنا هذا الحدیث عن الإمام الباقر علیه السلام والإمام الصادق علیه السلام ضمن أحادیث المهدی علیه السلام (1).

ولکن القسم الأخیر من هذه الخطبة لا ینسجم مع هذا التفسیر، ثم قال الإمام علیه السلام: بأنّ هذا الوضع من الاضطراب وسفک الماء والابعاد والتشتت یستمر حتی یعود إلی العرب رشدها وعقلها فتتخلص بهذا العقل من فرقتها واختلافها وتتحد کلمتها: «فَلَا تَزَالُونَ کَذلِکَ، حَتَّی تَؤُوبَ (2)إِلَی الْعَرَبِ عَوَازِبُ (3)أَحْلَامِهَا! (4)» .

ثم أمر الناس بأربع من شأنها نصرهم علی حکّام الظلم والجور، وإعادة الأمن والسلام إلیهم فقال علیه السلام: «فَالْزَمُوا السُّنَنَ الْقَائِمَةَ، وَالْآثَارَ الْبَیِّنَةَ، وَالْعَهْدَ الْقَرِیبَ الَّذِی عَلَیْهِ بَاقِی النُّبُوَّةِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ الشَّیْطَانَ إِنَّمَا یُسَنِّی (5)لَکُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ» .

والمراد بالسنن القائمة ضروریات الإسلام وتعالیمه التی ینبغی أن تکون محور الأنشطة السیاسیة والاجتماعیة والفردیة فی کل زمان، والمراد بالآثار البیّنة هی الأخبار والروایات التی ثبتت من الطرق المعتبرة والتی تختزن أغلب التعالیم والوصایا الإسلامیة، والمراد بالعهد القریب وصیّة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بولایة علی علیه السلام، والمراد بالعبارة «واعلموا. . .» مراقبة الشیطان والحذر منه فی الإتیان بالأمور المذکورة، وذلک لأنّ الشیطان یسهل طرقه لیصد الناس عن طاعة اللّه والأئمة المعصومین علیه السلام والذی لا یخلو عادة من المصاعب، أمّا الأفراد الذین اعتبروا

ص:345


1- 1) بحار الانوار 52/186 - 187 [1] بتصرف.
2- 2) «یؤوب» : من مادة «أوب» الرجوع من السفر أو مطلق الرجوع.
3- 3) «عوازب» : جمع «عازبة» فی الأصل من مادة «عزبة» من لا زوجة له، لکنها وردت أحیاناً بمعنی الخفاء والابتعاد، وهذا هو المراد بها فی العبارة.
4- 4) «أحلام» : جمع حلم بمعنی العقل.
5- 5) «یسنی» : من مادة «سنو» تعنی فی لأصل ری الأرض من الغیوم، ثم استعملت بمعنی مطلق التسهیل من أجل القیام بعمل.

القسم الأخیر من الخطبة بشأن حکومة عبدالملک بن مروان فیرد علیهم إشکالات:

الأول: مفهوم العبارة هو أنّ اسقاط حکومة بنی أمیة ومجییء حکومة بنی العباس قد تمّ فی ظلّ عقل العرب ودرایتها والعودة إلی الطریق الصحیح، والحال نعلم أنّ بنی العباس قد واصلوا جنایات بنی أمیة ولم تکن حکومتهم أقلّ استبداداً من حکومة بنی أمیة، إلّاأن یقال بعقلائیة سقوط بنی أمیة وشروع حرکة بنی العباس وإن انحرفوا فی مواصلة الطریق.

الثانی: لم یکن ظهور بنی العباس مباشرة بعد موت عبدالملک، بل استغرق عشرات السنین حیث حکم ولد عبدالملک ثم أعقب ذلک سقوط بنی أمیة، إلّاأن یقال فی جواب هذا الإشکال أنّ حکومة ولد عبدالملک کان امتداداً لحکومته، ولکن من اعتبر القسم الأخیر من الخطبة إشارة إلی خروج السفیانی قبل قیام الإمام المهدی علیه السلام قد فسّر العبارات المذکورة علی أنّها بعد سفک الدماء الطائش فی آخر الزمان والفساد الذی یحصل الناس مع خروج السفیانی، حیث یطرح حجب الغفلة وتتم العقول وتستعد الناس لقبول حکومة المهدی علیه السلام لابدّ فی تلک الشرائط ومن أجل مزیداً من الاستعداد من حفظ السنن الإسلامیة والولاء للولایة، وقد مرّ علینا فی الخطبة 101 العبارات المشابهة لما ورد فی هذه الخطبة، وقد وردت الابحاث بشأن تطبیقها علی حکومة عبدالملک.

ص:346

الخطبة المأة والتاسعة والثلاثون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

فی وقت الشُّورَی

نظرة إلی الخطبة

نعلم أنّ عمر حین أشرف علی الموت عهد بتشکیل الشوری المؤلفة من ستة أفراد لتعیین الخلیفة، کان أحدهم علیاً علیه السلام وعثمان، وکان إختیار الأفراد قد جری وفق تخطیط وسیاسة، وکان الهدف واضحاً منذ البدایة فی إقصاء علی علیه السلام وتسلم عثمان لزمام الأمور بصفته الخلیفة السابق، بل بصفته منتخب شوری کبار المسلمین وقد مضی شرح ذلک فی الخطبة الشقشقیة (2).

أمّا الإمام علی علیه السلام الذی کان ینظر لما هو أبعد من الشوری فقد خطب هذه الخطبة لیحذر أصحاب الشوری، وقد ذکر المرحوم السید الرضی جانب منها.

ص:347


1- 1) سند الخطبة: نقل هذه الخطبة الطبری فی تاریخه فی شرح حوادث عام 23 ه (عام قتل عمر) وقال ابن أبی الحدید هذا جزء من خطبة خطبها علی علیه السلام فی أصحاب الشوری بعد وفاة عمر، وقد ورد فی الکلمات القصار رقم 22 «لنا حق. . .» وهو جزء من هذه الخطبة (مصادر نهج البلاغة 2/302) .
2- 2) نفحات الولایة 1/244. [1]

ص:348

«لَنْ یُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِی إِلَی دَعْوَةِ حَقٍّ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَعَائِدَةِ کَرَمٍ. فَاسْمَعُوا قَوْلِی، وَعُوا مَنْطِقِی؛ عَسَی أَنْ تَرَوْا هذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ هذَا الْیَوْمِ تُنْتَضَی فِیهِ السُّیُوفُ، وَتُخَانُ فِیهِ الْعُهُودُ، حَتَّی یَکُونَ بَعْضُکُمْ أَئِمَّةً لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ، وَشِیعَةً لِأَهْلِ الْجَهَالَةِ» .

الشرح والتفسیر

تحذیر من الحوادث المستقبلیة

یتألف هذا الکلام فی الواقع من ثلاثة أقسام:

الأول: أشار فیه الإمام علیه السلام إلی جانب من فضائله، ولم یکن ذلک بدافع الفخر ومدح النفس، بل لیمهد السبیل أمام الآخرین للقبول.

الثانی: طلب فیه من مخاطبیه سماع ما یقول وقبول نصائحه التی تستبع خیرهم ومصالحهم وسعادتهم.

والقسم الثالث: تطرق فیه إلی الحوادث الألیمة التی یشهدها المجتمع الإسلامی فی حالة عدم قبول مواعظه وإشراته.

فقد قال فی القسم الأول: «لَنْ یُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِی إِلَی دَعْوَةِ حَقٍّ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَعَائِدَةِ کَرَمٍ» .

فقد أشار فی هذه الفضائل الکبری الثلاث إلی قبول الإسلام فقال إنّ علیاً علیه السلام هو أول من أسلم ومن الطبیعی أنّ مثل هذا الفرد یکون أکثر وعیاً به من غیره وأحرص، والآخری إلی سبقه فی صلة الرحم، لأنّه وقف إلی جانب رسول اللّه صلی الله علیه و آله منذ إنبثاق الدعوة الإسلامیة حتی وفاة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، وقد فدی رسول اللّه صلی الله علیه و آله بنفسه فی المواطن الصعبة من قبیل مبیته علی فراش النبی صلی الله علیه و آله واقعة أحد وأمثال ذلک، کما کان الأبرز فی البر والخیر والإحسان حتی نزلت

ص:349

آیات من القرآن الکریم بشأن تصدّقه بالخاتم حین الرکوع فی الصلاة (1)، وتصدقه بالطعام علی المسکین والیتیم والأسیر (2)، وتصدقه بدرهم فی السر وآخر فی العلانیة، ودرهم فی اللیل وآخر فی النهار (3).

ثم قال بالاستناد إلی إذعان الجمیع بالفضل فیما ذکر: «فَاسْمَعُوا قَوْلِی، وَعُوا مَنْطِقِی» ، لا تتعجلوا الأمور بانتخاب عثمان، فهذا عمل خطیر له عواقب وخیمة علی المسلمین، وتطرق علیه السلام إلی المصیر الصعب الذی سیفرزه هذا الانتخاب فقال: «عَسَی أَنْ تَرَوْا هذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ هذَا الْیَوْمِ تُنْتَضَی (4)فِیهِ السُّیُوفُ، وَتُخَانُ فِیهِ الْعُهُودُ، حَتَّی یَکُونَ بَعْضُکُمْ أَئِمَّةً لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ، وَشِیعَةً لِأَهْلِ الْجَهَالَةِ» .

هناک خلاف بین شرّاح نهج البلاغة فی أنّ هذا الإخبار إشارة لحادثة قتل عثمان وشهر السیوف ونقض البیعة من قبل بعض الأفراد کطلحة والزبیر وأمثالهما أم إشارة إلی تمرد الناکثین والقاسطین والمارقین (أصحاب الجمل وصفین والنهروان) ، ولکن بالنظر إلی الظروف التی وردت فیها هذه الخطبة (حین تشکیل الشوری لانتخاب الخلیفة الثالث) ، یبدو المعنی الأول أقوی، وکما تکهن الإمام علیه السلام فبمجرّد تسلم عثمان زمام الأمور حتی بدأ التبذیر والبذخ فی بیت مال المسلمین وحصل أقرباؤه وبطانته علی المراکز الحساسة فی البلد الإسلامی فتهافتوا علی بیت المال لیفعلوا فیه ما شاؤوا، وهو الأمر الذی أثار غضب المسلمین فثاروا علیه وکان فی مقدمة من ثار علیه طلحة والزبیر، وقد تبعهم طائفة من الناس فحصل ما لم ینبغی أن یحصل، والحال لو لم تسود الشوری تلک العصبیات والملاحظات الشخصیة وفوضت الخلافة لأهلها، لما وقعت تلک الحوادث المریرة ولا ما تبعها من نتائج، وذلک لأنّ جذور فتنة الناکثین والقاسطین والمارقین إنّما ترعرعت فی ظلّ حوادث عصر عثمان.

ص:350


1- 1) سورة المائدة / 55.
2- 2) سورة الدهر / 8.
3- 3) سورة البقرة / 274.
4- 4) «تنتضی» : من مادة «نضو» و «نضی» علی وزن نظم بمعنی سل السیف، أوالخروج من البیت وشحوب اللون وما شباه ذلک، والمراد بها فی العبارة المعنی الأول.

جذور الفساد

ذکرنا فی المجلد الأول من هذا الکتاب فی شرحنا لخطبة الثالثة المعروفة بالخطبة الشقشقیة قصة الشوری المؤلفة من ستة أفراد والتی شکّلها عمر وأدّت إلی انتخاب عثمان کخلیفة والتی تمثل فی الواقع مؤامرة ضد خلافة علی علیه السلام، وقد أوردنا جانباً من الأقوال بهذا الشأن استناداً إلی التواریخ المعتبرة والذی نود إضافته هنا إلی ما ذکرناه هو أننا لو أنعمنا النظر فی ترکیب هذه الشوری وحوادثها السلبیة وسنری أنّ أغلب مشاکل المسلمین قد أفرزتها تلک الشوری، ومن ذلک أیضاً حکومة عثمان واستیلاء بنی أمیة وبنی مروان علی المناصب الحساسة للبلاد الإسلامیة وبیت المال المسلمین وحکومة معاویة ومعارک الجمل وصفین والنهروان ومن ثم حکومة یزید وأمثال عبدالملک.

والجدیر بالذکر هنا ما أورده شارح نهج البلاغة ابن أبی الحدید حیث قال بخصوص الشوری: «إنّ ذلک کان سبب کل فتنة وقعت وتقع إلی تنقضی الدنیا» (1).

فهذه الشوری هی التی أدّت بالتالی إلی تغییب القیم الإسلامیة وأحیت السنن الجاهلیة والمعاییر المادیة والدنیویة وشادت المجتمع الإسلامی وقطعت ألسن دعاة الحق ونفت وشردت أبی ذر وأثارات النقمة ضد عمّار بن یاسر حین اعترض علی نتیجة الشوری فلم یکترث أحد لما کان یقول: فقد استوی اُوالئک العتاة علی عرش الغرور والحمیة فعاثوا الفساد فی أوساط المجتمعات الإسلامیة، الفساد فی الحکومة والفساد فی الإیمان والأخلاق، ولو سمحت النعرات الطائفیة بالتعامل الدقیق مع هذه الأحداث لاتضحت فداحة الخسارة التی منی بها المسلمون من جراء الشوری.

ص:351


1- 1) شرح نهج البلاغة ابن أبی الحدید 11/11. [1]

ص:352

الخطبة المأة والأربعون

اشارة

(1)

ومِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

فی النهی عن غیبة الناس

نظرة إلی الخطبة

نهی الإمام علیه السلام الناس فی هذه الخطبة عن اغتیاب بعضهم البعض الآخر وقد عزز ذلک بعدّة أدلة، فقد ذکر بادیء الأمر وجوب الشکر علی من تطهر من العیوب والذنوب، ویتمثل شکرها بتجنب الغیبة واقتفاء عیوب الآخرین، الأمر الآخر لو تأمل صاحب الغیبة نفسه لإکتشف فیها العیوب التی یحاول العثور علیها فی الآخرین، فکیف والحال کذلک یسعی لذم الآخرین علی عیوبهم وهم یحملونها، وأخیراً لعل الإنسان یقارف الصغیرة وهو یظن بأنّه لم یرتکب الکبیرة من الذنوب فیخوض فی غیبة الآخرین، وتقصی معایبهم وهذا بحدّ ذاته من الکبائر، أضف إلی ذلک فما یدری من یغتاب الآخرین أنّ اللّه قد غفر لهم بینما لم یغفر لمن فتش عن عیوب الآخرین، وزبدة الکلام فانّ اللّه قد أغلق الطریق علی أصحاب الغیبة والباحثین عن عیوب الناس لیطهر المجتمع الإسلامی من هذه الفاحشة.

ص:353


1- 1) سند الخطبة: ذکر الآمدی فی کتاب «غرر الحکم» مع فارق وما ورد فی نهج البلاغة وهذا یدل علی أنّ مصدره غیر نهج البلاغة (مصادر نهج البلاغة 2/314) ، کما وردت هذه الخطبة فی بعض المصادر کجزء من خطبة تعرف بالدیباج (کتاب تمام نهج البلاغة) .

ص:354

القسم الأول: التغابی عن عیوب الذات

«وَإِنَّمَا یَنْبَغِی لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَالْمَصْنُوعِ إِلَیْهِمْ فِی السَّلَامَةِ أَنْ یَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَالْمَعْصِیَةِ، وَیَکُونَ الشُّکْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَیْهِمْ، وَالْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ، فَکَیْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِی عَابَ أَخَاهُ، وَعَیَّرَهُ بِبَلْوَاهُ. أَمَا ذَکَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللّهِ عَلَیْهِ مِنَ ذُنُوبِهِ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِی عَابَهُ بِهِ! وَکَیْفَ یَذُمُّهُ بِذَنْبٍ قَدْ رَکِبَ مِثْلَهُ! فَإِنْ لَمْ یَکُنْ رَکِبَ ذلِکَ الذَّنْبَ بِعَیْنِهِ فَقَدْ عَصَی اللّهَ فِیَما سِوَاهُ، مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَایْمُ اللّهِ لَئِنْ لَمْ یَکُنْ عَصَاهُ فِی الْکَبِیرِ، وَعَصَاهُ فِی الصَّغِیرِ، لَجَرَاتُهُ ] [لَجُرأَتُه] [ عَلَی عَیْبِ النَّاسِ أَکْبَرُ!» .

الشرح والتفسیر

إهتم الإسلام بقضیة الغیبة وإقتفاء عیوب الآخرین علی أنّها من المشاکل الاجتماعیة الکبری التی تشیع روح التشاؤم والنفاق وتفکک عری الثقفة وتقضی علی روح الاتحاد والأخوة، ومن هنا عدّها الإسلام من الذنوب الکبیرة، وقد قسم الإمام علیه السلام الناس إلی خمس طوائف، الطائفة الاُولی التی شملتها عنایة اللّه سبحانه فلم تتلوث بالذنوب المعاصی، فقال بشأن هذه الطائفة: «وَإِنَّمَا یَنْبَغِی لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَالْمَصْنُوعِ إِلَیْهِمْ فِی السَّلَامَةِ أَنْ یَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَالْمَعْصِیَةِ، وَیَکُونَ الشُّکْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَیْهِمْ، وَالْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ» ، فأی نعمة أعظم من أن یتلطف اللّه تعالی علی إنسان ویصونه من مقارفة الذنب، وأی شکر أعظم من شکر هذه النعمة الإلهیّة الکبری بأن یحفظ لسانه من إغتیاب الآخرین واقتفاء عیوبهم.

الطائفة الثانیة التی تحمل العیوب وتذم الآخرین علی مثلها، أی إنّ حب الذات لا یدعهم

ص:355

یرون عیوبهم بینما دقیق هو فی متابعة عیوب الآخرین، وقد قال فیها علی علیه السلام: «فَکَیْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِی عَابَ أَخَاهُ، وَعَیَّرَهُ بِبَلْوَاهُ. أَمَا ذَکَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللّهِ عَلَیْهِ مِنَ ذُنُوبِهِ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِی عَابَهُ بِهِ!» .

إشارة إلی أنّ الإنسان المؤمن یجب أن یتحلی بقبسات من صفات اللّه سبحانه، فاللّه ستار العیوب، فینبغی علیه أن یستر عیوب الآخرین.

الطائفة الثالثة التی ترتکب الذنوب وتذم الآخرین علی مثلها، والحال من الطبیعی أن یکون الإنسان أحرص علی نفسه من الآخرین، فکیف لهذا الإنسان بالتفکیر فی عیوب الآخرین دون أن یهم بإصلاح نفسه وعیوبه، أی عقل یسوّل للإنسان نسیانه لذاته بصورة کلیة ویلقی بها فی مستنقع البؤس والشقاء فیخوض فی ذنوب الآخرین، ناهیک عن أنّ الدافع من ذلک هوالفساد لا الإصلاح، فقد قال الإمام علیه السلام: «وَکَیْفَ یَذُمُّهُ بِذَنْبٍ قَدْ رَکِبَ مِثْلَهُ!» .

الطائفة الرابعة من تذم الآخرین علی ذنوب لم ترتکبها، لکنّها إرتکبت ما هو أفضع منها، وهو غافل عن هذه الذنوب غیر مکترث لها، فقال الإمام علیه السلام بشأنها: «فَإِنْ لَمْ یَکُنْ رَکِبَ ذلِکَ الذَّنْبَ بِعَیْنِهِ فَقَدْ عَصَی اللّهَ فِیَما سِوَاهُ، مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ» .

الطائفة الخامسة التی ربّما لم ترتکب تلک الذنوب التی تذم الآخرین علی إرتکابها، حیث لم تصدر منها سوی بعض الصغائر من الذنوب فقال قال الإمام علیه السلام بشأنها: «وَایْمُ اللّهِ لَئِنْ لَمْ یَکُنْ عَصَاهُ فِی الْکَبِیرِ، وَعَصَاهُ فِی الصَّغِیرِ، لَجَرَاتُهُ ] [لَجُرأَتُه] [ عَلَی عَیْبِ النَّاسِ أَکْبَرُ!» .

وهکذا أغلق الإمام علیه السلام جمیع الطرق علی اُولئک الذین یقتفون عیوب الآخرین ویسلبهم أیة ذریعة بعد أن یذکرهم بکافة العواقب الوخیمة التی تترتب علی شنائع أعمالهم، لیبتعدوا عن وساوس الشیاطین ویطلعهم علی أهوائهم وقبح أفعالهم لیجسدها أمام أنظارهم.

ص:356

القسم الثانی: اقتفاء العیوب جحود عظیم

اشارة

«یَا عَبْدَاللّهِ، لَاتَعْجَلْ فِی عَیْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ، فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَلَا تَأْمَنْ عَلَی نَفْسِکَ صَغِیرَ مَعْصِیَةٍ، فَلَعَلَّکَ مُعَذَّبٌ عَلَیْهِ. فَلْیَکْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْکُمْ عَیْبَ غَیْرِهِ لِمَا یَعْلَمُ مِنْ عَیْبِ نَفْسِهِ، وَلْیَکُنِ الشُّکْرُ شَاغِلاً لَهُ عَلَی مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِیَ بِهِ غَیْرُهُ» .

الشرح والتفسیر

أکد الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة تلک المبادیء التی أوردها فی القسم السابق وقد حذر کافة العباد من تتبع عیوب الآخرین وغیبتهم، ثم تابع هذا الأمر من خلال الأدلة المنطقیة فقال علیه السلام: «یَا عَبْدَاللّهِ، لَاتَعْجَلْ فِی عَیْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ، فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَلَا تَأْمَنْ عَلَی نَفْسِکَ صَغِیرَ مَعْصِیَةٍ، فَلَعَلَّکَ مُعَذَّبٌ عَلَیْهِ» .

فی إشارة إلی أنّ ذنب الآخرین قد یغفر بسبب التوبة أو شفاعة المعصومین علیه السلام أو علی أساس القیام بأعمال الخیر بینما یؤاخذ هذا الإنسان بذنبه مهما کان صغیراً بفعل الغرور والغفلة، وعلیه کیف یسمح العاصی لنفسه بذم الآخرین علی معایبهم ومثالبهم فیغتابهم؟

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه فقال: «فَلْیَکْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْکُمْ عَیْبَ غَیْرِهِ لِمَا یَعْلَمُ مِنْ عَیْبِ نَفْسِهِ» ، فاللّه هو المنزه من العیوب والطاهر من الذنب هوالمعصوم، وعلیه فلا یجیزنا العقل بأن نصوب سهام غیبتنا وذمّنا للآخرین ونحن غارقون فی العیوب والذنوب.

ثم إختتم الخطبة بالإشارة إلی المطلب الذی ذکره فی القسم الأول من الخطبة ولکن بعبارة أخری فقال علیه السلام: «وَلْیَکُنِ الشُّکْرُ شَاغِلاً لَهُ عَلَی مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِیَ بِهِ غَیْرُهُ» .

ص:357

فو فرضنا تنزه شخص عن کل عیب أو عیوب معینة، فذلک نعمة کبیرة تستحق شکر اللّه والشعور بلطف اللّه تعالی وعنایته، والحق إنّ مثل هذا الشکر یشغل الإنسان بنفسه إلی الحد الذی یسلبه فرصة البحث عن عیوب الآخرین.

نعم، فهذا المعلم الربانی یعتمد مختلف الأدلة المنطقیة بغیة القضاء علی هذه الرذیلة القبیحة المتمثلة بالغیبة وتحری عیوب الآخرین، کما یغلق جمیع الطرق علی أصحاب الحجج والذرائع.

الغیبة والبحث عن العیوب آفة المجتمعات الإنسانیة

الغیبة تعنی إفشاء عیوب الأفراد ومثالبهم، والمؤسف له هو أنّ هذه الظاهرة شائعة فی أغلب المجتمعات البشریة، وبما لا شک فیه أنّها تختزن مختلف الآثار السلبیة علی المستوی الأخلاقی وکذلک الاجتماعی، وذلک لأنّ السند الرصین لکل مواطن فی المجتمع هو ماء وجهه، والغیبة تزیل ماء الوجه وتطعن فی شخصیة الفرد وتقضی علی روح الثقة وبین أفراد المجتمع والتالی تلعب دوراً سلبیاً فی إضعاف التعاون الاجتماعی، ومن هنا عدّها الشارع وحداة من أقبح وأشنع الذنوب حتی شبهها القرآن الکریم یأکل لحم الأخ المیت، وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی خطبة حجّة الوداع وهی خطبة حساسة: «أیُّها النَّاسُ إِنَّ دِماءَکُم وَأَموالَکُم وَأَعراضَکُم عَلَیکُم حَرامٌ کَحُرمَةِ یِومِکُم هذا فِی شِهْرِکُم هذا فِی بَلَدِکُم هذا إِنَّ اللّهَ حَرَّمَ الغِیبَةَ کَمَا حَرَّمَ المَالَ والدَّمَ» (1).

وکفی بقباحة الغیبة ما ورد فی الحدیث القدسی أنّ اللّه تبارک وتعالی أوحی إلی موسی بن عمران: «مَنْ ماتَ تَِائِباً مِنْ الغِیبَةِ فَهُوَ آخِرُ مَنْ یَدخُلُ الجَنَّةَ وَمَنْ مَاتَ مُصِراً عَلَیها فَهُوَ أَولُ مَنْ یَدخُلُ النَّارَ» (2).

وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله بهذا الشأن: «مَنْ مَشی فِی غِیبَةِ أَخِیهِ وَکَشَفَ عَورَتَهُ کَانَ أَولُ خُطوةٍ خَطَاهَا وَضَعَها فِی جَهَنَّمَ» (3).

ص:358


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 9/162. [1]
2- 2) جامع السعادات 3/302؛ [2]بحار الانوار 72/257. [3]
3- 3) جامع السعادات / 303. [4]

کما قال صلی الله علیه و آله: «مَا عَمَرَ مَجلِسٌ بِالغِیبَةِ إلّاخَرِبَ بِالدِّینِ» (1).

وکثیرة هی الأحادیث التی وردت بهذا الخصوص والتی لا یسع المجال ذکرها، ونکتفی هنا بذکر حدیث آخر عن الإمام الصادق علیه السلام: ونحیل من أراد المزید إلی المجلد الثالث من کتاب الأخلاق فی القرآن فی مبحث الغیبة وکتاب جامع السعادات المجلد الثانی والمجلد الثامن من وسائل الشیعة، حیث قال: «الغِیبَةُ حَرامٌ عَلَی کُلِّ مُسلِمٍ وَأَنَّها تَأکُلُ الحَسَناتِ کَمَا تَأکُلُ النَّارُالحَطَبَ» (2).

والحقیقة هی أنّ الإسلام یری حرمة ماء وجه المسلم والتی تعدل حرمة دمه، وقد اقترن العرض بالدم فی الروایات والأخبار الإسلامیة وبناءاً علی ما تقدم فانّ من إغتاب شخصاً آخر وانتهک حرمته الاجتماعیة وأراق ماء وجهه فکأنه قتله، ومن هنا تواترت الروایات التی أکدّت الثمن الباهض الذی سیدفعه صاحب الغیبة یوم القیامة وما سیؤخذ منه حسنات بسبب ما اقترف من غیبة فتضاف إلی حسنات من إغتابه، فانّ لم یکن له من حسنات، أخذت من سیئات من إغتابه وأضیفت إلی سیئات صاحب الغیبة.

نعم، الغیبة حق الناس علی غرار قتل النفس وجرح الأفراد، ولهذا فلو إلتفت المؤمنون إلی تبعات السیئة لهذه الذنوب والتی صورتها الروایات الإسلامیة لما سعی لمقارفة هذه السیئة، وهذا ما دفع بالإمام علیه السلام للإتیان بعدّة أدلة منطقیة لبیان الآثار السیئة لهذه السیئة وقد حذر الجمیع من مقارفتها، ویبدو بحث موضوع الغیبة من الأبحاث الواسعة کما صورها علماء الأخلاق ونکتفی هنا بذکر بعض الأمور بهذا الشأن:

1 - لابدّ أن نتّجه قبل کل شیء نحو دوافع الغیبة وذلک لأنّه یمکن الاستدلال علی قبح النتائج من خلال قبح الدوافع، فدافع الغیبة غالباً هوالحسد وحبّ الذات والغرور والتکبر والحقد والریاء وحبّ الدنیا والثأر والسخریة والاستهزاء بالآخرین وما شاکل ذلک، حیث یحاول الأفراد الملوثون بهذه الأمراض بلوغ أهدافهم السیئة عن طریق الغیبة وبالنظر إلی أنّ الداوفع المذکورة جمیعاً من الکبائر فانّه یمکن الوقوف علی قباحة الغیبة.

ص:359


1- 1) بحار الانوار 75/259.
2- 2) جامع السعادات 3/305. [1]

2 - إنّ أهم أرصدة المجتمع وسنده الأصل والذی من شأنه توحید الأفراد ویدفعهم باتّجاه الأهداف النبیلة هو الثقة المتبادلة وممّا لا یشک فیه أنّ أولی النتائج السیئة للغیبة تتمثل بالقضاء علی هذا السند، وذلک لأنّ کل فرد فی الغالب ینطوی علی عیب أو عیوب فانّ بقیت خفیة لن تنعکس سلباً علی الآخرین ویبقی التفاؤل ثقة الأفراد بعضهم بالبعض الآخر قائمة، أمّا کشف هذه العیوب عن طریق تحریها والبحث عنها وممارسة الغیبة وذم کل فرد آخر إنّما یحیل المجتمع إلی جهنم محرقة بحیث یسییء کل فرد الظن بالآخر وینفر منه، بالنتیجة تزعزع النظام العام للمجتمع وتعرّضه للقلق والاضطراب.

وبعبارة أخری کما یتهدد الأمن العام للمجتمع بفعل نهب الأموال وسفک دماء الأبریاء، فانّ سلب ماء الوجه وسرقته من الآخرین عن عن طریق الغیبة إنّما یشیع تلک الفوضی ویقضی علی الأمن، وذلک لأنّه کما ورد فی الروایة المذکورة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فانّ التعرض لحیثیات الآخرین بمثابة التعرض لأنفسهم وأموالهم، لا یمکن کتمان الغیبة عادة وتفشی علی صاحبها فتشتعل فیهم نیران الحقد والکراهیة، الحقد الذی یمهد السبیل أمام سفک الدماء وعظام المشاکل، والغیبة أحد أسباب إشاعة الفحشاء وعامل مهم من عوامل سوء الظن، إلی جانب کونها تجعل الآثم جریئاً فی ذنوبه، لأنّ المذنب الآثم یراعی عادة جانب الاحتیاط إن بقیت معصیته خفیة مستورة، فان هتکت زال حجاب الحیاء والخجل.

3 - الغیبة حق الناس، والمسألة المهمّة بشأن الغیبة أنّها لیست معصیة بین الإنسان وربّه تبارک وتعالی یمکن غسلها بماء الندم فتحصل التوبة، بل کما لا یمکن تلافی الخسائر الناجمة عن سفک الماء وغصب الأموال دون القصاص أو الدیة ودفع التعویضات المالیة، فانّه لا یمکن غفران إزالة ماء وجه الآخرین دون تعویض، سیّما إن توفی من أغتیب ولم یکن هناک من سبیل لمن إغتابه للوصول إلیه ولم یبق أمامه سوی الحساب والقیامة، یعنی حین لا یکون هنالک من سبیل للتعویض سوی إضافة حسناته إلی ذلک الفرد أو تقبل سیئاته، وهذه بحدّ ذاته مصیبة کبری.

ص:360

4 - إنّ أفضل علاج للغیبة یتمثل بما ذکره مولی الموحید أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی الکلام المذکور وقد لفت انتباه الإنسان إلی هذه الحقیقة وهی إن رأی الإنسان عیباً ومنقصة فی شخص آخر ولیس فیه مثلها، فقد وجب علیه شکر اللّه، الشکر الذی یصده عن تحری عیوب الآخرین، وإن قارف معصیة وقد إرتکبها مثله، فلا ینبغی له أن یتجاهل عیبه وینشغل بعیوب الآخرین، وإن إرتکب الصغیرة وجب علیه أن یفکر فی أنّ کبیرة غیره ربّما غفرت ولم یغفر له، بل جرأته علی تقصی عیوب الآخرین لأکبر من ذنونهم مهما کبرت.

أضف إلی ذلک فکما أنّ الأمراض البدنیة لن تعالج بصورة تامة ما لم تزول جذورها فانّ الأمراض الروحیة کالغیبة لابدّ من إقتلاع جذورها حتی تزول الرغبة فی مقارفتها.

5 - استماع الغیبة أحد الذنوب - کما سیأتی شرح ذلک فی الخطبة القادمة - ذلک لأنّ السامع شارک فی إراقة ماء وجه مسلم فهو شریک فی الجرم، سیّما إن إستمع مختاراً بما یجعله سبباً لتشجیع صاحبه الغیبة.

6 - لا یقتصر سبیل التوبة عن الغیبة علی الاستغفار، بل لابدّ من محاولة تعویض من أغتیب واُریق من ماء وجهه إلی جانبی الندم والتوسل إلی اللّه تعالی فی طلب العفو الرحمة، فان أمکن مناشدته إبراء الذمّة، وأمّا إن تعذّر ذلک بسبب ترتب مفسدة، أو توفی الشخص، فلابدّ من القیام بأعمال الخیر من أجله حتی یرضی، وکل هذه الأمور تشیر إلی مدی فضاعة الغیبة وصعوبة التخلص من تبعاتها، ومن أراد المزید بشأن المسائل المتعلقة بالغیبة ومن ذلک موارد الاستثناء علیه مراجعة الجلد الثالث من کتاب الأخلاق فی القرآن (1).

ص:361


1- 1) للمؤلف.

ص:362

الخطبة المأة والحادیة والأربعون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

فی النهی عن سماع الغیبة وفی الفرق بین الحقّ والباطل

نظرة إلی الخطبة

یبدو أنّ هذا الکلام مواصلة للخطبة السابقة، فقد ورد الحدیث فی الخطبة السابقة عن نهی الناس عن الغیبة، وجری الکلام هنا فی النهی عن سماع الغیبة، کما أکد علیه السلام عدم تصدیق کل ما یصدر من الشخص بهدف حفظ شخصیة الآخرین، فالخطأ جائز حتی علی الصادقین.

وإختتم علیه السلام الخطبة بوصیّة الجمیع بعدم تصدیق الشیء ما لم یره، فما أکثر الخطأ واللبس فی السماع.

ص:363


1- 1) سند الخطبة: نقلها القاضی القضاعی فی کتاب «دستور معالم الحکم» ، کما نقل جزءاً منها علی بن هذیل فی کتاب «عین الأدب والسیاسة» ، وکذلک المرحوم الصدوق فی «الخصال» وابن عبد ربه فی «العقد الفرید» ، (مصادر نهج البلاغة 2/315) [1]

ص:364

«أَیُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِیهِ وَثِیقَةَ دِینٍ وَسَدَادَ طَرِیقٍ، فَلَا یَسْمَعَنَّ فِیهِ أَقَاوِیلَ الرِّجَالِ. أَمَا إِنَّهُ قَدْ یَرْمِی الرَّامِی، وَتُخْطِئُ السِّهَامُ، وَیُحِیلُ ] [یُحیک] [ الْکَلَامُ، وَبَاطِلُ ذلِکَ یَبُورُ، وَاللّهُ سَمِیعٌ وَشَهِیدٌ. أَمَا إِنَّهُ لَیْسَ بَیْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ.

فَسُئِل، علیه السلام، عَن مَعْنی قولِهِ هذَا، فجمع أَصابِعَهُ وَوَضعهَا بین أُذُنِهِ وَعَیْنِهِ ثمَّ قَالَ: الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ: سَمِعْتُ، وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ: رَأَیْتُ!» .

الشرح والتفسیر

المسافة بین الحق الباطل

کما ورد سابقاً، یبدو أنّ هذا الکلام جزء من الخطبة السابقة فصلها عن بعضها المرحوم السید الرضی، وذکرها بصورة مستقلة، والواقع أنّ الهدف من الخطبتین واحد هو حفظ ماء الوجه وإشاعة أجواء الثقة بین أفراد المجتمع والابتعاد عن الآثار السیئة للغیبة وتحری العیوب.

فقد بیّن الإمام علیه السلام فی الخطبة السابقة طرق معالجة الغیبة، وسعی هنا للحد من الآثار الهدامة للغیبة أو القضاء علیها تماماً.

فقال بادیء ذی بدء: «أَیُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِیهِ وَثِیقَةَ دِینٍ وَسَدَادَ (1)طَرِیقٍ، فَلَا یَسْمَعَنَّ فِیهِ أَقَاوِیلَ الرِّجَالِ» .

فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام قد أبطل بهذه العبارة القصیرة ومن خلال عدّة طرق الآثار السیئة للغیبة فی المستمع، وأول تلک الطرق ما ورد فی العبارة المذکورة، لانّ الإنسان إن عرف

ص:365


1- 1) «سداد» : بمعنی الصحیح من الکلام والعمل وتستعمل هذه المفردة کمصدر واسم مصدر، ویبدو أنّها قریبةمن مادة سد بمعنی الجدار المحکم الذی یقام ضد السیول وما شابه ذلک، لأنّ للکلام الحق استحکام خاص.

أحداً بحسن السیرة والورع والتقوی کان علیه أن یوقن بخطأ ما یقال فیه من أمور مخالفة، لأنّ الموارد المشکوکة غالباً ما تحمل علی الموارد المعلومة وعلی حدّ التعبیر المشهور: «الظَّنُّ یَلحَقُ الشَّیءَ بِالأَعَمِّ الأغلَبِ» ، وبالطبع فانّ هذا الکلام لا یعنی قبولنا لغیبة الأفراد وتتبعهم لعورات الآخرین الذین لیس لهم من سابقة، بل الهدف مضاعفة التأکید بالنسبة للأفراد من ذوی السوابق الحسنة، بحیث لا ینبغی التصدیق مطلقاً بما یقال بشأن اُولئک.

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة أخری وهی لو فرضنا أنّ المتکلم کان صادقاً، ولکن من الموقن به أنّه لیس بمعصوم، وعلیه فالخطأ محتمل من جمیع الناس سوی المعصومین، وعلیه فلا ینبغی تصدیق المقابل بکل سهولة فی ما ینسبه إلی الآخرین، ناهیک عن عدم مطابقة الظن والحدس إلی الواقع علی الدوام، فقال: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ یَرْمِی الرَّامِی، وَتُخْطِئُ السِّهَامُ» ، أضف إلی ذلک وعلی ضوء کلام الإمام علیه السلام: « وَیُحِیلُ (1)] [یُحیک] [ الْکَلَامُ، وَبَاطِلُ ذلِکَ یَبُورُ (2)، وَاللّهُ سَمِیعٌ وَشَهِیدٌ» ، فی إشارة إلی أنّ أغلب الناس لا یلتزمون بکلام الحق ویتفوهون بکل ما یرد علی ألسنتهم، ومن هنا لا ینبغی قبول ما ینسبونه إلی الآخرین من عیوب، فقد یکون ذلک من الأقوال الباطلة التی تنسب إلی الأفراد دون تریث.

ثم أشار علیه السلام إلی نقطة مهمّة أخریس فقال: أَمَا إِنَّهُ لَیْسَ بَیْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ» .

وفی هذه الأثناء سأله أحد الحاضرین: «عَنْ مَعْنی قولِهِ هذَا، فجمع أَصابِعَهُ وَوَضعهَا بین أُذُنِهِ وَعَیْنِهِ ثمَّ قَالَ: الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ: سَمِعْتُ، وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ: رَأَیْتُ!» .

فالعبارة فی الواقع إشارة إلی الشائعات التی تتناقها الألسن فیطالعک هذا وذاک وهم یرددون یقال کذا ویقال کیت ولیس الأمر سوی شائعات لا أساس لها، وقد قال علیه السلام لا تلتفتوا إلی الشائعات ولا تنسبوا إلی الآخرین ما لا ترون، ومن هنا تتضح الإجابة علی السؤال الذی أورده أغلب شرّاح نهج البلاغة ومفاده: إنّ الآیات القرآنیة والوحی السماوی وسنّة النبی

ص:366


1- 1) «یحیل» : من مادة «إحالة» کل تغیر أو حرکة تخرج عن الحق والاستقامة وتحیل إلی الانحراف و الاعوجاح.
2- 2) «یبور» : من مادة «بوار» تعنی فی الأصل شدّة کساد الشیء وحیث یبعث ذلک علی الفساد حسبما ورد فی المثل کسد حیا فسد فقد اطلقت هذه المفردة علی الفساد ومن ثم الهلکة.

الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام کلها عن طریق السمع فکیف یحکم ببطلانها؟

فلیس مراد الإمام علیه السلام بطلان أخبار الثقاة والأحادیث المتواترة والمستفیضة التی وصلتنا عن طریق السمع، بل مراده ذلک المعنی العرفی والمتداول بشأن الشائعات، والشاهد علی ذلک ما روی عن الإمام الحسن المجتبی علیه السلام لما سئل: کم بین الحق والباطل؟ فقال علیه السلام: «أربع أصابع فما رأیته بعینک فهو الحق وقد تسمع باُذنیک باطلاً کثیراً» (1).

وزبدة الکلام لیس کل ما یراه الإنسان حق، وذلک لأنّ العین قد تخظیء أحیاناً، ولیس کل کما یسمعه باطل، وذلک لأنّ المتکلم قد یکون فرداً عادلاً وثقة، لکن قلیل هو الخطأ علی مستوی العین، أمّا الکلام الباطل عن طریق السمع فهو کثیر، وهذا ما أشارت إلیه العبارة الواردة عن الإمام علیه السلام.

ولعل هذا هو أنسب التفاسیر للعبارة المذکورة، بینما أورد البعض من شرّاح نهج البلاغة تفسیراً آخر خلاصته أنّ العبارة: «لیس بین الحق والباطل إلّاأربع أصابع» إشارة إلی العیوب التی تقال فی حق الأفراد، أغلب هذه العیوب ناشیء من سوء الظن وعدم التحقیق والحسد، والحقد والکراهیة وما شاکل ذلک، وعلیه فهناک الکثیر من الکذب والباطل فی هذه الأقوال، ولکن یمکن للإنسان القول بأنّ العیوب الفلانیة فی الشخص الفلانی إن رآها بعینه.

درس أخلاقی رفیع

لو وضع الناس نصب أعینهم واستحضروا علی الدوام وفی کل مکان عبارة الإمام علیه السلام لیس بین الحق ولباطل إلّاأربع أصابع وعملوا بها فی حیاتهم، قطعاً کل التفاؤل محل التشاؤم وحسن الظن بدل سوء الظن والثقة والاعتماد بدل عدمهما والمحبّة بدل البغض والکراهیة، وسوف تبهت الإشاعات ولا یکون لها ذلک الصدی والتأثیر وبالتالی سوف لن یبلغ أصحابها ما یرومونه من أهداف فلا یسود المجتمع سوی الحب والأخاء، والمؤسف له أنّ الشائعات فی

ص:367


1- 1) بحار الانوار 72/196. [1]

الوقت الحاضر قد جاوزت الأفراد لتطیل فئات البلاد وتجمعاته بحیث ألقت بظلالها الوخیمة علی جمیع أرجاء العالم وما ذلک إلی للغفلة عن الفارق بین الحق والباطل التی أشیر إلیها فی کلام الإمام علیه السلام، وإننا لنلمس الثمن الباهظ الذی یدفعه العالم بسبب عدم التزامه بهذا الأمر.

ص:368

الخطبة المأة والحادیة والأربعون

اشارة

(1)

ومِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

المعروف فی غیر أهله

نظرة إلی الخطبة

تدور هذه الخطبة حول محورین:

المحور الأول: یشرح النتائج السلبیة للمعروف والإحسان إلی غیر أهله.

والمحور الثانی: الموارد المؤهلة لأن یصنع الإنسان إلیها المعروف لینال من خلالها شرف الدنیا والفوز بفضائل الآخرة.

ص:369


1- 1) سند الخطبة: ذکرها المرحوم الکلینی فی کتاب «الکافی» (مصادر نهج البلاغة 2/302) ، [1] والمرحوم الشیخ المفید والشیخ الطوسی فی الآمالی وابن قتیبة فی کتاب «الإمامة والسیاسة» ، والجدیر بالذکر أنّه یستفاد من بعض المصادر المذکورة مثل کتب الکافی أنّ هذه الخطبة هی استمرار للخطبة 126 (مصادر نهج البلاغة 2/282 [2] بتصرف) .

ص:370

القسم الأول: المعروف فی موضعه

«وَلَیْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِی غَیْرِ حَقِّهِ، وَعِنْدَ غَیْرِ أَهْلِهِ، مِنَ الْحَظِّ فِیَما أَتَی إِلاَّ مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ، وَثَنَاءُ الْأَشْرَارِ، وَمَقَالَةُ الْجُهَّالِ، مَادَامَ مُنْعِماً عَلَیْهِمْ: مَا أَجْوَدَ یَدَهُ! وَهُوَ عَنْ ذَاتِ اللّهِ بَخِیلٌ!

مواضع المعروف

فَمَنْ آتَاهُ اللّهُ مَالاً فَلْیَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ، وَلْیُحْسِنْ مِنْهُ الضِّیَافَةَ، وَلْیَفُکَّ بِهِ الْأَسِیرَ وَالْعَانِیَ، وَلْیُعْطِ مِنْهُ الْفَقِیرَ وَالْغَارِمَ، وَلْیَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَی الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ، ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ، فَإِنَّ فَوْزاً بِهذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَکَارِمِ الدُّنْیَا، وَدَرْکُ فَضَائِلِ الْآخِرَةِ؛ إِنْ شَاءَ اللّهُ» .

الشرح والتفسیر

کما ورد سابقاً هذه الخطبة حسب بعض الروایات المعتبرة جزء من الخطبة رقم 126، والتی اعترض فیها بعض الجهّال علی الإمام علیه السلام بسبب تسویته بین الناس فی العطاء من بیت المال المسلمین، فکلّموه لم لا تزید فی عطاء أشراف القبائل لیطروه ویثنوا علیه ویقفوا إلی جانبه عند الشدائد، أمّا الإمام علیه السلام فقد وبّخهم فی هذه الخطبة فی أنّ البذل والعطاء فی غیر موضعه لا یوجب غضب اللّه وسخطه فحسب، بل به آثاره السلبیة حتی فی الدنیا أهونها ثناء الأشرار وإنسحاب الأخیار، فقال علیه السلام: «وَلَیْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِی غَیْرِ حَقِّهِ، وَعِنْدَ غَیْرِ أَهْلِهِ، مِنَ الْحَظِّ فِیَما أَتَی إِلاَّ مَحْمَدَةُ (1)اللِّئَامِ، وَثَنَاءُ الْأَشْرَارِ، وَمَقَالَةُ الْجُهَّالِ» .

ص:371


1- 1) «محمدة» : بمعنی الحمد والثناء وهو ضد الذم.

أضف إلی ذلک فانّ هذا المدح والثناء قائم مادام البذل والعطاء ومد ید الجود والسخاء، ولکن بمجرّد أن یقطع هذا البذل لا یبقی من أثر لذلک المدح ولاثناء، هذا فی الوقت الذی یکون فیه بخیلاً عن البذل فی سبیل اللّه تعالی: «مَادَامَ مُنْعِماً عَلَیْهِمْ: مَا أَجْوَدَ یَدَهُ! وَهُوَ عَنْ ذَاتِ اللّهِ بَخِیلٌ!» .

وقد جربنا کلام الإمام علیه السلام مراراً فی حیاتنا والذاکرة البشریة تحتفظ بالکثیر من ذلک طیلة التاریخ، فقد حفلت الدنیا بالأفراد المتکالبین علی الدنیا ممن تحکموا بثروات المجتمع وقد أغدقوها علی المتملقین من الأشرار ممن حولهم وبطانتهم وقد ولو ظهورهم بالمرّة عن معاناة المحرومین وآلام المساکین، فان دارت علیهم الدوائر وتنکرت لهم الدنیا، هب المحرومون للوقوف بوجههم ولم یکتف الأمر عند هذا الحدّ، بل تنکر لهم حتی أنصارهم من المتملقین وعرضوا لهم بالذم والتوبیخ، فلم یترکوهم وشأنهم فحسب، بل سارعوا للتمرد علیهم وأعدوا أنفسهم للإنسجام مع من یخلفونهم من الحکّام، وهذه هی عاقبة من ولی ظهره للحق تبارک وتعالی والخلق والتحق برکب النفعیین.

ورد فی الحدیث عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «مَنْ طَلَبَ مَحامِدَ النَّاسِ بِمعاصِی اللّهِ عادَ حامِدُهُ مِنهُم ذَامَّاً» (1)، وعن المفضل عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «إِذا أَرَدتَ أَنْ تَِعلَمَ إِلی خَیرٍ یَصیِیرُ الرَّجُلُ أَم إِلی شَرِّ؟ اُنظُر إِلی أَینَ یَضَعُ مَعرُوفَهُ؟ فَإنْ کَانَ یَضَعُ مَعرُوفَهُ عِندَ أَهلِهِ فاعلَم أَنَّهُ یَصِیرُ إِلی خَیرٍ وَإِنْ کَانَ یَضَعُ مَعرُوفَهُ عِندَ غَیرِ أَهلِهِ فاعلَم أَنَّهُ لَیسَ لَهُ فِی الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» (2).

ص:372


1- 1) بحار الانوار 74/178. [1]
2- 2) منهاج البراعة 7/439.

القسم الثانی

«فَمَنْ آتَاهُ اللّهُ مَالاً فَلْیَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ، وَلْیُحْسِنْ مِنْهُ الضِّیَافَةَ، وَلْیَفُکَّ بِهِ الْأَسِیرَ وَالْعَانِیَ، وَلْیُعْطِ مِنْهُ الْفَقِیرَ وَالْغَارِمَ، وَلْیَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَی الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ، ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ، فَإِنَّ فَوْزاً بِهذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَکَارِمِ الدُّنْیَا، وَدَرْکُ فَضَائِلِ الْآخِرَةِ؛ إِنْ شَاءَ اللّهُ» .

الشرح والتفسیر

عرض الإمام علیه السلام بالذم الشدید لصانع المعروف فی غیر أهله کما ورد ذلک فی المقطع الأول من الخطبة والذی کان یمثل الجانب السلبی من القضیة، أمّا فی هذا القسم فقد تعرض إلی جانبها الإیجابی فبیّن الموارد الطبیعة التی تستحق الانفاق والبذل والعطاء، حذراً من استغلال البعض لما مرّ معنا سابقاً فی العبارات، فیعتمد البخل وعدم الانفاق فقال: «فَمَنْ آتَاهُ اللّهُ مَالاً فَلْیَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ، وَلْیُحْسِنْ مِنْهُ الضِّیَافَةَ، وَلْیَفُکَّ بِهِ الْأَسِیرَ وَالْعَانِیَ (1)، وَلْیُعْطِ مِنْهُ الْفَقِیرَ وَالْغَارِمَ (2)» .

فقد أشار الإمام علیه السلام إلی ستة موارد للانفاق والبذل وفی مقدمتها القرابة من ذوی الحاجة، فمما لا شک فیه أنّ هؤلاء مقدمون علی غیرهم، وهذا ما ورد فی الخبر المروی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله أَیُّ الصَّدَقَةِ أَفضَلُ؟ فقال صلی الله علیه و آله: عَلَی ذِی الرَّحِمِ الکَاشِحِ» (3)، ثم رکز الإمام علی قضیة الضیافة وهی الأمر الذی یؤدّی إلی إشاعة أجواء المودّة

ص:373


1- 1) «العانی» : من ماد «عنی» بمعنی الشدّة والتعب، وعدها البعض من شرّاح نهج البلاغة [1]مرادفة لأسیر، ویبدوأنّ معناها واسع یشمل کل إنسان یعیش التعب والإرهاق.
2- 2) «الغارم» : من مادة «غرامة» من علیه الدیون.
3- 3) الکافی 4/10. [2]

والمحبّة بین الأصدقاء ویزیل الأحقاد، کما یوطد العلاقات العاطفیة والاجتماعیة وقد أولی الإسلام هذه المسألة الإنسانیة والأخلاقیة أهمیّة قصوی حتی ورد فی الخبر أنّ الإمام الصادق علیه السلام سأل أحد أصحابه: «أَتُحِبُّ إِخوانَکَ یا حُسَین؟ قُلتُ: نَعم، قَالَ: تَنفَعُ فُقَرائَهُم؟ قُلتُ: نَعم، قَالَ: إِنَّهُ یَحُقُّ عَلَیکَ أَنْ تُحِبَّ مَنْ یُحِبُّ اللّهَ، أَمَا وَاللّهِ لاتَنْفَعُ مِنهُم حَتّی تُحِبَّهُ، أَتَدعُوهُم إِلی مَنزِلِکَ؟ قُلتُ: نَعم، مَا أَکُلُ إِلّا وَمَعِی مِنْهُم الرَّجُلانِ والثَّلاثَة وَالأقَلُّ وَالأَکثَرُ، فَقالَ أَبُوعَبدِاللّهِ علیه السلام: أَمَ إنَّ فَضْلَهُم عَلَیکَ أَعظَمُ مِنْ فَضلِکَ عَلَیهِم، فَقُلتُ: فِداکَ أَطعِمُهُم طَعامِی وَأَوطِئُهم رَحلِی وَیَکُونُ عَلَیَّ فَضْلَهُم عَلَیَّ أَعظَمُ؟ قَالَ: نَعم، إِنَّهُم إِذا دَخَلُوا مَنزِلَکَ دَخَلُوا بِمَغفِرَتِکَ وَمَغفِرَةِ عِیالِکَ، وإِذا خَرَجُوا مِنْ مَنزِلِکَ خَرَجوا بِذُنُوبِکَ وَذُنُوبِ عِیالِکَ» (1).

ولمّا کان دفع الحقوق الواجبة والمستحبة وتعویض الخسائر شاقاً علی النفس فقد أکد الإمام علیه السلام علی الصبر والتحمل فقال: «وَلْیَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَی الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ (2)، ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ» .

وبناءاً علی هذا فالتعبیر بالحقوق یشمل الواجبة والمستحبة، والنوائب جمع نائبة والحادثة الألیمة، وتشیر هنا إلی جمیع الأمور التی تتضمن الخسارة المالیة، سواء کان من جانب ظلم الظلمة وحکّام الجور، أو الحوادث غیر المتوقعة التی تصیب الإنسان طیلة حیاته.

والعبارة «ابتغاء الثواب» إشارة إلی أنّ الصبر تجاه کل هذا البذل وصرفه فی الموارد المذکورة لابدّ أن یکون للّه تعالی لیحصل الأجر والثواب.

وإختتم کلامه بالإشارة إلی الآثار العظیمة لهذا البذل فقال علیه السلام: «فَإِنَّ فَوْزاً بِهذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَکَارِمِ الدُّنْیَا، وَدَرْکُ فَضَائِلِ الْآخِرَةِ؛ إِنْ شَاءَ اللّهُ» ، فالحقّ أنّ البذل فی الموارد الستة المذکورة یؤدّی إلی حسن سمعة الإنسان فی المجتمع، کما یوجب فوزه فی الحیاة الآخرة، وأفضل شاهد علی ذلک ما روی عن الإمام الحسین علیه السلام أنّه قال: «مَنْ جَادَ سَادَ» (3)، وقد أصبحت هذه

ص:374


1- 1) المصدر السابق 2/401، ح8. [1]
2- 2) «النوائب» : جمع «النائبة» تعنی الحوادث الألیمة التی تصیب الإنسان، ولکن فسّرها بعض أرباب اللغةبمطلق الحوادث سواء المطلوبة منها أو غیر مطلوبة.
3- 3) کشف الغمة 2/242. [2]

العبارة مثل یضرب لتأکید المعنی المذکور، وکذلک ما روی عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال: «وَأَحسن إلی مَنْ شِئتَ تَکُنْ أَمِیرَهُ» (1)، بل یؤید ذلک ما نلمسه فی حیاتنا الیومیة، وهذا علی مستوی الدنیا.

أمّا من حیث الآخرة فانّ البذل من أهم أسباب النجاة ولاسیّما إعانة المحتاجین، فقد قال الإمام الصادق علیه السلام: «أَوَّلُ مَنْ یَدخُلُ الجَنَّةَ المَعرُوفُ» (2).

والتعبیر ب «فوزاً» بصیغة النکرة یفید حقیقة فی أنّ هذا البذل وإن کان قلیلاً فانّه یوجب عزّة الدنیا ورفعة الآخرة.

ص:375


1- 1) الإرشاد 1/303؛ [1] وبحار الانوار 74/433.
2- 2) میزان الحکمة، 12611.

ص:376

الخطبة المأة والثلاثة والاربعون

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطبَةٍ لهُ علیه السلام

فی الاستسقاء

وفیه تنبیه العباد علی وجوب استغاثة رحمة اللّه إذا حبس عنهم رحمة المطر

نظرة إلی الخطبة

الخطبة کما ورد فی عنوانها بشأن الاستسقاء والتضرع إلی اللّه سبحانه فی طلب نزول الأمطار، وهی الخطبة الثانیة من خطب نهج البلاغة فی باب الاستسقاء (الخطبة الاُولی رقم 155) ، وتتألف هذه الخطبة فی الواقع من ثلاثة أقسام:

القسم الأول: یشیر إلی هذه الحقیقة فی أنّ السماء والأرض مطیعة لأمر اللّه فان شاء أخرج برکاتهما إلی الناس، وبناءاً علی هذا فانّ الذی ینبغی التوجه إلی قبل عالم الأسباب هو ذات مسبب الأسباب.

القسم الثانی: ناظر إلی هذا المطلب وهو أنّ أعمال السوء والذنوب والمعاصی تؤدّی إلی إغلاق أبواب الخیر والبرکة بأمر اللّه تبارک وتعالی، ومفاتحها الاستغفار من الذنوب والإنابة إلی اللّه تعالی.

ص:377


1- 1) سند الخطبة: وردت هذه الخطبة حسب تصریح صاحب مصادر نهج البلاغة فی کتاب «أعلام النبوة» للدیلمی عن الإمام الصادق علیه السلام عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام، وفی «النهایة» لابن الأثیر فی مادة بطن بمناسبة المفردة بطنان التی وردت فی آخر الخطبة، (مصادر نهج البلاغة 2/319) کما وردت فی بحار الانوار، ج88 عن «أعلام» النبوة للدیلمی، لکن لم یتضح علی وجه الدقة فی أی قرن عاش الدیلمی مؤلف الکتاب.

القسم الثالث: یعرض إلی رفع الإمام علیه السلام یده بالتوسل إلی اللّه سبحانه فی مراسم صلاة الاستسقاء حیث یطلب نزول المطر بعبارات دقیقة رائعة عمیقة المعنی، والأمطار المفعمة بالبرکة والتی تروی الأرض وتسقی الأشجار والثمار وتسرّ الناس.

ص:378

القسم الأول: درس فی التوحید والأخلاق

«أَلَا وَإِنَّ الْأَرْضَ الَّتِی تُقِلُّکُمْ تحملکم، وَالسَّمَاءَ الَّتِی تُظِلُّکُمْ مُطِیعَتَانِ لِرَبِّکُمْ، وَمَا أَصْبَحَتَا تَجُودَانِ لَکُمْ بِبَرَکَتِهِمَا تَوَجُّعاً لَکُمْ، وَلَا زُلْفَةً إِلَیْکُمْ، وَلَا لِخَیْرٍ تَرْجُوَانِهِ مِنْکُمْ، وَلکِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِکُمْ فَأَطَاعَتَا، وَأُقِیمَتَا عَلَی حُدُودِ مَصَالِحِکُمْ فَقَامَتَا» .

الشرح والتفسیر

من الوصایا الإسلامیة التی وردت بصورة موسعة فی الکتب الفقهیة الوصیّة بصلاة الاستسقاء، حیث یقبل فیها الناس علی اللّه تبارک وتعالی ویتوبون إلیه من ذنوبهم معاصیهم ویسألونه نزول المطر، وقد حدث هذا الأمر کراراً ومراراً فی الإتیان بهذه الصلاة ونزول الرحمة الإلهیّة، ویبدو أنّ الإمام علیه السلام قد دعی الناس حین الاستسقاء، ومن هنا فقد خطب بهذه الخطبة الملیئة بدروس التوحید والتهذیب والتربیة، فقد قال علیه السلام بادیء الأمر بهدف إعداد الناس وإحیاء روح التوحید فیهم والتوجه إلی اللّه تعالی الذی یمثل مصدر الخیر والبرکة والعطاء: «أَلَا وَإِنَّ الْأَرْضَ الَّتِی تُقِلُّکُمْ (1)تحملکم، وَالسَّمَاءَ الَّتِی تُظِلُّکُمْ مُطِیعَتَانِ لِرَبِّکُمْ» .

ثم قال علیه السلام: «وَمَا أَصْبَحَتَا تَجُودَانِ لَکُمْ بِبَرَکَتِهِمَا تَوَجُّعاً لَکُمْ، وَلَا زُلْفَةً إِلَیْکُمْ، وَلَا لِخَیْرٍ تَرْجُوَانِهِ مِنْکُمْ، وَلکِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِکُمْ فَأَطَاعَتَا، وَأُقِیمَتَا عَلَی حُدُودِ مَصَالِحِکُمْ فَقَامَتَا» ، والتعبیر بالسماء إشارة إلی الغیوم المحلیة، لأنّ العرب تستعمل السماء بمعنی الجانب العلوی،

ص:379


1- 1) «تقلکم» : من مادة «اقلال» بمعنی حمل الشیء وأخذه، ولمّا کان الإنسان یعیش علی الأرض فکأنّها تحمله علی أکتافها، وقد وردت تحملکم بدلاً من تقلکم فی أغلب شروح نهج البلاغة والتی تفید نفس المعنی.

فتطلقه أحیاناً علی موضع النجوم فتقول نجوم السماء، وتطلقه أحیاناً أخری علی موضع الشمس والقمر، وأخیراً علی موضع السحب والغیوم وحتی الموضع الذی یضم الغصون المرتفعة للأشجار، ومن ذلک الآیة القرآنیة: «أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِی السَّمَاءِ» (1).

هذا الکلام یشتمل علی درس مهم فی التوحید والأخلاق، فقد قال الإمام علیه السلام من جانب أنّ اللّه أمر السماء والأرض بمنافعکم، وکأنّ السماء أشبه بالأب والأرض بالاُم اللذان یتحدان لتزوید الإنسان بما یحتاجه من غذاء وشراب ولباس ودواء ومرکب دون التمییز بین المطیع والعاصی والمؤمن والکافر، لأنّهما مظهر رحمانیة الحق.

الطریف فی الأمر أنّ المائدة الإلهیّة لا تنضب فالأجیال متعاقبة فی الذهاب والإیاب وهما قائمان علی خدمتهم، ومن جانب آخر فانّ السماء والأرض ورغم تقدیمها لکل هذه الخدمات فهما لا یرحوان أی عوض من الإنسان، بل یخدمان بکل إخلاص، وهذا درس مهم للإنسان یشدّه إلی خدمة الآخرین بعیداً عن الأجر والثواب.

ص:380


1- 1) سورة ابراهیم / 24. [1]

القسم الثانی: الذنب وقلّة البرکة

اشارة

«إِنَّ اللّهَ یَبْتَلِی عِبَادَهُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ السَّیِّئَةِ بِنَقْصِ الَّثمَرَاتِ، وَحَبْسِ الْبَرَکَاتِ، وَإِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَیْرَاتِ، لِیَتُوبَ تَائِبٌ، وَیُقْلِعَ مُقْلِعٌ، وَیَتَذَکَّرَ مُتَذَکِّرٌ، وَیَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ. وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ الاِسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ الرِّزْقِ وَرَحْمَةِ الْخَلْقِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ غَفَّاراً. یُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَیْکُمْ مِدْرَاراً. وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ وَیَجْعَلْ لَکُمْ جَنَّاتٍ وَیَجْعَلْ لَکُمْ أَنْهَاراً) فَرَحِمَ اللّهُ امْرَءاً اسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ، وَاسْتَقَالَ خَطِیئَتَهُ، وَبَادَرَ مَنِیَّتَهُ!» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی نقطة مهمّة من أجل إعداد الناس لصلاة الاستسقاء فقال: «إِنَّ اللّهَ یَبْتَلِی عِبَادَهُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ السَّیِّئَةِ بِنَقْصِ الَّثمَرَاتِ، وَحَبْسِ الْبَرَکَاتِ، وَإِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَیْرَاتِ، لِیَتُوبَ تَائِبٌ، وَیُقْلِعَ مُقْلِعٌ، وَیَتَذَکَّرَ مُتَذَکِّرٌ، وَیَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ» .

ثم إعتمد الإمام علیه السلام بعد ذلک أسلوب الطبیب الماهر الذی یصف العلاج بعد تشخیص المرض فقال: «وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ الاِسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ (1)الرِّزْقِ وَرَحْمَةِ الْخَلْقِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ غَفَّاراً. یُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَیْکُمْ مِدْرَاراً. وَیُمْدِدْکُمْ

ص:381


1- 1) «درور» : من مادة «درّ» علی وزن جرّ بمعنی تقاطر الحلیب من الثدی، ثم استعملت فی المطر وأمثاله، و «درور الرزق» بمعنی نزول الرزق من اللّه تعالی.

بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ وَیَجْعَلْ لَکُمْ جَنَّاتٍ وَیَجْعَلْ لَکُمْ أَنْهَاراً»» .

وأخیراً یخلص إلی نتیجة: «فَرَحِمَ اللّهُ امْرَءاً اسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ، وَاسْتَقَالَ (1)خَطِیئَتَهُ، وَبَادَرَ مَنِیَّتَهُ!» . نعم، حین تغلق أبواب الرحمة الإلهیّة بفعل کثرة الذنوب فلیس هنالک من سبیل لفتحها سوی الاستغفار والتوبة والنصوح.

والجدیر بالذکر أنّ الإمام علیه السلام وبهدف إثبات هذا الأمر قد استدلّ بأنسب أیة قرآنیة، وهی الآیة التی وردت علی لسان نبی اللّه نوح علیه السلام حین خاطب قومه باستغفار اللّه والتوبة إلیه والذی یؤدّی إلی نزول البرکات والخیرات ومضاعفة الأرصدة المادیة والمعنویة وتقویة الوجود الإنسانی وتحسین الأوضاع الاقتصادیة والزراعیة.

والعبارة وَبَادَرَ مَنِیَّتَهُ!» ، إشارة إلی أنّ التوبة لا تقتصر علی بلوغ الرفاه المادی فی الحیاة الدنیا، بل الهدف الأهم من ذلک النجاة فی الآخرة، وذلک لأنّ الموت إن سبق التوبة فلا سبیل للتدارک، وإن کان العکس وسبقت التوبة والأعمال الصالحة الموت، کان مفتاح النجاة بیده فی الدار الآخرة.

جانب من فلسفة البلاء

لقد قیل الکثیر فی فلسفة البلاء، والذی یستفاد من أغلب الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة هو أنّ الذنوب والمعاصی تشکل أحد علل الآفات والحوداث الصعبة فی الحیاة البشریة، حیث تحدث عدّة آیات عن التلازم بین هذین الأمرین، بل یستفاد من بعض الروایات والأخبار الترابط الوثیق بین نوع الذنب والبلاء الذی یترتب علیه، علی سبیل المثال فانّ الزنا وعدم العفة وشرب الخمر والتطفیف والربا وقطع الرحم کل ذلک یؤدّی إلی سلب نعمة معینة کما أشار إلی ذلک الحدیث النبوی الشریف، من ذلک روی أبی حمزة عن الإمام الباقر أنّه قال: «وَجَدنا فِی کِتَابِ رَسُولِ اللّهِ صلی الله علیه و آله: إِذا ظَهَرَ الزِّنا مِنْ بَعدِی کَثُرَ مَوتُ

ص:382


1- 1) «استقال» : من مادة «إستقالة» بمعنی معونة من وقع علی الأرض للقیام، ثم اطلقت علی فسخ المعاملة أوطلب العفو علی الذنب.

الفُجأة، وإِذا وإِذا طَففَ المِکیالَ وَالمَیزانَ أَخَذَهُم اللّهُ بِالسِّنِینِ وَالنَّقصِ إِذا مَنَعُوا الزَّکاةَ مَنَعَتْ الأِضُ بَرَکَتَها مِنَ الزَّرعِ وَالثِّمارِ وَالمَعادِنِ کُلُّها، إِذا جَارُوا فِی الأحکَامِ تَعاونُوا عَلَی الظُّلمِ والعُدوانِ، إِذا نَقَضُوا العَهدَ سَلَّطَ اللّهُ عَلَیهِم عَدُوَّهُم، إِذا قَطَعُوا الأَرحامَ جُعِلتْ الأَموالُ فِی أَیدِی الأشرارِ إِذا لَم یَأمرُوا بالمَعرُوفِ وَلم یَنهُوا عَنِ المُنکَرِ وَلَم یَتَّبِعُوا الأخیارَ مِن أَهلِ بَیتِی سَلَّطَ اللّهُ عَلَیهِم شِرارَهمُ فَیَدعُوا خِیارهُم فَلا یُستَجابُ لَهُم» (1)

والدلیل العقلی یؤکد هذا الأمر علی أنّ هناک إرتباط بین الذنب وقطع النعم، فالفیض اللّه یتوقف علی الاستعداد والاستحقاق، فان قارف الإنسان الذنب وأفضح عن عدم استعداده کان من الطبیعی أن یقطع عن نفسه الفیض الإلهی.

أضف إلی ذلک فالذی یستفاد من الآیات القرآنیة أنّ هناک هدفاً مهمّاً آخر یتمثل بایقاظ الغافلین وإعادتهم إلی اللّه تبارک وتعالی، حتی صرّحت بعض الآیات بأنّ البلاء یعمّ الأقوام المشرکة حین بعث الأنبیاء والرسل لهدایتها من أجل تمهید السبیل أمامهم لقبول الدعوة ومن ذلک الآیة 94 من سورة الأعراف التی قالت: «وَمَا أَرْسَلْنَا فِی قَرْیَةٍ مِنْ نَبِیٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ یَضَّرَّعُونَ» .

وهکذا فانّ القضیة التربویة تشکل أحد الأهداف المهمّة للبلاء والحوداث الألیمة، علی کل حال فانّ مفتاح الأبواب الموصدة وإخماد جذوة أمواج البلاء إنّما یکمن فی العودة إلی اللّه سبحانه کما صرّح بذلک القرآن الکریم إذ قال: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَی آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَیْهِمْ بَرَکَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَکِنْ کَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا کَانُوا یَکْسِبُونَ» (2).

وهکذا سائر الآیات، وورد فی الخبر أنّ شخصاً قال لأمیرالمؤمنین علی علیه السلام لقد أسرفت فی المعاصی فادعوا اللّه أن یغفر لی، قال علی علیه السلام: علیک بالاستغفار، وقال الآخر: مزارعنا تشکو من قلّة الماء، فادعوا اللّه أن یرسل علینا المطر، فقال علیه السلام: علیک بالاستغفار، وشکی الثالث من الفقر فأشار علیه الإمام علیه السلام بالاستغفار، وشکی الرابع العقم وکان له مال کثیر فأشار علیه الإمام بالاستغفار، وشکی له الخامس من قلّة ثمار البستان فنصحه علیه السلام بالاستغفار، وشکی

ص:383


1- 1) الکافی 2/374، ح2. [1]
2- 2) سورة الأعراف / 96. [2]

السادس من جفاف الآبار وعیون الماء فقال له علیه السلام علیک بالاستغفار، فتعجب ابن عباس من إشارته علی الجمیع بالاستغفار وقد کان لکل مشکلته التی تختلف عن غیره، فقال علیه السلام أولم تسمع إلی القرآن والآیات 10، 11، 12 من سورة نوح إذ قال: «وَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَی الطَّرِیقَةِ لَأَسْقَیْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ غَفَّاراً * یُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَیْکُمْ مِدْرَاراً * وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ وَیَجْعَلْ لَکُمْ جَنَّاتٍ وَیَجْعَلْ لَکُمْ أَنْهَاراً» (1).

ص:384


1- 1) تفسیر نهج الصادقین 10/19 (بتصرف، وقد ورد هذا الحدیث بصورة مختصرة عن الإمام المجتبی علیه السلام) (مجمع البیان 10/361) .

القسم الثالث: إلهی أمطرنا مطراً مبارکاً

اشارة

«اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَیْکَ مِنْ تَحْتِ الْأَسْتَارِ وَالْأَکْنَانِ، وَبَعْدَ عَجِیجِ الْبَهَائِمِ وَالْوِلْدَانِ، رَاغِبِینَ فِی رَحْمَتِکَ، وَرَاجِینَ فَضْلَ نِعْمَتِکَ، وَخَائِفِینَ مِنْ عَذَابِکَ وَنِقْمَتِکَ. اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا غَیْثَکَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِینَ، وَلَا تُهْلِکْنَا بِالسِّنِینَ، وَلَا تُؤَاخِذْنَا (بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) یَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِینَ. اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَیْکَ نَشْکُو إِلَیْکَ مَا لَایَخْفَی عَلَیْکَ، حِینَ أَلْجَأَتْنَا الْمَضَایِقُ الْوَعْرَةُ، وَأَجَاءَتْنَا الْمَقَاحِطُ الُْمجْدِبَةُ، وَأَعْیَتْنَا الْمَطَالِبُ الْمُتَعَسِّرَةُ، وَتَلَاحَمَتْ عَلَیْنَا الْفِتَنُ المحن الْمُسْتَصْعِبَةُ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُکَ أَلاَّ تَرُدَّنَا خَائِبِینَ، وَلَا تَقْلِبَنَا وَاجِمِینَ، وَلَا تُخَاطِبَنَا بِذُنُوبِنَا، وَلَا تُقَایِسَنَا تناقشنا بِأَعْمَالِنَا. اللَّهُمَّ انْشُرْ عَلَیْنَا غَیْثَکَ وَبَرَکَتَکَ، وَرِزْقَکَ وَرَحْمَتَکَ؛ وَاسْقِنَا سُقْیَا نَاقِعَةً نافعة مُرْوِیَةً مُعْشِبَةً، تُنْبِتُ بِهَا مَا قَدْ فَاتَ، وَتُحْیِی بِهَا مَا قَد مَاتَ. نَافِعَةَ الْحَیَا، کَثِیرَةَ الُْمجْتَنَی، تُرْوِی بِهَا الْقِیعَانَ، وَتُسِیلُ الْبُطْنَانَ، وَتَسْتَوْرِقُ الْأَشْجَارَ، وَتُرْخِصُ الْأَسْعَارَ؛ «إِنَّکَ عَلَی مَا تَشَاءُ قَدِیرٌ»» .

الشرح والتفسیر

بعد أن مهد الإمام علیه السلام قلوب الناس ودعاهم إلی التوبة من الذنوب والإنابة إلی اللّه سبحانه فی هذه الخطبة التی خطبها بمناسبة صلاة الاستستقاء، إلتفت إلی الحق تبارک وتعالی فتوسل إلیه بعبارات وهو یسأله اللطف والرحمة، کما فرض عدّة مطالب من خلال خمس عبارات یستهلها بالقول اللّهم، فقد قال بادیء ذی بدء: «اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَیْکَ مِنْ تَحْتِ الْأَسْتَارِ

ص:385

وَالْأَکْنَانِ (1)، وَبَعْدَ عَجِیجِ الْبَهَائِمِ وَالْوِلْدَانِ، رَاغِبِینَ فِی رَحْمَتِکَ، وَرَاجِینَ فَضْلَ نِعْمَتِکَ، وَخَائِفِینَ مِنْ عَذَابِکَ وَنِقْمَتِکَ» .

إشارة إلی أنّ خروجنا من المنازل وقدومنا إلی الصحراء من أجل أداء صلاة الاستسقاء دلیل علی إسرافنا علی أنفسنا، فان کنّا من عبادک الخاطئین فما ذنب هذه الماشیة والأطفال العطاشی، ولیس لنا من دافع فی هذا الخروج سوی طلب رحمتک وفضلک وکرمک وقد أقبلنا علیک وأتینا إلیک واستجرنا بک من عذابک وعقوبتک، وقد صرّحت الروایات الإسلامیة الواردة فی باب آداب صلاة الاستستقاء بحمل حتی الرضع من الأطفال والهیم العطاشی إلی الصحراء، بل وردت الوصیّة بتفریق الأطفال عن اُمهاتهم لترق القلوب لبکاء الأطفال ویزداد الإقبال علی اللّه تبارک وتعالی (2).

ولا یخفی ما لهذا المنظر من عظیم الأثر فی إثارة عواطف الناس وحضور قلوبهم وجریان دموعهم والذی یؤدّی إلی استجابة الدعاء، إلی جانب کونه سبب المزید من لطف اللّه ورحمته.

ثم طرح طلبه الرئیسی فقال علیه السلام: «اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا غَیْثَکَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِینَ، وَلَا تُهْلِکْنَا بِالسِّنِینَ (3)، وَلَا تُؤَاخِذْنَا «بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا» یَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِینَ» ، أی وإن فعل فریق من الجهّال ما یوجب قطع الفیض الإلهی عنهم، ولکن عاملنا بکرمک وفضلک ولا تعاملنا بعدلک، فلا طاقة لنا بعدلک ولیس لنا سوی عفوک ورحمتک، ولما کان شرط استجابة الدعاء فی إذعان الفرد بعجزه وأنّ اللّه علی کل شیء قدیر فقد قال علیه السلام: «اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَیْکَ نَشْکُو إِلَیْکَ مَا لَایَخْفَی عَلَیْکَ، حِینَ أَلْجَأَتْنَا الْمَضَایِقُ الْوَعْرَةُ (4)، وَأَجَاءَتْنَا (5)الْمَقَاحِطُ (6)الُْمجْدِبَةُ (7)، وَأَعْیَتْنَا الْمَطَالِبُ الْمُتَعَسِّرَةُ، وَتَلَاحَمَتْ (8)عَلَیْنَا الْفِتَنُ المحن الْمُسْتَصْعِبَةُ» .

ص:386


1- 1) «الأکنان» : جمع «کن» علی وزن «جن» بمعنی واسطة الحفظ والصون ومن هنا تطلق الأکنان علی الغیران.
2- 2) راجع الخطبة 155 بشأن آداب صلاة الاستستقاء.
3- 3) «السنین» : جمع «سنة» وإن استعملت مع مفردة الهلکة أو الأخذ عنت الجدب والقحط.
4- 4) «الوعرة» : بالتسکین کنایة عن صعوبة الحیاة.
5- 5) «أجاءت» : من مادة «مجییء» من باب إفعال بمعنی ألجأته.
6- 6) «مقاحط» : جمع «مقحطة» من مادة «قحط» بمعنی سنین الجدب.
7- 7) «مجدیة» : من مادة «جدب» علی وزن جعل قلّة النعمة، وعلیه المجدبة تطلق علی السنین التی یعانی فیهاالناس من الشدّة فی غ أرزاقهم.
8- 8) «تلاحمت» : من مادة «تلاحم» بمعنی الاتصال.

فقد أشار الإمام علیه السلام بهذه العبارات إلی مسألة وهی إننا إن عددنا حاجاتنا ومشاکلنا الواحدة بعد الأخری لا علی أساس إنّک لا تعلمها، بل لأنّک تحبّ أن یطرح العباد مشاکلهم بألسنتهم ویقرون بعجزهم وسعة حاجاتهم، ثم أشار إلی أربع مشاکل تشترک مع بعضها من جهات وتشترک فی أخری وهی: صعوبات الحیاة والجدب والقحط و الرغبات التی یتعذر نیلها فی الشرائط العادیة، وأخیراً الفتن الصعبة والمزعجة، وهی المشاکل التی لا یرجی حلّها إلّا من اللّه تبارک وتعالی، ورد فی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «إِنَّ اللّهَ یَعْلَمُ حَاجَتَکَ وَما تُریدُ وَلَکِنَّهُ یُحِبُّ أَن تَبُثَّ إِلَیهِ الحَوائِجَ» (1).

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُکَ أَلاَّ تَرُدَّنَا خَائِبِینَ، وَلَا تَقْلِبَنَا وَاجِمِینَ (2)، وَلَا تُخَاطِبَنَا بِذُنُوبِنَا، وَلَا تُقَایِسَنَا تناقشنا بِأَعْمَالِنَا» .

فلیس هنالک من سبیل للنجاة إن عاملتنا علی أساس أعمالنا، فنسألک أن بحملنا علی لطفک وکرمک وألّا نرجع خائبین من بابک، والطبع فانّ هذه الأدعیة وإن اشتملت علی الطلبات المؤکدة من اللّه تبارک وتعالی، فهی تنطوی علی الدروس العمیقة المعنی للسامعین لیقضوا علی آثار ذنوبهم وشناعة أعمالهم فیسارعوا لإصلاح أنفسهم، وتشتمل أغلب الأدعیة التی تردنا عن المعصومین علیه السلام علی هذه الأمور التربویة.

وأخیراً طرح طلبه النهائی قائلاً: «اللَّهُمَّ انْشُرْ عَلَیْنَا غَیْثَکَ وَبَرَکَتَکَ، وَرِزْقَکَ وَرَحْمَتَکَ؛ وَاسْقِنَا سُقْیَا نَاقِعَةً نافعة مُرْوِیَةً مُعْشِبَةً (3)، تُنْبِتُ بِهَا مَا قَدْ فَاتَ، وَتُحْیِی بِهَا مَا قَد مَاتَ. نَافِعَةَ الْحَیَا (4)، کَثِیرَةَ الُْمجْتَنَی، تُرْوِی بِهَا الْقِیعَانَ (5)، وَتُسِیلُ الْبُطْنَانَ، وَتَسْتَوْرِقُ الْأَشْجَارَ، وَتُرْخِصُ الْأَسْعَارَ؛ «إِنَّکَ عَلَی مَا تَشَاءُ قَدِیرٌ» (6).

ص:387


1- 1) فی ظلال نهج البلاغة 2/319. [1]
2- 2) «واجم» : من مادة «وجم» علی وزن نجم من اشتد حزنه حتی أمسک عن الکلام.
3- 3) «معشبة» : من مادة «عشب» علی وزن شرف نمو النبات.
4- 4) «الحیا» : بمعنی المطر ووفرة النعمة.
5- 5) «القیعان» : جمع «قاع وقاعة» الأرض السهلة الواسعة کما تطلق أحیاناً علی الأرض التی تتجمع فیها المیاه.
6- 6) والجدیر بالذکر قد نزلت الآن (حین کتابتی لهذه السطور فی العاشر من رمضان عام 1423 ه) أمطار مفعمة بالبرکة والخیر بعد جفاف طویل، ویبدو أنّ هذا المطر ینطوی إن شاء اللّه تعالی علی جمیع الصفات التی ذکرها الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة.

سل اللّه کل شیء

تحدثنا باسهاب فی ذیل الخطبة 155 عن صلاة الاستسقاء وآدابها، ونخوض هنا فی الإجابة عن سؤال وهو لم شرح الإمام علیه السلام الصفات المذکورة فی المطر حین استغاثته باللّه سبحانه فی نزوله (حیث ذکر فی هذه الخطبة تسع صفات وفی الخطبة السابقة عشرین صفة) والحال اللّه علیم بکل هذه الصفات ولا داعی من شرحها؟

وللإجابة عن هذا السؤال لابدّ من الالتفات إلی أنّ شرح الطلبات بجمیع جزئیاتها وبالنظر إلی طلب الحاجات من اللّه تعالی، تفید هذا المعنی وهو ضرورة سؤال الناس من اللّه عزّ اسمه عن جمیع وحاجاتهم وطلباتهم، وذلک لأنّ هذه الأدعیة تفید مدی حاجة الناس، وهذا بدوره یضاعف من عشق الناس للّه سبحانه، ومن جانب أخر لابدّ أن یعلموا کم هو حیوی المطر النافع وأی برکات وخیرات فیه.

ص:388

الخطبة المأة والرابعة والاربعون

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطبَةٍ لهُ علیه السلام

مبعث الرسل

نظرة إلی الخطبة

تحدث الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة عن ثلاثة محاور هی:

المحور الأول: الذی بیّن فیه بعض الأمورالمهمّة بشأن مبعث الأنبیاء ورسالاتهم.

المحور الثانی: الذی تطرق فیه إلی فضائل أهل البیت علیه السلام وأفضلیتهم علی من سواهم.

المحور الثالث: الذی یتضمن إشارات عمیقة المعنی إلی نهج الضالین وعاقبة أمرهم

ص:389


1- 1) سند الخطبة: أورد الآمدی جانباً من هذه الخطبة فی کتابه «غرر الحکم» وفیها إضافات لما فی نهج البلاغة مما یدلّ علی أنّه استقاها من مصدر أخر غیر نهج البلاغة (مصادر نهج البلاغة 2/322) .

ص:390

القسم الأول: فلسفة الإمتحان الإلهی

«بَعَثَ اللّهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْیِهِ، وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَی خَلْقِهِ، لِئَلَّا تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْکِ الْإِعْذَارِ إِلَیْهِمْ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَی سَبِیلِ الْحَقِّ. أَلَا إِنَّ اللّهَ تَعَالَی قَدْ کَشَفَ الْخَلْقَ کَشْفَةً؛ لَاأَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ وَمَکْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ؛ وَلکِنْ «لِیَبْلُوَهُمْ أَیُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» فَیَکُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً، وَالْعِقَابُ بَوَاءً» .

الشرح والتفسیر

یعتقد جمع من شرّاح نهج البلاغة أنّ دافع الإمام علیه السلام من هذه الخطبة بیان الرد القاطع علی المغرضین الذین ینکرون فضائل الإمام علیه السلام، والطبع فانّ جانباً من الخطبة قد عالج هذا الأمر، وإن إشتملت سائر الأقسام علی إبعاد کلیة.

وعلی کل حال فقد أشار الإمام علیه السلام فی المقطع الأول من هذه الخطبة إلی أمرین: هما فلسفة بعثة الأنبیاء وفلسفة الامتحان الإلهی، فقال علیه السلام: «بَعَثَ اللّهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْیِهِ، وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَی خَلْقِهِ، لِئَلَّا تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْکِ الْإِعْذَارِ (1)إِلَیْهِمْ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَی سَبِیلِ الْحَقِّ» .

فهذه العبارة تشیر إلی نقطة مهمّة وردت کراراً فی الآیات القرآنیة وهی عدم مؤاخذة اللّه سبحانه العباد دون بعث الرسل وإبلاغهم أوامره ونواهیه سبحانه عن طریق الوحی، فقد جاء

ص:391


1- 1) «الاعذار» : مصدر باب إفعال من مادة «عذر» بمعنی إتمام الحجة.

فی الآیة 15 و16 من سورة الاسراء: «وَمَا کُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّی نَبْعَثَ رَسُولاً * وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِکَ قَرْیَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِیهَا فَفَسَقُوا فِیهَا فَحَقَّ عَلَیْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِیراً» ، هنا یطرح هذا السؤال وهو عدم انسجام ما ورد فی هذه الخطبة والآیات القرآنیة الواردة بهذا الشأن ومبدأ استقلال حکم القتل، فالحجة تتم علی الإنسان من خلال العقل الذی یحکم بحسن وقبح الأشیاء (کإدراکه لحسن العدل وقبح الظلم) وعلیه فهو یستحق العقاب أو الثواب حتی دون بعث الأنبیاء والرسل، ونقول فی الإجابة عن هذا السؤال صحیح أنّ هناک استحقاقاً للثواب والعقاب وإرادة الحق تبارک وتعالی ومن باب اللطف بالعباد واقتضت عدم مؤاخذة العباد وعقابهم ما لم توید المستقلات العقلیة بواجبات الشرع ومحرماته التی تعین عن طریق الوحی.

ومن هنا تتضح عدم الحاجة للإجابة التی ذکرها بعض شرّاح نهج البلاغة حیث صرّحوا بأنّ هذه الآیة فی حکم العموم الذی یخصص فی المستقلات العقلیة.

وبعبارة أخری: إنّ اللّه تعالی لا یعاقب شخصاً دون بعث الأنبیاء ونزول الوحی سوی فی المستقلات العقلیة من قبیل قبح الظلم والجور والسرقة وقتل النفس، ثم خاض الإمام علیه السلام فی مطلب آخر فی إطار مواصلة لکلامه والذی یتمثل بفلسفة الإمتحان الإلهی فقال: «أَلَا إِنَّ اللّهَ تَعَالَی قَدْ کَشَفَ الْخَلْقَ کَشْفَةً؛ لَاأَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ وَمَکْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ؛ وَلکِنْ «لِیَبْلُوَهُمْ أَیُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» فَیَکُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً، وَالْعِقَابُ بَوَاءً (1)» .

فقد کشف الإمام علیه السلام بهذه العبارة اللثام عن مسألة مهمّة حیث لا معنی لمفهوم الامتحان بالنسبة للّه بالشکل الذی تعارف علی العباد، فالهدف من اختبار العباد لرفع الجهل والإبهام، لمعرفة الأشیاء و التعرف علی الأشخاص، ولیس لمثل هذه الأمور من مفهوم لمن کان الغیب والشهادة والظاهر والباطن عنده سواء، بل هدف البلاء الإلهی هو أن یظهر الإنسان ما یبطنه لتتحقق مسألة استحقاق الثواب والعقاب.

وبعبارة أوضح: لا یمکن إثابة الفرد أو معاقبته علی ما یضمره من نیّات حسنة أو سیئة، بل یترتب الثواب والعقاب علی ما یصدر منه من أعمال وأفعال تفرزها النیّات، وهذا ما بیّنه

ص:392


1- 1) «بواء» : تعنی فی الأصل العودة والنزول ثم أطلقت علی العقوبة المستمرة والمتواصلة وهذا هو المعنی المراد بها فی الخطبة.

الإمام علیه السلام فی إحدی قصار کلمات فی تفسیر للآیة القرآنیة: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُکُمْ وَأَوْلَادُکُمْ فِتْنَةٌ. . .» (1)، معنی أن یختبرهم بالأموال والأولاد. . . «وَإِنْ کَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلکِنْ لِتَظْهَرَ الْأَفْعَالُ الَّتی بِهَا یُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ» (2).

فلم یرد فی الفقه ولا فی دستور أی بلد التصریح بعقاب شخص بسبب نیّة القتل أو السرقة، وکما لا یثاب بسبب نیّته الحسنة فی الخدمة، وإن شمل مثل هؤلاء الأفراد بنوع من التکریم تفضلاً بسبب تلک النیّات وقد تظافرت الروایات التی صرّحت بجزاء الخیر تفضلاً منه سبحانه کونه أرحم الجمیع، لکنّه لایعاقب علی نیّة الشرّ کما ورد فی الحدیث: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ یَعْمَلها کُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً. . . وَمَنْ هَمَّ بِسَیِّئَةٍ لَم تُکتَبْ عَلَیهِ» (3).

ص:393


1- 1) سورة الانفال / 28. [1]
2- 2) نهج البلاغة، قصار الکلمات 93. [2]
3- 3) وسائل الشیعة 1/36، من أبواب مقدمة العبادات، الباب 6، ح6. [3]

ص:394

القسم الثانی: منزلة الولایة

اشارة

«أَیْنَ الَّذِینَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ دُونَنَا، کَذِباً وَبَغْیاً عَلَیْنَا، أَنْ رَفَعَنَا اللّهُ وَوَضَعَهُمْ، وَأَعْطَانَا وَحَرَمَهُمْ، وَأَدْخَلَنَا وَأَخْرَجَهُمْ. بِنَا یُسْتَعْطَی الْهُدَی، وَیُسْتَجْلَی الْعَمَی. إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَیْشٍ غُرِسُوا فِی هذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ؛ لَاتَصْلُحُ عَلَی سِوَاهُمْ، وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ مِنْ غَیْرِهِمْ» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة فی الرد علی التخرصات فی مجال العلم والمعرفة الإسلامیة تجاه أهل البیت علیهم السلام ویقدمهم علی أنّهم أعلم من غیرهم بکذبهم، وأنّ الساسة المحترفین آنذاک کانوا یثیرون تلک التخرصات بهدف النیل من مسألة خلافة وإمامة أهل البیت علیهم السلام فقال: «أَیْنَ الَّذِینَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ دُونَنَا، کَذِباً وَبَغْیاً عَلَیْنَا» .

وأضاف علیه السلام أینهم اُولئک لیروا کیف رفعنا اللّه تعالی وفضلنا وأعطانا ووضعهم وحرمهم وأدخلنا فی سعة رحمته وأخرجهم منها: «أَنْ رَفَعَنَا اللّهُ وَوَضَعَهُمْ، وَأَعْطَانَا وَحَرَمَهُمْ، وَأَدْخَلَنَا وَأَخْرَجَهُمْ» .

فی إشارة إلی أنّ إتّباع أهل البیت علیهم السلام فی معارفهم والإسلامیة ووقوفهم علی القرآن والوحی والسنّة النبویة الشریفة لیس بالشیء الخفی علی أحد، فهم کهف الاُمة الذی کان یلوذ به حتی الخلفاء فی ما یعترضهم من مشاکل وصعوبات، وهذا من البدیهیات التی لا یختلف علیها إثنان، وأمّا اُولئک الذین تدفعهم القضایا السیاسیة والحب والبغض الناشیء من العلاقات المادیة بانکار هذه الحقیقة فإنّما یفضحون أنفسهم.

ص:395

ثم قال علیه السلام: « بِنَا یُسْتَعْطَی الْهُدَی، وَیُسْتَجْلَی الْعَمَی» ، والشواهد التاریخیة المستفیضة والأحادیث النبویة القطعیة إنّما تؤید هذا الکلام، وهذا ما سنتعرض له فی البحث القادم.

وأخیراً إختتم الإمام علیه السلام هذا المقطع من الخطبة بالإشارة إلی الحدیث النبوی الشریف بشأن اقتصار الإمام علی قریش وبنی هاشم فقال: «إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَیْشٍ غُرِسُوا فِی هذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ؛ لَاتَصْلُحُ عَلَی سِوَاهُمْ، وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ مِنْ غَیْرِهِمْ» .

فالإمام بإشارته إلی الحدیث النبوی المعروف: «إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَیْشٍ» ، ومن ثم حصرها فی بنی هاشم أوضح بأنّ أدعیاء الخلافة من غیر بنی هاشم لا یستحقون هذا المقام ولابدّ من التحری عن بنی هاشم فی کل زمان للعثور علی الإمام الحق.

قبسات من علم علی علیه السلام

لقد عمد تجّار السیاسة بهدف نیل أهدافهم وتحقیق مآربهم إلی إنکار أوضح المسائل أحیاناً أو المرور علیها من خلال التوجیهات الجوفاء وأحد مصادیق ذلک منح بعض الصحابة الأفضلیة علی علی علیه السلام حتی قدموا علیه تلمیذه فی التفسیر والذی کان یفخر بذلک هو ابن عباس (1)، وزید بن ثابت فی العلم بأحکام المیراث وأبی بن کعب فی القراءة، ولم ینسبوا للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله حدیثاً بهذا الشأن، فی حین تظافرت مصادر الفریقین (الشیعة والسنّة) التی تؤکد أعلمیّة علی علیه السلام علی سائر الصحابة قاطبة بما لا یمکن إنکارها ومن ذلک:

1 - حدیث الثقلین وهو من أشهر الأحادیث التی روتها مصادر العامّة - وقد استشهدنا به سابقاً (2)- بالکتاب وأهل البیت علیهم السلام الذین لا یفترقون عنه والکل یعلم بأنّ القرآن هو مصدر جمیع العلوم المعارف.

ص:396


1- 1) نقل الدکتور الذهبی فی کتابه «التفسیر والمفسرون» عن ابن عباس: «مَا أَخَذتُ مِنْ تَفسِیرِ القُرآنِ إِلَّا مِنْ عَلیِّ بنِ أَبِی طَالِبٍ» ج1، ص89، کما روی عن ابن عباس أنّه قال: «وَمَا عِلمِی وَعِلْمُ أَصحَابِ مُحَمَّدٍ فِی عَلْمِ عَلیِّ إِلّا کَقَطرَةٍ فِی سَبعَةِ أَبحُرٍ» (الغدیر 2/45 [1] فی شرح دیوان حسان) .
2- 2) ذکرنا أسناد حدیث ثقلین فی نفحات القرآن 9/62 - 71. [2]

2 - الحدیث المعروف «أقضاکُم علیّاً» (1)، هو الشاهد الآخر علی هذا الأمر، وذلک لأنّ القضاء واصدار الأحکام الإسلامیة یتطلب إحاطة علمیة بأصول الإسلام وفروعه، ومن کان الأعلم کان هو الأقضی.

3 - الحدیث المروی عن علی علیه السلام أنّه قال: «عَلَّمَنِی رَسُولُ اللّهِ أَلفَ بَابِ ٍ کُلُّ بَابٍ یَفْتَحُ (منه) أَلفَ بَابٍ» (2)، وهو دلیل آخر یکشف بوضوح أن لیس بین الاُمّة من یماثله فی العلم والمعرفة وذلک لأنّ هذا الحدیث لم یرد فی شخص سواه.

4 - قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی تفسیر الآیة: « «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ» (3)إنّما هو علی» (4).

لابدّ من الإلتفات هنا إلی أنّه طبق الآیة 40 من سورة النمل فقد تمکن آصف بن برخیا: «الَّذِی عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْکِتَابِ. . .» ، من الإتیان بعرش بلقیس من الیمن إلی الشام، فما بالک بقدرة من لدیه علم بکل الکتاب.

5 - الکلام المشهور لعلی علیه السلام حین قال: «سَلُونِی قَبلَ أَنْ تَفقِدُونِی» والذی صرّح کبار علماء العامّة أنّ شخصاً غیر علی علیه السلام لم یقل ذلک إلّاافتضح (5).

6 - العارفون بتاریخ الإسلام فی عصر الخلفاء یعلمون أنّ علیّاً علیه السلام کان الکهف العلمی الحصین للاُمة حتی قال الخلیفة الثانی کراراً ومراراً : «لولا علی لهلک عمر» ، وقال فی عبارة اُخری: «اللّهمّ لاتُبقِنِی لِمعضلَةٍ لَیسَ لَها ابن أَبِی طالبٍ» ، وقال: «لا أَبقَانِی اللّهُ بِأَرضٍ لَستَ فِیها (یا) أَبا الحَسن» (6).

ص:397


1- 1) روی هذا الحدیث جمع من حفاظ العامّة کابن عبد البر فی «الاستیعاب» ، والقاضی فی «الموقف» ، وابن أبی الحدید فی «شرح نهج البلاغة» ، وابن طلحة الشافعی فی «مطالب السئول» ، (الغدیر 3/69، وابن عساکر فی (التاریخ المختصر لدمشق 17/301) .
2- 2) ورد هذا الحدیث فی کنزل العمال 13/114، ح 36372.
3- 3) سورة الرعد / 43. [1]
4- 4) انظرو مصادر هذا الحدیث فی کتب العامّة فی إحقاق الحق 3/280، [2] کما وردت روایات بهذا الخصوص فی شواهد التنزیل للحسکانی 1/307 - 310.
5- 5) ذکرنا شرح هذا الموضوع فی المجلد الرابع من هذا الکتاب ذیل الخطبة 93.
6- 6) المرحوم العلّامة الأمینی أورد هذه العبارات بمصادر دقیقة من کتب العامّة (الغدیر 3/97) [3] تحت عنوان آراء الصحابة بعلی علیه السلام.

وهذا المطلب علی درجة من الوضوح حتی أصبح المثل یضرب به بین الناس، فکلما عصیت قضیة علی أحد ولم یکن هنالک من یحلّها قالوا: «قَضِیةٌ وَلا أَبَا حَسَنٍ لَها» (1).

روایة أنّ الأئمّة من قریش

نشیر فی الخطبة إلی هذه النقطة وهی أنّ الأئمّة من قریش ومن بنی هاشم ولیس للآخرین صلاحیة الخلافة والإمامة وینسجم هذا الکلام مع عدّة روایات التی وردت فی أشهر مصادر العامّة ومنها:

1 - روی عن جابر بن سمرة فی صحیح مسلم أنّه قال: سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «لا یَزالُ الإِسلامُ عَزِیزاً إِلی إِثنی عَشَرَ خَلِیفة - ثُم قال کلمة لم أفهمها - فقلتُ لأبِی مَا قَالَ؟ قال: فقال: کُِلُّهُم مِن قُرَیش» (2)، وقد وردت هذه الروایات بعبارات مختلفة.

والجدیر بالذکر إننا نقرأ فی أحد طرق هذا الحدیث فی صحیح مسلم أنّ جابراً قال فی ذیل الحدیث «فَقَالَ صلی الله علیه و آله کَلِمِةً أَصَمنِیها النَّاسُ فَقُلتُ لأَبِی مَا قَالَ؟ قَالَ: کُلُّهُم مِن قُرَیشٍ» ، کما ورد عنه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لا یَزالُ الدِّینُ قَائِماً حَتّی تَقُومَ السَّاعَةُ أَو یَکُونَ عَلَیکُم إِثنا عَشَرَ خَلِیفَةً کَلُّهُم مِن قُرَیشٍ» .

2 - جاء فی صحیح البخاری عن جابر قال: سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «یَکُونُ إِثنی عَشَرَ أَمِیراً فَقَالَ کَلِمَةً لَم أسمَعها فَقالَ: أَبِی أَنّه قَالَ: کَلُّهُم مِن قُرَیشٍ» (3).

3 - وورد مثل هذا المضمون فی صحیح الترمذی مع اختلاف طفیف وقال فیه: «هذا حِدیثٌ حسَنٌ صَحیحٌ» (4).

4 - کما ورد نفس هذا المضمون فی صحیح أبی داود ویفید تعبیر الحدیث أنّ النبی صلی الله علیه و آله قاله فی جماعة، حیث جاء فی الخبر أنّ النبی صلی الله علیه و آله حین قال: «لا یَزالُ الإِسلامُ عَزِیزاً إِلی إِثنی عَشَرَ خَلِیفةٍ کَبَّرَ النَّاسُ بِأَعلَی أَصواتِهِم» (5).

ص:398


1- 1) التفسیر والمفسرون 1/89. [1]
2- 2) صحیح مسلم 3/1453؛ طبع بیروت دار التراث العربی.
3- 3) صحیح البخاری 3/101، جزء 9، طبع دار الجیل بیروت.
4- 4) صحیح الترمذی 4/501 طبع دار [2]التراث الاحیاء العربی بیروت.
5- 5) صحیح أبی داود 4/106 (کتاب المهدی) .

4 - کما ورد الحدیث فی عدّة موارد فی مسند أحمد بن حنبل (1).

وقد ذهب بعض المحققین إلی أنّ عدد طرقه فی مسند أحمد 34 طریق (2).

لقد أسهب علماء العامّة بشأن تفسیر الأحادیث المذکورة والتی وردت فی أشهر مصادرهم، إلّاأنّهم لم یقدموا تفسیراً قانعاً حول الإثنی عشر خلیفة أو أمیر، وذلک لأنّهم یعتقدون بعدم انطباق هذا العدد والخلفاء، ولا یمکن تفسیره إلّاعلی ضوء اعتقاد أتباع أهل البیت علیهم السلام.

منزلة بنی هاشم فی الإسلام

اُشیر فی الخطبة إلی منزلة بنی هاشم فی قریش، والذی أقتبس فی الواقع من کلمات النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، ومن ذلک ما روی عن عائشة فی کتاب «فضائل الصحابة» لأحمد بن حنبل قالت: قَال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «قَالَ لِی جِبرَائیلُ یَا مُحَمِّد قَلَّبتُ الأَرضَ مَشَارِقَها وَمَغَارِبَها فَلَم أَجِدْ وُلْدَ أَبٍ خَیْرَاً مِنْ بَنِی هَاشِم» (3).

ومن الواضح أنّ المقصود لیس جمیع بنی هاشم، والحدیث یبدو ناظراً إلی الأئمّة المعصومین علیهم السلام.

ص:399


1- 1) مسند أحمد 5/ 89 - 90 - 101.
2- 2) انظر کتاب منتخب الأثر /12؛ إحقاق الحق /13.
3- 3) فضائل الصحابة 2/628، ح 1073. [1]

ص:400

القسم الثالث: هؤلاء الجفاة یحرقون الأخضر والیابس

منهَا: «آثَرُوا عَاجِلاً وَأَخَّرُوا آجِلاً، وَتَرَکُوا صَافِیاً وَشَرِبُوا آجِناً؛ کَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَی فَاسِقِهِمْ وَقَدْ صَحِبَ الْمُنْکَرَ فَأَلِفَهُ، وَبَسِئَ بِهِ وَوَافَقَهُ، حَتَّی شَابَتْ عَلَیْهِ مَفَارِقُهُ، وَصُبِغَتْ بِهِ خَلَائِقُهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً کَالتَّیَّارِ لَایُبَالِی مَا غَرَّقَ، أَوْ کَوَقْعِ النَّارِ فِی الْهَشِیمِ لَایَحْفِلُ مَاحَرَّقَ!» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی الأفراد الذین وقفوا بوجه أئمّة الحق وقد ولوا ظهورهم للحق من أجل الحکومة لبضعة أیّام فقال: «آثَرُوا عَاجِلاً وَأَخَّرُوا آجِلاً، وَتَرَکُوا صَافِیاً وَشَرِبُوا آجِناً (1)؛ کَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَی فَاسِقِهِمْ وَقَدْ صَحِبَ الْمُنْکَرَ فَأَلِفَهُ، وَبَسِئَ بِهِ (2)وَوَافَقَهُ، حَتَّی شَابَتْ عَلَیْهِ مَفَارِقُهُ، وَصُبِغَتْ بِهِ خَلَائِقُهُ (3)» .

ثم قال مواصلة لکلامه علیه السلام: «ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً (4)کَالتَّیَّارِ (5)لَایُبَالِی مَا غَرَّقَ، أَوْ کَوَقْعِ النَّارِ فِی الْهَشِیمِ (6)لَایَحْفِلُ (7)مَاحَرَّقَ!» .

ص:401


1- 1) «آجن» : من مادة «اجن» علی وزن فجر الماء المتغیر اللون والطعم والرائحة.
2- 2) «بسیء به» من مادة بسوء ألفه وإستأنس به.
3- 3) «خلائق» : أحیاناً جمع «خلق» بمعنی المخلوق وأخری جمع «خلیقة» بمعنی الخلق والملکة وهذا هو المعنی المراد بها فی العبارة.
4- 4) «مزبد» : من مادة «زبد» رغوة الماء وما شابه ذلک ومزبد اسم فاعل.
5- 5) «تیار» : یعنی فی الأصل الموج الشدید الذی یقذف الماء خارج البحر، ویطلق أحیاناً علی مطلق الموج.
6- 6) «الهشیم» : من مادة «هشم» تطلق علی النباتات الجافة المتکسرة.
7- 7) «یحفل» : من مادة «حفول» بمعنی الاعتناء بالشیء وعلیه فلا یحفل تعنی لا یهتم.

هنالک خلاف بین شرّاح نهج البلاغة بشأن الضمیر وعودته فی هذه العبارات، فقد ذهب البعض إلی أنّ المراد بالخلفاء الأوائل، وذهب البعض الآخر إلی أنّ المراد بعض الصحابة الذین انحرفوا، وقال البعض یراد بها مفهوماً عاماً وأخیراً رآه البعض إشارة إلی بنی اُمیة، ویبدو الاحتمال الأخیر أنسبها جمیعاً، لأنّهم آثروا الدنیا علی الآخرة جهرة وقد تنکروا للحق وسقطوا فی مستنقع الدنیا العفن، وبناءاً علی هذا فالمراد بالعبارة «کَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَی فَاسِقِهِم» ، هو عبدالملک بن مروان حیث کان من أقدر عناصر بنی اُمیة، وقد إرتکب الکثیر من الجرائم وباشرها بنفسه، وما أبشع الجنایات التی إرتکبها والیه الغاشم الحجاج، فقد کان کالنار الملتهبة التی تحرق الأخضر والیابس ولا یقف أمامها شیء، والعبارة کأنّی انظروا إلی فاسقهم إشارة إلی فرد یظهر فی المستقبل، فلا یمکن تطبیقها علی الماضین أو المعاصرین له علیه السلام إلّامع تکلّف.

ص:402

القسم الرابع: دعاة الحق و أتباع الشیطان

«أَیْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِیحِ الْهُدَی، وَالْأَبْصَارُ الْلَّامِحَةُ إِلَی مَنَارِ التَّقْوَی! أَیْنَ الْقُلُوبُ الَّتِی وُهِبَتْ لِلّهِ، وَعُوقِدَتْ عَلَی طَاعَةِ اللّهِ! ازْدَحَمُوا عَلَی الْحُطَامِ، وَتَشَاحُّوا عَلَی الْحَرَامِ، وَرُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَصَرَفُوا عَنِ الْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ، وَأَقْبَلُوا إِلَی النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ؛ وَدَعَاهُمْ رَبُّهُمْ فَنَفَرُوا وَوَلَّوْا، وَدَعَاهُمُ الشَّیْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وَأَقْبَلُوا!» .

الشرح والتفسیر

تحدّث الإمام علیه السلام فی المقطع الأخیر من هذه الخطبة عن فئتین: فئة عاقلة ومتقیة ومطیعة للحق وأخری تکالبت علی حطام الدنیا وتسابقت مع بعضها من أجل نیل الأموال الحرام فقال: «أَیْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِیحِ الْهُدَی، وَالْأَبْصَارُ الْلَّامِحَةُ (1)إِلَی مَنَارِ التَّقْوَی! أَیْنَ الْقُلُوبُ الَّتِی وُهِبَتْ لِلّهِ، وَعُوقِدَتْ عَلَی طَاعَةِ اللّهِ!» ، إشارة إلی أنّ جماعة عظیمة من الناس سلکت سبیل المخالفة، وقد قل الصالحون وکأن الإمام علیه السلام یبحث عنهم لیجدهم.

ثم تطرق علیه السلام إلی الفئة الثانیة التی تهافتت علی الدنیا فقال: «ازْدَحَمُوا عَلَی الْحُطَامِ (2)، وَتَشَاحُّوا (3)عَلَی الْحَرَامِ، وَرُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَصَرَفُوا عَنِ الْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ،

ص:403


1- 1) «لامحة» : من مادة «لمح» علی وزن لمس تعنی فی الأصل لمعان البرق، ثم جاءت بمعنی النظرة الخاطفة، کما وردت بمعنی النظر إلی الشیء وهذا هو المعنی المراد بها فی العبارة.
2- 2) «حطام» : الشیء المکسور الفانی الذی لا قیمة له ویقال حطام الدنیا لأموالها بسبب فنائها وزوالها سریعاً.
3- 3) «تشاحوا» : من مادة تشاح واصلها الشح بمعنی البخل المقرون بالحرص ویقال تشاح حیث یتنازع فردان أو طائفتان من أجل الحصول علی الشیء.

وَأَقْبَلُوا إِلَی النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ؛ وَدَعَاهُمْ رَبُّهُمْ فَنَفَرُوا (1)وَوَلَّوْا، وَدَعَاهُمُ الشَّیْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وَأَقْبَلُوا!» .

یبدو أن الفئتین اللتان أشار إلیهما الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة، هما تلک الفئتان اللتان ذکرتا سابقاً، فئة سلمت لأئمّة الهدی وانقادت لهم، وأخری تمردت ووقفت بوجههم سعت لإطفاء نورهم، فهی فئة أخلدت إلی الدنیا ولم تهتم بالحلال والحرام وتتسابق فیما بینها من أجل تبعیة الشیطان وطاعته.

ص:404


1- 1) «نفروا» : من مادة «نفر» و «نفور» بمعنی الابتعاد عن الشیء والفرار منه.

الخطبة المأة والخامسة و الأربعون

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطبَةٍ لهُ علیه السلام

فناء الدنیا وذم البدع

نظرة إلی الخطبة

الخطبة ناظرة إلی موضوعین:

الموضوع الأول: إشارة إلی تقلب الدنیا ووزال نعمها، حیث یتعرف الإنسان أکثر فأکثر علی حقیقة هذا العالم المتغیر حین یتأمل هذه العبارات التی تضمنت مواعظ توقظ السامع من غفلته.

الموضوع الثانی: حول ذم البدع حیث تتغیب سنة کلّما شاعت بدعة بین الناس.

ص:405


1- 1) سند الخطبة: أورد ابن شعبة الحرانی فی کتابه «تحف العقول» جانباً من هذه الخطبة ضمن خطبة تعرف باسم الوسیلة، کما ذکرها المرحوم الشیخ المفید رحمه الله فی کتاب «الإرشاد» مع اختلاف طفیف، کما نقلها المرحوم الشیخ الطوسی فی الأمالی وأشار أبو العتاهیة فی أشعاره إلی مضمون بعض عبارات هذه الخطبة ویحتمل أنّه أخذها من کلام الإمام علیه السلام، ووردت أجزاء من هذه الخطبة فی الکلمات القصار فی کلمة رقم 191. (مصادر نهج البلاغة 2/323)

ص:406

القسم الأول: تضارب نعم الدنیا

«أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنْتُمْ فِی هذِهِ الدُّنْیَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِیهِ الْمَنَایَا، مَعَ کُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ، وَفِی کُلِّ أَکْلَةٍ غَصَصٌ! لَاتَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَی، وَلَا یُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْکُمْ، یَوْماً مِنْ عُمُرِهِ، إِلاَّ بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ، وَلَا تُجَدَّدُ لَهُ زِیَادَةٌ فِی أَکْلِهِ، إِلاَّ بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ. وَلَا یَحْیَا لَهُ أَثَرٌ إِلاَّ مَاتَ لَهُ أَثَرٌ. وَلَا یَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِیدٌ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ یَخْلَقَ لَهُ جَدِیدٌ. وَلَا تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلاَّ وَتَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ. وَقَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا، فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ!» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة إلی أفات الدنیا التی تهدد الإنسان من کل ناحیة وقد عکس هذه الآفات بثلاث عبارات عمیقة المعنی فقال: «أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنْتُمْ فِی هذِهِ الدُّنْیَا غَرَضٌ (1)تَنْتَضِلُ فِیهِ الْمَنَایَا، مَعَ کُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ (2)، وَفِی کُلِّ أَکْلَةٍ غَصَصٌ! (3)لَاتَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَی» ، فهی تشیر من جانب إلی الآفات الممیتة التی تشمل الفردیة من قبیل أنواع الأمراض وحملات الحیوانات ومنازعة الأشرار والسقوط من الشاهق وإلی ذلک، وکذلک الآفات الجماعیة کالزالزل والسیول والقحط والحروب، ومن جانب أخر ذکر اقتران کل نعمة بنقمة وکل نصر ونجاح بهزیمة وفشل، أهونها ما ورد فی عبارة الإمام علیه السلام حین قال:

ص:407


1- 1) «غرض» : الهدف الذی یرمی بالسهام.
2- 2) «شرق» : له معنی مصدری یعنی الاختناق بالماء.
3- 3) «غصص» : له معنی مصدری ویعنی الاختناق بالطعام.

«مَعَ کُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ، وَفِی کُلِّ أَکْلَةٍ غَصَصٌ! لَاتَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَی» ، فلعله یغص بالطعام ویموت رغم لذّته وشوقه إلیه، وأخیراً أشار إلی تنافر النعم الدنیویة المادیة فصرّح بتعذر جمعها، فما إن ینال واحدة حتی تفارقه أخری، مثلاً یحرم من نعمة الولد فیهبه اللّه الولد لکنه یسلبه الهدوء والراحة، أو أنّه فقیر لا مال لدیه ویعیش ظروفاً صعبة فیهبه اللّه المال، ولکن الحرص علی هذا المال وکیفیة التصرف به لا تدع له مجالاً للراحة، لیس لدیه وسیلة نقلیة فهو یعانی من المصاعب وما إن یحصل علیها حتی یعانی من مشاکل جدیدة من قبیل إنفاق المال علیها وکیفیة المحافظة علیها، وهکذا فهو لا یحصل علی نعمة إلی بفراق أخری.

والعبارة تنتضل بالنظر إلی أنّها تستعمل بشأن الأفراد الذین یشترکون فی مسابقات الرمی فهی تشیر إلی آفات الدنیا وکأنّها تتسابق لاستهداف حیاة الإنسان، والعبارة منایا جمع منیة بمعنی الموت إشارة إلی اختلاف أنواع الوفیات سواء الفردیة أو الجماعیة والتی اُشیر إلیها فی الخطبة، قد یتصور أحیاناً أنّ العبارة « لَا تَنَالُونَ مِنْهَا. . .» ، تعبیر آخر عن الجملة «مَعَ کُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ. . .» ، والحال العبارتان مختلفتان، فالعبارة مع کل جرعة شرق إشارة إلی أنّ بانتظار کل نعمة آفة کامنة، وأمّا العبارة لا تناولوا منها. . . فهی تشیر إلی أنّه لو لم یکن هنالک من آفة فانّ النعم لا تجتمع، فلا تنال واحدة إلّابمفارقة أخری.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بشرح رائع للعبارة السابقة حین قال لا تنالون نعمة إلّابفراق أخری، فبیّن خمسة نماذج واضحة فی خمس عبارات فقال: «وَلَا یُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْکُمْ، یَوْماً مِنْ عُمُرِهِ، إِلاَّ بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ، وَلَا تُجَدَّدُ لَهُ زِیَادَةٌ فِی أَکْلِهِ، إِلاَّ بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ. وَلَا یَحْیَا لَهُ أَثَرٌ إِلاَّ مَاتَ لَهُ أَثَرٌ. وَلَا یَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِیدٌ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ یَخْلَقَ (1)لَهُ جَدِیدٌ. وَلَا تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلاَّ وَتَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ (2)» .

نعم، للإنسان حیویة خاصة حین الطفولة فان انتقل إلی مرحلة الشباب ودبّ فیه نشاطه تزوال عنه حیویة الطفولة، فان اتّجه نحو مرحلة الشیخوخة وأصبح وجوده مجموعة من

ص:408


1- 1) «یحلق» : من مادة «خلوق» بمعنی یبلی ویخلق من مادة خلق المراد المعنی الأول فی الخطبة.
2- 2) «محصودة» : من مادة «حصد و حصاد» علی وزن غصب بمعنی حصاد الشیء.

التجارب والخیرات فقد نشاط الشباب، وهکذا یمنح اللّه الإنسان نعمة الولد ولا تمضی مدّة حتی یفقد أباه ویتعرف علی أصدقاء جدد، فی حین یسلب القدماء من أصدقائه، وهکذا یحصل علی نعمة ویفقد أخری، وهذه هی طبیعة الحیاة الدنیا والنعم المادیة، فهی لا تجتمع لأحد فی أی زمان ومکان فلا تنال نعمة إلی بفراق نعمة أخری، وهذا بحدّ ذاته إنذار لکافة الناس بعدم التعلق بنعم الدنیا وربط القلب بها، والعبارة «وَلَا یَحْیَا لَهُ أَثَرٌ. . .» ، إشارة إلی أنّ الإنسان إن خلّف بعض الآثار - سواء کانت هذه الآثار علمیة أم خیریة ذات النفع العام - فانّه یفقد قطعاً من أجلها طاقة من حیث الفکر والبدن، والعبارة «وَلَا تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ. . .» ، یمکن أن تکون إشارة إلی نعمة الولد والحفید حیث کلما کبر هؤلاء فقدوا بالتدریج قرابتهم الأکبر، کما یمکن أن تکون إشارة إلی کل نمو وتقدم، مثلاً یغرس الإنسان بذور جدیدة فی جانب من بستانه فی حین یعانی جانب أخر من ذبول الأشجار وموتها الواحدة بعد الأخری.

ثم إختتم الإمام علیه السلام کلامه بالقول: «وَقَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا، فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ!» ، فقد ذهب أباؤنا وأسلافنا وصاروا إلی الزوال فلا ینبغی لنا إنتظار البقاء، لأنّ الفرع الزائد علی الأصل لیس بممکن، وبناءاً علی هذا سنلحق بهم عاجلاً أم آجلاً.

لقد رسم الإمام علیه السلام صورة واضحة ودقیقة فی هذا القسم من الخطبة عن الدنیا، نعم، فلهذه الدنیا نعیش فیها آفاق تختلف تماماً عن واقعها، أفاق القصور والثروات والنعم والجمال والنشاط ولکن ما إن نقترب منها حین نصطدم بصورتها القبیحة، فالإنسان من جانب - کما أشار الإمام علیه السلام - هو هدف دائم لسهام الآفات والبلاء، بحیث لا یسعه التهکن بمستقبله لما بعد ساعة، ومن جانب أخر فإلی جانب کل نعمة مصیبة وإلی جانب کل وردة شوکة وأخیراً لا ننال نعمة حتی نفقد أخری، نعیش حیاة متواضعة، لکنّها مفعمة بالاستقرار، نتمنی سعة هذه المعیشة، إلّاأننا إن نلنا منیتنا طالعتنا العدید من المشاکل، حفظ المال والثروة بحدّ ذاته مشکلة کبیرة، إلی جانب عین الحسّاد التی تصوب نحوه وأمانی الأشرار بزواله واللصوص الذین یتربصون به، وأحیاناً خیانة الزملاء والأصدقاء وهکذا سائر المشاکل التی تصب علی رأسه من کل حدب وصوب والتی تقضی علی استقراره بصورة تامة، ناهیک عن مختلف الأمراض

ص:409

التی تعرض للإنسان بفعل الجهاد، إننا خام ما دمنا شباباً فان نضجنا وعجزنا، وآنذاک یسعنا الاستفادة الصحیحة من الأموال بینما أیدینا خالیة، فان أصبحنا نملک شیئاً لم یسعنا الاستفادة منه، فهل یمکن التعلق بمثل هذه الدنیا والوثوق بها؟ یقال إنّ أحدهم طلب من ملک أن یجلس علی عرشه ساعة ویسلمه مقالید الحکم ویأتمر بأمره الحرس والغلمان، فأجابه الملک لکنه أمر أن یعلق فوق رأسه بشعرة، فلما جلس علی العرش شعر بالفرح الشدید، فوقعت عینه علی الخنجر وأنّه معلق بشعرة فارتعش، لأنّه ظن سیقع علیه فی کل لحظة، فلمّا همّ بالهروب قیل له لم تنتهی ساعتک، فجلس خائفاً ینتظر انتهاء المدّة وهو یدعو إلی إنتهائها، ففهم إن کان السلطة من جمال فهی تشتمل علی آلاف الأخطار، ولعل هناک من یهم بقتله من أقرب مقربیه کما یفید التاریخ ذلک، ورغم کل هذه المشاکل فلیس هناک من بقاء وخلود فی الحیاة الدنیا لیسعی إلیها الإنسان ویجهد نفسه من أجلها، وما علیه إلّاالسیر نحو الآخرة، وکما قال آخر خلفاء بنی اُمیة «لَمّا حَلا لَنا الدَّهرُ خَلا مِنّا» (1).

ص:410


1- 1) فی ظلال نهج البلاغة 4/389. [1]

القسم الثانی: موت السنن بظهور البدع

منهَا: «وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِکَ بِهَا سُنَّةٌ. فَاتَّقُوا الْبِدَعَ وَالْزَمُوا الْمَهْیَعَ. إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا، وَإِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا» .

الشرح والتفسیر

یعالج هذا الکلام من الخطبة قضیة مهمّة وهی قبح البدع، وعلی ضوء عدم الإرتباط الواضح بین هذا القسم والذی سبقه فالذی یبدوا أنّ بین هذین القسمین أقسام حذفها المرحوم السید الرضی رضی الله عنه، ولابدّ من تغیر مفردة البدعة علی أساس اللغة والشرع لیتضح لدینا مضمون هذا القسم من الخطبة: فالبدعة لغویاً تعنی کل تجدد والذی یمکنه أن یکون حسناً أو سیئاً، حسب ما صرّح به أرباب اللغة: «البدعة إنشاء أمر علی غیر مثال سابق» .

أمّا المعنی السائد بین الفقهاء العلماء - کما ذکرنا ذلک فی شرح الخطبة السابعة عشرة - إدخال شیء فی الدین أو إخراجه دون قیام دلیل معتبر علی ذلک، ولما کانت تعالیم الإسلام وأحکامه خالدة ونازلة عن طریق الوحی فکل بدعة کبیرة، وإلیها تعود کل فرقة واختلاف أصاب الاُمة الإسلامیة، نعود الآن إلی شرح کلام الإمام علیه السلام فقد قال: «وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِکَ بِهَا سُنَّةٌ» .

ثم نصح باجتناب البدع وضرورة السیر علی النهج المستقیم فقال علیه السلام: «فَاتَّقُوا الْبِدَعَ

ص:411

وَالْزَمُوا الْمَهْیَعَ (1). إِنَّ عَوَازِمَ (2)الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا، وَإِنَّ مُحْدَثَاتِهَا (3)شِرَارُهَا» .

فقد اتضحت حقیقة ما قیل فی هذه العبارة فی کیفیة ترک سنّة حین ظهور بدعة، وکیف تکون البدعة شرّ الاُمور، لأنّه لو سمح للأفراد أن ینقصوا من الدین شیئاً أو یضیفوا له شیئاً علی ضوء ذوقهم وفکرهم القاصر، لما بقی من أحکام الدین وتعالیمه شیئاً خلال مدّة وجیزة ولإنقلب کل شیء رأساً علی عقب، وفقد اعتباره وأصالته، ولإستبدلت التعالیم الأصلیة للدین بسلسلة من الأفکار المنحرفة والواهیة ولحل السراب محل العین الزلال، طبعاً إن کان التجدد ولید البحث والتحقیق والدقیق فی أدلة أحکام الشرع وکشف حقائق حدیثة من خلال الکتاب والسنّة والدلیل القاطع للعقل، فلیس هذا من البدعة فی شیء فحسب، بل سیکون سبب رفعة الدین وإزدهاره.

وبعبارة أخری: فانّ الکشف شیء جدید، أمّا المکشوف فهو موجود سابقاً فی الدین، أمّا إن کان الذوق الشخصی والاستحسان الظنی هو دعامة وأساس التجدد فلیس له من نتائج سوی الظلال ومسخ الصورة الحقیقیة الناصعة للدین ویتضح ممّا مرّ معنا عدم صواب ما أورده شرّاح نهج البلاغة للعبارة المذکورة من أن کلّ بدعة خلاف لسنّة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله الذی حرم البدعة، وعلیه فالسنّة تترک بظهور البدعة، بل المراد أنّ لکل موضوعه فی الإسلام حکم، وکل بدعة تعارض ذلک الحکم، إذن فبظهور البدع تترک الأحکام الأصلیة للدین - کما تبیّن جسامة خطأ ما أورده بعض شرّاح نهج البلاغة مثل ابن أبی الحدید الذی قسم البدع إلی حسنة وسیئة، فاعتبر مثلاً صلاة التراویح (تلک الصلاة المتسحبة التی کان یصلیها الناس فرادا علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی لیالی رمضان وقد ابتدع عمر أن تصلی جماعة) من البدع الحسنة،

ص:412


1- 1) «المهیع» : من مادة «هیع» علی وزن رأی بمعنی الطریق الواسع والواضح.
2- 2) «عوازم» : جمع «عازمة أو عوزم» علی وزن جوهر تعنی فی الأصل المسن من الإنسان أوالحیوان وتطلق علی کل شیء قدیم، وتعنی هنا الأمور التی کانت موجودة منذ زمان النبی وأصالتها ثابتة فی الدین.
3- 3) وردت حدثات بکسر الدال فی النسخة المعروفة لصبحی الصالح فلها معنی اسم الفاعل، وردت مفتوحة فی أغلب النسخ بمعنی الحدوث وهذا هوالصحیح.

وذلک لأنّه بهذه البدعة ترک سنّة، وترک سنّة استحباب الإفراد فی الصلاة المستحبة، وعلیه فلیس لدینا بدعة حسنة، وإن أقررنا البدعة الحسنة کان ذلک الإقرار بأنّ السنّة قد تکون حسنة وقد تکون سیئة، کما اتضح المعنی الذی أراده بعض العلماء للبدعة حین أجروا علیها الأحکام الخمسة من أن بعض البدع واجبة وبعضها محرمة، فانّما أرادوا المعنی اللغوی لا الشرعی باضافة أو طرح أشیاء من الدین وأحکامه ومن هنا ورد فی الحدیث عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «ألّا وَکُلُّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ، ألا وَکُلُّ ضَلالَةٍ فِی النَّارِ» (1).

ومن أراد الوقوف علی المزید بشأن البدعة فلیراجع المجلد الأول من هذا الکتاب ذیل الخطبة السابعة عشرة.

ص:413


1- 1) ورد مثل هذا المعنی فی الأمالی للشیخ المفید رحمه الله، ص188 مع اختلاف طفیف کما ورد فی مصادر العامّة (الموسوعة الفقهیة الکویتیة 8/24) .

ص:414

الخطبة المأة والسادسة والأربعون

اشارة

(1)

وَمِنْ کلامٍ لهُ علیه السلام

وقد استشاره عمر بن الخطاب فی الشخوص لقتال الفرس بنفسه

نظرة إلی الخطبة

هناک خلاف بین المؤرخین فی أنّ هذه الاستشارة بخصوص الحضور فی معرکة نهاوند أو القادسیة، ویری الطبری حسب قول ابن أبی الحدید أنّها فی معرکة نهاوند، بینما یراها المدائنی فی کتاب «الفتوح» بشأن معرکة القادسیة (2)، وخلاصة ما ورد فی تاریخ الطبری أنّ عمر حین عزم علی الشخوص بنفسه لقتال العجم طلب مشورة الصحابة فتقدم طلحة والزبیر وقالا رأیهما، إلّاأنّ عمر استشار علیاً علیه السلام فأشار علیه السلام بعدم الشخوص بنفسه کما فی الخطبة، قال المرحوم الشیخ المفید رحمه الله فی «الإرشاد» ، ورد عن أبی بکر الهذلی أنّ من بین الاُمور التی نقلت عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی إرشاد الناس لما فیه مصلحتهم ولولا إرشاده لکان فسادهم أنّ فریقاً من أهل همدان والری وإصفهان ودامغان ونهاوند تکاتبوا بینهم وبعثوا الرسل فرأوا أنّ الإسلام قد فقد زعیمه (النبی الأکرم صلی الله علیه و آله) وخلفه من لم یستمر، ثم خلفه من طال عمره وقد

ص:415


1- 1) سند الخطبة: روی جانباً من هذه الخطبة أبو حنیفة الدینوری فی کتاب «الأخبار الطوال» وأحمد بن أعثم الکوفی فی کتاب «الفتوح» والطبری فی تاریخه والمعروف فی حوادث عام 27 ه (الصحیح عام 21 ه کما ورد فی تاریخ الطبری) وذکرها الشیخ المفید رحمه الله فی «الإرشاد» (مصادر نهج البلاغة 2/325) . [1]
2- 2) شرح ابن أبی الحدید 9/97. [2]

هجم علی مدننا وإنّه لن یترکنا ما لم نخرجه، فلمّا بلغ عمر الخبر فقدم إلی المسجد وأطلع الصحابة بالخبر، فقال کل رأیه، فأشار علی علیه السلام (کما ورد فی هذه الخطبة) بما فیه صلاح الإسلام والمسلمین، قال الشیخ المفید: انظر کیف بیّن الإمام علیه السلام رأیه الصائب فی تلک الظروف الحساسة وأنقذ المسلمین (1)، علی کل حال فانّ هذه الخطبة تعالج بمجموعها موضوعاً واحداً، وهو أنّ حضور رئیس الدولة فی الحرب فی بعض الظروف أمر خطیر جدّاً من شأنه أن یؤدّی إلی مشکلتین، أحدهما إتحاد أفراد العدو فیما بینهم وبذل قصاری جهدهم من أجل قتله، فیضطرب الجیش ویختل نظمه، والأخری علی فرض عدم حدوث مثل هذا الخطر فلعل إخلاء الجبهة الداخلیة یشجع العدو علی الهجوم علی المراکز الأصلیة للبلاد من کافة الجهات فتنجم من جراء ذلک الأخطار الشدیدة التی تهدد کیان الإسلام والمسلمین، وتشیر هذه الخطبة بوضوح إلی أنّ علیاً علیه السلام أنّه کان یقف حتی إلی جانب أعدائه إذا اقتضت ذلک مصالح الإسلام والمسلمین حرصاً علی الدین وکیانه.

طبعاً هذا الکلام لا یعنی أنّ رئیس الدولة لا ینبغی أن یشخص بنفسه قط فی میدان القتال فقد شخص أمیر المؤمنین علی علیه السلام بنفسه فی معارک الجمل وصفین والنهروان، وأعظم من ذلک حضور النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی الغزوات، فالشرائط متفاوتة تماماً بحیث کانت تتطلب عدم حضور الخلیفة الثانی فی المیدان.

والجدیر بالذکر أنّ المعارک قد تقع أحیاناً بالقرب من البلاد الإسلامیة وفی المناطق القریبة منه فانّ حضور المعرکة من قبل رئیس الدولة لا یترتب علیه أیة مخاطر فی مثل هذه الظروف، فی حین تبرز مثل هذه المخاطر فی المناطق البعیدة وتجاه عدو قوی یمتلک جیشاً کبیراً، وقد تحدثنا فی مثل هذا الأمر فی شرحنا للخطبة 134.

ص:416


1- 1) إرشاد المفید، ص120 بتصرف.

القسم الأول: الالتصاق بمرکز الدولة

اشارة

«إِنَّ هذَا الْأَمْرَ لَمْ یَکُنْ نَصْرُهُ وَلَا خِذْلَانُهُ بِکَثْرَةٍ وَلَا بِقِلَّةٍ. وَهُوَ دِینُ اللّهِ الَّذِی أَظْهَرَهُ، وَجُنْدُهُ الَّذِی أَعَدَّهُ وَأَمَدَّهُ، حَتَّی بَلَغَ مَا بَلَغَ، وَطَلَعَ حَیْثُ طَلَعَ؛ وَنَحْنُ عَلَی مَوْعُودٍ مِنَ اللّهِ، وَاللّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ. وَمَکَانُ الْقَیِّمِ بِالْأَمْرِ مَکَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ یَجْمَعُهُ وَیَضُمُّهُ: فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ الْخَرَزُ وَذَهَبَ، ثُمَّ لَمْ یَجْتَمِعْ بِحَذَافِیرِهِ أَبَداً. وَالْعَرَبُ الْیَوْمَ وَإِنْ کَانُوا قَلِیلاً، فَهُمْ کَثِیرُونَ بِالْإِسْلَامِ، عَزِیزُونَ بِالاِجْتَِماعِ! فَکُنْ قُطْباً، وَاسْتَدِرِ الرَّحَی بِالْعَرَبِ، وَأَصْلِهِمْ دُونَکَ نَارَ الْحَرْبِ، فَإِنَّکَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هذِهِ الْأَرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَیْکَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا، حَتَّی یَکُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَکَ مِنَ الْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَیْکَ مِمَّا بَیْنَ یَدَیْکَ» .

الشرح والتفسیر

صرّح الإمام علیه السلام فی البدایة بهدف عدم رعب المسلمین بفعل کثرة جیوش العدو فی تلک المعرکة القاسیة، سیّما ما ذکرته بعض التواریخ من أنّ رأی عثمان حین أشار علیه الخلیفة الثانی کان مقبولاً، فقال: «إِنَّ هذَا الْأَمْرَ لَمْ یَکُنْ نَصْرُهُ وَلَا خِذْلَانُهُ بِکَثْرَةٍ وَلَا بِقِلَّةٍ. وَهُوَ دِینُ اللّهِ الَّذِی أَظْهَرَهُ، وَجُنْدُهُ الَّذِی أَعَدَّهُ وَأَمَدَّهُ، حَتَّی بَلَغَ مَا بَلَغَ، وَطَلَعَ حَیْثُ طَلَعَ» ، فی إشارة إلی أننا کنّا دائماً قلّة مقابل العدو فی الحروب التی خضناها علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله، مع ذلک فقد انتصرنا وشملنا اللّه برحمته وعنایته، وقد لمسنا هذا الفضل دائماً، وعلیه فلا تخشوا من کثرة العدو وامضوا بعد التوکل علی اللّه تعالی.

ص:417

والعبارة هذه تذکّر بنصر المسلمین فی بدر والأحزاب وأمثالهما.

ولعل الفارق بین العبارتین بلغ ما بلغ وطلع حیث طلع أنّ العبارة الثانیة تخبر عن انتشار الإسلام والأولی عن منتهی منطقة نفوذ الإسلام، کما یحتمل أن تکون العبارة الاُولی إشارة إلی المناطق التی نفذ إلیها الإسلام، والعبارة الثانیة إلی المناطق التی ذاع فیها صیت الإسلام وشع علیها بما یمهد السبیل أمامه وإن لم ینفذ إلیها بعد، أو أنّ العبارة الاُولی إشارة إلی قوّة الإسلام وقدرته، والثانیة إلی سعة الإسلام وانتشاره.

ثم قال علیه السلام مؤکداً ذلک الکلام: «وَنَحْنُ عَلَی مَوْعُودٍ مِنَ اللّهِ، وَاللّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ» ، إشارة إلی الآیة الشریفة: «هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَی وَدِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ» (1). والآیة: «إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَیَوْمَ یَقُومُ الْأَشْهَادُ» (2).

نعم، فقد وعدنا فی ظل الإیمان بالنصر فی الدنیا والآخرة وتشهد سائر الآیات القرآنیة علی هذا المعنی، وما إن فرغ الإمام علیه السلام من بیان هذه المقدمة بهدف الاستقرار الروحی للخلیفة والحاضرین حتی تطرق إلی الموضوع الأصلی للمشورة فی حضور عمر بنفسه فی المعرکة فقال: «وَمَکَانُ الْقَیِّمِ بِالْأَمْرِ مَکَانُ النِّظَامِ (3)مِنَ الْخَرَزِ (4)یَجْمَعُهُ وَیَضُمُّهُ: فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ الْخَرَزُ وَذَهَبَ، ثُمَّ لَمْ یَجْتَمِعْ بِحَذَافِیرِهِ (5)أَبَداً» ، یا له من تعبیر رائع وتشبیه جمیل فالقائد والزعیم لبلد بمنزلة خیط المسبحة أو القلادة بفضله رمز الوحدة وإنسجام والأمّة، کما تحمل الزعیم قضیة فی أن یتحلی بسعة الصدر ووسع الفکر بحیث یستطیع استقطاب کافة الأفراد وصهرهم فی کتلة متحدة.

ثم خاض الإمام ثانیة فی رفع معنویاتهم علی أنّ العرب الیوم هم الکثرة رغم قلّتهم وما

ص:418


1- 1) سورة التوبة / 33. [1]
2- 2) سورة غافر / 51. [2]
3- 3) وإن کان لهذه المفردة مفهوم کلی لکنّها تعنی هنا السلک ینظم فیه الخرز.
4- 4) «خرز» : بمعنی حبات السبحة وتکون نفیسة، کما تکون عادیة ویصنع منها المسبحة وأصلها «الخرز» علی وزن الفرض بمعنی ثقب الجلد أو شیء أخر.
5- 5) «حذافیر» : جمع «حذفور و حذفار» علی وزن مضمار بمعنی جانب الشیء وناحیته وحذافیر بمعنی جمیع الجوانب.

ذلک إلّابالإسلام فقهم عزیزون ومقتدرون فی ظل اجتماعهم واتفاقهم فی ظل هذا الدین: «وَالْعَرَبُ الْیَوْمَ وَإِنْ کَانُوا قَلِیلاً، فَهُمْ کَثِیرُونَ بِالْإِسْلَامِ، عَزِیزُونَ بِالاِجْتَِماعِ!» .

فخلص من ذلک إلی نتیجة أصلیة: «فَکُنْ قُطْباً، وَاسْتَدِرِ الرَّحَی بِالْعَرَبِ، وَأَصْلِهِمْ (1)دُونَکَ نَارَ الْحَرْبِ» .

ثم ذکر دلیل ذلک فقال علیه السلام: «فَإِنَّکَ إِنْ شَخَصْتَ (2)مِنْ هذِهِ الْأَرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَیْکَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا، حَتَّی یَکُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَکَ مِنَ الْعَوْرَاتِ (3)أَهَمَّ إِلَیْکَ مِمَّا بَیْنَ یَدَیْکَ» ، إشارة إلی أنّ الإسلام فی بدایاته لحدّ الآن، وما زال المنافقون وسلیلوا عصر الجاهلیة فی صفوف العرب وهم یتربصون الفرصة لطعن المسلمین من الخلف، فلو انطلق القائد وصحبه الأوفیاء إلی نقطة بعیدة یکون المیدان قد خلی للمفسدین والمنافقین، ولعلهم یسببون بعض الأخطار التی تفوق أخطار العدو الخارجی، أضف إلی لذلک فلو اصطدم الجیش بمشکلة فی الجبهات، کان بإمکان القائد إن استقر فی المرکز أن یعبیء جیشاً جدیداً ویبعث به إلی میدان القتال، بینما ینهار سند الجیش إن حضر بنفسه المیدان.

والجدیر بالذکر أنّ العرب فی العبارة «وَالْعَرَبُ الْیَوْمَ. . .» تختلف عن العرب فی العبارة «انْتَقَضَتْ عَلَیْکَ الْعَرَبُ. . .» فالمراد بالاُولی المخلصون من المؤمنین، والثانیة المنافقون الذین یظهرون الإیمان، أو المسلمون الضعاف.

ص:419


1- 1) «اصل» : من مادة «صلی» علی وزن سعی بمعنی دخول النار أو الاحتراق فیها، وإن استعملت فی باب الأفعال عن القذف فی النار، والعبارة إشارة إلی أنّ الجیش حین ینشغل بالحرب علیک بالابتعاد عنهم حتی لا یتمکن العدو من إصابتک.
2- 2) «شخصت» : من مادة «شخوص» علی وزن خلوص تعنی فی الأصل الخروج من المنزل أو المدینة، ولماکان الإنسان یظهر حین الخروج فقد أطلقت علی قامة الإنسان والمرتفعات التی تلوح من بعید، ویقال للمسافر شاخص حیث یبیّن حین دخوله المدینة، وتطلق هذه المفرادة علی کل شیء مرتفع.
3- 3) «عورات» : جمع «عورة» تعنی فی الأصل العیب والعار ولما کان إظهار الآلة الجنسیة مدعاة للعیب والعارفقد اطلقت علیها العرب العورة، ولکن لهذه المفردة معنی أوسع وأشمل وهی النقطة التی یمکن اختراقها وما یخشاه الإنسان ویقلق منه، وحیث کانت حدود کل بلد من المناطق التی یمکن إلحاق الصدر بها والمقلقة فقد استعملت بهذا المجال، إلّاأنّها لا تعنی الحدود خلافاً لما أورده أغلب شرّاح نهج البلاغة، [1] والمراد بها النقاط المضطربة داخل البلد الإسلامی والتی یمکن هجوم المنافقین علیها، والشاهد علی ذلک العبارة ما تدع وراءک، لأنّ الجیش حین یتحرک نحو عدو خارجی لا یبقی خلفه سوی الجبهة الداخلیة للبلاد.

فائدة

ما یستفاد من هذه العبارات دورس مهمّة فی مجال الإدارة والقیادة وتصریف شؤون البلاد:

أولاً: حفظ القائد والزعیم للاُمّة لا من منظار شخصی بل کونها قضیة اجتماعیة تعدّ من أهم الواجبات، وذلک لأنّه رمز وحدة الاُمة وتماسکها، ومن هنا لابدّ من الأخذ بنظر الاعتبار جمیع التدابیر للازمة من أجل حفظه ودفع أی احتمال یمکنه أن یشکل خطراً علیه، سیّما أنّ العدو ومن خلال الاطلاع علی هذا الموضوع یسعی لاستهداف شخص القائد قبل کل شیء، وقد دلت التجربة التاریخیة أنّ أقصر طریق لهزم جماعة یتمثل بدک موقع القیادة واستهداف القائد، ولعلنا نلمس هذا الأمر فی قضیة بنی اسرائیل وقتالهم لجالوت التی عرضها القرآن الکریم حیث استهدف داود شخص جالوت فقتله فانهزم الجیش إثر ذلک.

ثانیاً: علی القائد أن ینظر باحدی عینیه إلی العدو الخارجی وبالاُخری إلی الاعداء فی داخل البلاد، حتی ورد فی هذه الخطبة وکما دلّت التجارب التاریخیة الکثیرة علی خطر العدو الداخلی الذی یفوق الخطر الخارجی، وذلک لأنّ الذی یأتی من الخارج معروف، بینما یتمثل العدو الداخلی عادة بالمنافقین الذین یتخفون بین أبناء المجتمع، فانّ سنحت لهم أدنی فرصة سددوا سهام حقدهم وضربوا ضربتهم، إضافة إلی أنّهم علی علم تام بمواقع الخلل فی الداخل وکیفیة التسلل إلی المناطق، ومن هنا عبّر الإمام علیه السلام عنهم وعن أخطارهم المتوقعة بالعورات وعد أخطارهم من أهم الأخطار.

ص:420

القسم الثانی: الکثرة لا تسبب النصر

اشارة

«إِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنْ یَنْظُرُوا إِلَیْکَ غَداً یَقُولُوا: هذَا أَصْلُ الْعَرَبِ، فَإِذَا اقتطعتموه ] قَطَعْتُمُوهُ [ اسْتَرَحْتُمْ، فَیَکُونُ ذلِکَ أَشَدَّ لِکَلَبِهِمْ عَلَیْکَ، وَطَمَعِهِمْ فِیکَ. فَأَمَّا مَا ذَکَرْتَ مِنْ مَسِیرِ الْقَوْمِ إِلَی قِتَالِ الْمُسْلِمِینَ؛ فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ، هُوَ أَکْرَهُ لِمَسِیرِهِمْ مِنْکَ، وَهُوَ أَقْدَرُ عَلَی تَغْیِیرِ مَا یَکْرَهُ. وَأَمَّا مَا ذَکَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ، فَإِنَّا لَمْ نَکُنْ نُقَاتِلُ فِیَما مَضَی بِالْکَثْرَةِ، وَإِنَّمَا کُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ!» .

الشرح والتفسیر

هذا المقطع من الخطبة فی الواقع تأیید وتأکید للقسم الأول، وقد أشار إلی ثلاث نقاط، الأولی: الدلیل الذی أقامة الإمام علیه السلام علی عدم حضور الخلیفة فی میدان الحرب فقال: «إِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنْ یَنْظُرُوا إِلَیْکَ غَداً یَقُولُوا: هذَا أَصْلُ الْعَرَبِ، فَإِذَا اقتطعتموه ] قَطَعْتُمُوهُ [ اسْتَرَحْتُمْ، فَیَکُونُ ذلِکَ أَشَدَّ لِکَلَبِهِمْ (1)عَلَیْکَ، وَطَمَعِهِمْ فِیکَ» .

الثانیة: «فَأَمَّا مَا ذَکَرْتَ مِنْ مَسِیرِ الْقَوْمِ إِلَی قِتَالِ الْمُسْلِمِینَ؛ فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ، هُوَ أَکْرَهُ لِمَسِیرِهِمْ مِنْکَ، وَهُوَ أَقْدَرُ عَلَی تَغْیِیرِ مَا یَکْرَهُ» ، وتشیر العبارة إلی أنّ عمر قال سابقاً بأنّ الأعاجم قد زحفوا نحونا وینوون قتالنا وهذا یدلّ علی ما یرونه فی أنفسهم من قوّة، ولعل الأمر کان کذلک حسب الظاهر وما تفیده الشواهد التاریخیة، إلّاأنّ الإمام علیه السلام ذکر بقدرة اللّه الخاصة من أجل رفع معنویاته وهو الأمر الذی لمسه المسلمون کراراً فی غزواتهم، ومن

ص:421


1- 1) «کلب» : بمعنی الأذی.

الطبیعی أن یتعقد الأمر لو بقی المسلمون فی دیارهم وهجم علیهم العدو فما أمراهم لو توکلوا علی اللّه وتصدوا للعدو خارج بلادهم.

الثالثة: أنّ الخلیفة الثانی کان یخشی عدم التکافیء وموازنة القوی بین المسلمین والأعداء، فرد علیه الإمام علیه السلام بالقول: «وَأَمَّا مَا ذَکَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ، فَإِنَّا لَمْ نَکُنْ نُقَاتِلُ فِیَما مَضَی بِالْکَثْرَةِ، وَإِنَّمَا کُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ!» ، فقد کان عمر یری قوّة العدو واقتداره فی أمرین، أحدهما کثرتهم وزیادة عددهم، والآخر حرکتهم وهجومهم علی بلاد الإسلام.

وقد صرح الإمام علیه السلام إننا لم نقاتل العدو وننتصر علیهم بهذه القوّة الظاهریة، وقد أیدنا اللّه بنصره ومدده العینی فی جمیع مواقف القتال، وقد انتصرنا رغم قلّة العدد وکثرة العدو وهجومه علینا، وهکذا شجعه الإمام علیه السلام علی مواجهة العدو، وأکد وأیضاً عدم حضوره شخصاً فی الحرب، واستجاب له عمر وکان النصر حلیف المسلمین.

معرکة القادسیة ونهاوند

وقعت معرکتان مهمتان بین المسلمین والساسانیین علی عهد عمر القادسیة (1)فی عام 14 ه ومعرکة نهاوند عام 21 ه، وقد استشار عمر بشأن حضوره القتال، وقد مرّ علینا فی الخطبة أنّ الإمام علیه السلام منعه من ذلک بعد ذکره للأدلة المحکمة، بینما أشار علیه الآخرون بالحضور، فقبل من الإمام علیه السلام وبقی فی المدینة، وذهب بعض المؤرخین إلی أنّ هذه المشورة کانت فی معرکة نهاوند، علی کل حال حین عزم عمر علی عدم الحضور فی القادسیة ولی سعد بن أبی وقاص إمرة الجیش، بینما نصب یزدجرد الساسانی رستم فرخزاد، فبعث سعد رسوله النعمان بن المقرن إلی یزدجرد، فعنفه حیث لم یتوقع ذلک من العرب آنذاک وقال له لولا أنّک رسول لقتلتک، ثم أمر بذر التراب علی رأسه وطرده من المدائن، وقال له أنّ رستم سیدفن قائد عسکرکم فی خندق القادسیة، فلما عاد النعمان إلی سعد، فقال سعد، ابشر أن وضعوا التراب علی رأسک فاننا سنملک بلدهم، والعجیب أنّ رستم کان یخشی قتال المسلمین رغم تعداد جیشه الذی بلغ

ص:422


1- 1) القادسیة کانت من المدن الإیرانیة الغربیة ولم تکن تبعد کثیراً عن الکوفة (ذکر البعض أنّها تبعد تسعین کلیومتراً) وهی الآن من مدن العراق.

120 ألف بینما کان عدد جیش المسلمین بضع وثلاثین ألف.

وأخیراً تقاتل الجیشان، وفی الیوم الأول هجم الساسانیون بفیلهم علی المسلمین، ولکن المسلمین تمکنوا من قطع خراطیمها وقد قتل من العدو فی ذلک الیوم 2000 ومن المسلمین 500، وفی الیوم الثانی تقدم أبوعبیدة الجراح بجیش من الشام لنصرة سعد بن أبی وقاص فقتل من الساسانیین عشرة آلاف بینما قتل ألفان من المسلمین، وفی الیوم الثالث إشتد القتال واستمر القتال حتی الیوم الرابع فبان الضعف علی العدو، فهبت ریح شدیدة فهجم المسلمون علی خیمة رستم، فحاول الهرب لکنه صرع تحت حوافر الخیل، فانهزم الجیش الساسانی فلما بلغ الخبر عمر أمر بعدم تعقیب العدو وأن تستقر الجیش هناک فبقی سعد هناک فی الکوفة فعلاً فبنی مسجداً وباشر بناء الکوفة، أمّا معرکة نهاوند (1)، فقد ذکر الطبری أنّ عمر أراد أنّ یشخص لقتال الجیش الساسانی فی نهاوند فأشار علیه الصحابة حتی خطب الإمام علیه السلام فوافقه عمر وقال هذا هو الصواب.

ثم أمرّ النعمان الذی کان والی البصرة، فواجهة لقتال الفیروزان قائد جیش کسری فی نهاوند، فان قتل خلفه حذیفة ومن بعده نعیم، کما وجه معه طلحة بن خویلد وعمرو بن معدی کرب العارفین بالقتال ثم أمره بمشورتها، وقد قتل النعمان فی المعرکة، فحمل الرایة حذیفة حتی قتل الفیروزان ودخل المسلمون نهاوند وحصلوا عن غنائم کثیرة فبعثوا بها إلی عمر، فلما رآی عمر الغنائم بکی فسألوه عن ذلک، قال: أخشی خداع الناس من هذا الثراء.

قال بعض المؤرخین: أنّ هذه المعرکة حدثت عام 21 ه لسبع سنوات بعد القادسیة وقد انهزم الساسانیون ودخل المسلمون ایران، فما کان من الایرانیین المعروفین بالفطنة إلّاأنّ تعرفوا علی الإسلام واعتنقوه فأصبحوا من رواد العلوم الإسلامیة.

والجدیر بالذکر أنّ مقاومة الایرانیین ترکزت فی القادسیة ونهاوند، بینما کانوا یستقبلون المسلمین حین دخلوا من سائر المدن، ولم یبدو أیة مقاومة، فقد کانوا یعانون من الساسانیین من جانب، ومن جانب آخر رأوا نجاتهم فی الإسلام (2).

ص:423


1- 1) نهاوند مدینة معروفة غرب ایران وهی الآن تابعة لمحافظة همدان ولا تبعد عنها کثیراً.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 9/96 - 102؛ وتاریخ الطبری 3/202.

ص:424

الخطبة المأة والسابعة والأربعون

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطبَةٍ لهُ علیه السلام

فی الغایة عن بعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، وأهمیّة القرآن، والإخبار عن المستقبل

نظرة إلی الخطبة

تتألف هذه الخطبة من عدّة أقسام:

القسم الأول: إشارة إلی أهداف بعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ودور القرآن فی هدایة الناس.

القسم الثانی: یخبر فیه الإمام علیه السلام عن الفتن القادمة ویتحدث عن وقت یغرق الناس فیه بالذنوب والمعاصی وینسون القرآن.

القسم الثالث: إنذار الناس والتذکیر بعاقبة الأقوام السابقة التی صب علیها البلاء.

القسم الرابع: بین فیه الإمام علیه السلام بعض المواعظ الموثرة والمفیدة وقد دعی الناس إلی إتباع القرآن وأهل البیت علیهم السلام من أجل النجاة من الفساد.

ص:425


1- 1) سند الخطبة: نقلها قبل السید الرضی باختلاف طفیف المرحوم الکلینی فی کتاب روضة الکافی، وقد اُشیر فی الخطبة 237 إلی جزء من هذه الخطبة کما وردت إشارة إلی جانب منها فی قصار الکلمات، الکلمة 98 (مصادر نهج البلاغة 2/331) .

ص:426

القسم الأول: تجلی اللّه لعباده فی القرآن

اشارة

«فَبَعَثَ اللّهُ مُحَمَّداً صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، بِالْحَقِّ لِیُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ إِلَی عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّیْطَانِ إِلَی طَاعَتِهِ، بِقُرْآنٍ قَدْ بَیَّنَهُ وَأَحْکَمَهُ، لِیَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ، وَلِیُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ، وَلِیُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْکَرُوهُ. فَتَجَلَّی لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِی کِتَابِهِ مِنْ غَیْرِ أَنْ یَکُونُوا رَأَوْهُ، بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَخَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ، وَکَیْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلَاتِ، وَاحْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ!» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة - کما ذکر ذلک الشارح البحرانی - إلی بعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ثم شرح أهداف البعثة، ثم أشار إلی الوسیلة التی اعتمدها لتحقیق ذلک الهدف وهی القرآن الکریم فقال: «فَبَعَثَ اللّهُ مُحَمَّداً صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، بِالْحَقِّ لِیُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ إِلَی عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّیْطَانِ إِلَی طَاعَتِهِ» ، یالها من عبارة بلیغة رائعة وقصیرة بشأن الهدف من بعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والتی تستند إلی رکنین:

الأول: ترک عبودیة الأصنام والتمسک بالتوحید فی العبادة، أی عبادة اللّه.

الثانی: التحرر من طاعة الشیطان والاقبال علی طاعة اللّه سبحانه وتعالی.

لا شک أنّ طاعة الشیطان نوع من الوثنیة، وعلیه فهی داخلة فی مفهوم العبارة الاُولی یعنی عبادة الأوثان، إلّاأنّ تقابل هاتین العبارتین یفید أنّ العبادة قد استعملت فی معناها الخاص، والمراد طاعة الشیطان، إتباع أوامره لا عبادته، علی کل حال فانّ للأوثان والشیطان فی هاتین

ص:427

العبارتین مفهوم واسع یشمل کل معبود غیر اللّه سبحانه وتعالی ویضم شیاطین الانس والجن، وبناءاً علی هذا یدخل فی مفهوم هذه الجمل التسلیم لحکام الظلم والجور وطاعة أوامرهم والاستسلام للاستعمار والاستغلال والانصیاع للقوانین غیر الشرعیة، وهذا هو هدف البعثة والذی یتمثل بالتحرر من کل هذه الأمور.

نقل المرحوم الکلینی فی الکافی العبارات المذکورة بهذه الصیغة: «إِنَّ اللّهَ تَبَارَکَ وَتَعالی بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله بِالحَقِّ لِیُخرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَة عِبَادِهِ إِلی عِبَادَتِهِ وَمِنْ عُهُودِ عِبَادِهِ إِلی عُهُودِهِ وَمِنْ طَاعَةِ عِبَادِهِ إِلی طَاعَتِهِ وَمِنْ وِلایَةِ عِبَادِهِ إِلی وَلایَتِهِ» (1).

وهکذا بیّن الإمام الهدف الأصلی لبعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والذی تعود إلی سائر الأهداف بهذه العبارات المختصرة وقد أماط کل إبهام.

ثم أشار علیه السلام إلی الوسیلة اللازمة لتحقیق هذا الهدف السامی فقال: «بِقُرْآنٍ قَدْ بَیَّنَهُ وَأَحْکَمَهُ، لِیَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ، وَلِیُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ، وَلِیُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْکَرُوهُ» .

لا شک أنّ مشرکی العرب کانوا یؤمنون باللّه ویعترفون بوجوده وأنّه خالق السماوات والأرض ویرون الأوثان شفعائهم إلیه، ولکن لیس لهذا الاعتقاد الممزوج بالشرک أیة قیمة، وقد بعث اللّه نبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله لیطهّر أرواحهم وأفکارهم من أدران الشرک والوثنیة ویشدهم نحو التوحید والعبودیة الخالصة، وهذا فی الواقع وظیفة کافة الأنبیاء والمرسلین فی تطهیر التوحید من رواسب الشرک.

وقال علیه السلام فی تعریفه للقرآن وآثاره البنّاءة فی الفکر والعمل: «فَتَجَلَّی (2)لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِی کِتَابِهِ مِنْ غَیْرِ أَنْ یَکُونُوا رَأَوْهُ، بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ» .

والعبارة إشارة إلی آیات التوحید وبیان أسماء اللّه وصفاته والتی تفعل مثل هذا الفعل فی الإنسان حین یتأملها وکأنّه یری اللّه سبحانه وتعالی جهرة، نعم یراه ولکن بالبصیرة لا

ص:428


1- 1) الکافی 8/386. [1]
2- 2) «تجلی» : من مادة «تجلی» وأصل جلو علی وزن دلو بمعنی الظهور والبروز، وتجلی اللّه بمعنی أنّ آیاته علی درجة من الوضوح وکأنّه یمکن رؤیته من خلالها.

بالبصر، احتمل البعض أنّ المراد بالکتاب هنا کتاب عالم التکوین المملوء بآیات اللّه سبحانه بحیث نشاهدها أینما نظرنا (1)، ولکن یبدو هذا المعنی مستبعداً بالاستناد إلی العبارة السابقة التی أشیر فیها إلی القرآن فی العبارة اللاحقة إلی الإنذار الإلهی، والمراد بالکتاب القرآن الکریم، ولما کان تجلی اللّه بواسطة الآیات القرآنیة قد یوهم إمکانیة رؤیة اللّه بالعین، فقد صرّح عقیب ذلک مباشرة بأنّ هذا التجلی یحصل دون رؤیة بالبصر.

وأشار فی العبارة القادمة إلی جانب آخر من آیات القرآن الکریم وهی آیات الإنذار والتخویف، فقال علیه السلام: «وَخَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ» ، ثم تطرق بعد ذلک إلی القصص الألیمة للأقوام السابقة وما تنطوی علیه من دروس وعبر فقال: «وَکَیْفَ مَحَقَ (2)مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلَاتِ (3)، وَاحْتَصَدَ (4)مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ!» .

وأخیراً مازال هناک احتمال فی تفسیر العبارات المذکورة فی أنّ اللّه تعالی قد تجلی فی کتابه بجمیع هذه الموارد (آیات القدرة والتخویف من السطوة والقصص الألیمة للأقوام العاصیة) .

کیفیة تجلی اللّه فی القرآن

کما شحن کتاب عالم التکوین بآثار عظمة اللّه وقدرته فی آیات الآفاق والأنفس وفی السماوات والأرض وفی أکثر المنظومات والکرات السماویة وفی أصغر ذرات وجودنا، وکما صور ذلک الشاعر بأنّ کل نبات یخرج من الأرض یهتف وحده لا شریک له، وکذلک الذات الإلهیّة متجلیة فی القرآن الکریم، حین یتحدث عن آیاته فی السموات والأرض وحین یستعرض نعم الجنان ونقم النیران وحین یتحدث عن قدرته الباهرة فی الخلق وحین یکشف اللثام عن صفات جلاله وجماله ورحمانیته، فذاته ظاهرة متجلیة فی کل هذه الآیات وقد قال

ص:429


1- 1) قال الشاعر: وله فی کل شیء آیة تدلّ علی أنّه واحد
2- 2) «محق» : من مادة «محق» علی وزن خلق بمعنی المحو الکامل أو إزالة برکة الشیء.
3- 3) «المثلات» : جمع «مثلة» علی وزن عضلة بمعنی العقوبة.
4- 4) «احتصد» : من مادة «حصد» بمعنی القطف.

بعض الأعلام أنّ أغلب المکاشفات تتم حین تلاوة القرآن الکریم والتدبیر فی مفاهیمه، أجل لا یمکن رؤیة اللّه سبحانه بهذه العین، بینما یمکن رؤیته بعین القلب ومن خلال آیاته القرآنیة، فما أحرانا بالنظر إلی عالم التکوین والتفکیر وفی أسرار الوجود ومن ثم نفتح القرآن الکریم ونطالع آیات التکوین فی الکتاب التدوین، حقّاً لو کان لنا مئة ألف عین لشاهدنا مئة ألف تجلی من تجلیات الحق تبارک وتعالی.

ص:430

القسم الثانی: لا یبقی من القرآن سوی اسمه

اشارة

«وَإِنَّهُ سَیَأْتِی عَلَیْکُمْ مِنْ بَعْدِی زَمَانٌ لَیْسَ فِیهِ شَیْءٌ أَخْفَی مِنَ الْحَقِّ، وَلَا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلَا أَکْثَرَ مِنَ الْکَذِبِ عَلَی اللّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَلَیْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذلِکَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْکِتَابِ إِذَا تُلِیَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَلَا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ وَلَا فِی الْبِلَادِ شَیْءٌ أَنْکَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْکَرِ! فَقَدْ نَبَذَ الْکِتَابَ حَمَلَتُهُ، وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ؛ فَالْکِتَابُ یَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِیدَانِ مَنْفِیَّانِ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ، فِی طَرِیقٍ وَاحِدٍ لَایُؤْوِیهِمَا مُؤْوٍ. فَالْکِتَابُ وَأَهْلُهُ فِی ذلِکَ الزَّمَانِ فِی النَّاسِ وَلَیْسَا فِیهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَیْسَا مَعَهُمْ! لِأَنَّ الضَّلَالَةَ لَاتُوَافِقُ الْهُدَی، وَإِنِ اجْتَمَعَا. ف َاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَی الْفُرْقَةِ، وَافْتَرَقُوا عَلَی الْجَمَاعَةِ، کَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْکِتَابِ وَلَیْسَ الْکِتَابُ إِمَامَهُمْ، فَلَمْ یَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ اسْمُهُ، وَلَا یَعْرِفُونَ إِلاَّ خَطَّهُ وَزَبْرَهُ. وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِینَ کُلَّ مُثْلَةٍ، وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَی اللّهِ فِرْیَةً، وَجَعَلُوا فِی الْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّیِّئَةِ» .

الشرح والتفسیر

تحدّث الإمام علیه السلام فی القسم المذکور عن ظهور الإسلام والهدف من بعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والآثار العظیمة للقرآن فی الهدایة، ثم واصل علیه السلام کلامه فی هذا القسم بالحدیث عن زمان لا یبدو بعیداً وسیشهد تغیراً تاماً فی الأوضاع بما یهدد بالخطر جهود النبی صلی الله علیه و آله فینذر کافة المؤمنین بالالتفات إلی الأخطار التی تتربص بهم، فاستهل علیه السلام کلامه ببیان الوضع فی ذلک الزمان بسبع عبارات قصیرة بلیغة فقال: «وَإِنَّهُ سَیَأْتِی عَلَیْکُمْ مِنْ بَعْدِی زَمَانٌ لَیْسَ فِیهِ

ص:431

شَیْءٌ أَخْفَی مِنَ الْحَقِّ، وَلَا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلَا أَکْثَرَ مِنَ الْکَذِبِ عَلَی اللّهِ وَرَسُولِهِ» ، کما لیست لدی الناس من سلعة أبور من القرآن الکریم آنذاک إن فسّر وتلی حق تلاوته، بینما یزداد الإقبال علیه إن حرّف عن معناه الحقیقی: «وَلَیْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذلِکَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ (1)أَبْوَرَ (2)مِنَ الْکِتَابِ إِذَا تُلِیَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَلَا أَنْفَقَ (3)مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ وَلَا فِی الْبِلَادِ شَیْءٌ أَنْکَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْکَرِ! فَقَدْ نَبَذَ الْکِتَابَ حَمَلَتُهُ، وَتَنَاسَاهُ (4)حَفَظَتُهُ» .

نعم، ستظهر غیوم الجاهلیة ثانیة فی سماء الإسلام فتحجب شعاع شمس النبوّة والقرآن فیتغیر کل شیء وتنطمس حقائق الإسلام ویستولی سلیلوا أئمّة الکفر والشرک والوثنیة علی الحکومة الإسلامیة فتعانی الاُمة من ظلمات الجهل والجور، والسؤال المطروح أی زمان هذا الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام؟ هل المراد زمان معین؟ أم الحکومة مفهوم عام ویشمل مختلف الأزمنة حتی زماننا الحاضر؟ هناک خلاف بهذا الشأن بین شرّاح نهج البلاغة، ولکن بالنظر إلی العبارة «سیأتی» التی تفید عادة الإخبار عن المستقبل القریب والتعبیر ب «علیکم» ومن بعدی التی تشیر إلی درک مخاطبیه له، یبدو أنّه إشارة إلی زمان سیطرة بنی اُمیة ومعاویة ویزید وسائر حکامهم الذین تنطبق علیهم هذه الصفات، نعم، فهؤلاء الذین کتموا الحق وقطعوا رقبة کل من تعصب له، إلی جانب ذلک فقد إتسق سوق الکذابین والوضاعین والمتملقین لبنی اُمیة ممن اندفع فی مدحهم والثناء علیهم، فقد ظهرت المنکرات فی کل مکان وضاع المعروف.

طبعاً لا ننکر أنّ هذا الأمر حدث ویحدث فی سائر الأزمنة وحتی فی عصرنا، مع ذلک فمراد الإمام علیه السلام من هذه العبارات العصر المظلم لبنی اُمیة.

ثم خاض الإمام علیه السلام فی وضع القرآن وأصحابه فی ذلک الزمان المظلم وشرح علّة بؤس الناس آنذاک والتی تتمثل بابتعادهم عن القرآن: «فَالْکِتَابُ یَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِیدَانِ (5)مَنْفِیَّانِ (6)،

ص:432


1- 1) «سلعة» : المتاع والبضاعة.
2- 2) «أبور» : من مادة «بوار» شدّة کساد الشیء والأرض البائر والبوار المیتة الخالیة من النبات.
3- 3) «أنفق» : فعل تفضیل من مادة «نفاق» لها معانی مختلفة واُرید بها هنا غلاء السلعة ورواجها.
4- 4) «تناسا» : من مادة نسیان.
5- 5) «طریدان» : مثنی «طرید» من مادة طرد ومعناها معروف.
6- 6) «منفیان» : من مادة «نفی» بمعنی الابعاد.

وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ، فِی طَرِیقٍ وَاحِدٍ لَایُؤْوِیهِمَا (1)مُؤْوٍ» .

ثم أکّد علیه السلام قائلاً: «فَالْکِتَابُ وَأَهْلُهُ فِی ذلِکَ الزَّمَانِ فِی النَّاسِ وَلَیْسَا فِیهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَیْسَا مَعَهُمْ!» ، فهم یتلون القرآن فی دورهم وعلی منابرهم، ویقبّلونه ویتبرکون به، بینما لیس هنالک أدنی أثر لتعالیمه ومفاهیمه فی حیاتهم الفردیة والاجتماعیة، فقد اکتفوا من القرآن بغلافه وترکوا مضمونه، إنهمکوا بالألفاظ وأهملوا المعانی.

ثم خاض علیه السلام فی الدلیل قائلاً: «لِأَنَّ الضَّلَالَةَ لَاتُوَافِقُ الْهُدَی، وَإِنِ اجْتَمَعَا» . نعم، فالضالون فی وادی والهدی وأتباعه فی وادی آخر، وإن کانوا معاً فی الظاهر، والدلیل الآخر المهم لشقائهم: «فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَی الْفُرْقَةِ، وَافْتَرَقُوا عَلَی الْجَمَاعَةِ، کَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْکِتَابِ وَلَیْسَ الْکِتَابُ إِمَامَهُمْ» ، بعبارة أخری فقد اتفقوا علی أن لا یتفقوا، وقد أدّت هذه الفرقة إلی أن یفسّر کل القرآن حسب رغبته، أو بعبارة أخری فقد أسسوا بنیانهم علی التفسیر بالرأی، یأخذون ما ینسجم مع رغباتهم من آیات بینما یسعون لتوجیه البعض الآخر من الآیات التی تتعارض وأهوائهم بما یتفق ورغباتهم، فهم یجعلون أنفسهم أئمة القرآن بدلاً من أن یکون القرآن الکریم إمامهم، ولذلک فهم لا ینتفعون بالقرآن، بل یجعلونه الموجّه لضلالهم، فیزدادوا ضلالاً وبعداً عن القرآن الکریم.

ثم رسم صورة واضحة عن مصیر القرآن فی ذلک العصر والزمان بعبارة رائعة لا تماثلها عبارة فقال علیه السلام: «فَلَمْ یَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ اسْمُهُ، وَلَا یَعْرِفُونَ إِلاَّ خَطَّهُ وَزَبْرَهُ (2)» ، فقد یسطر القرآن بخطوط غایة فی الجمال وتذهب صفحاته وغلافه ویبتدعوا روائع الفن بهذا الخصوص وتتداول الأیدی القرآن ویتلی فی المساجد بمختلف الأصوات بصورة فردیة وجماعیة، ولکن دون أن یکون هناک أدنی خبر عن مضمونه ومحتواه، بالضبط کالدواء الشافی الذی یوضع فی زجاجة جمیلة تترک علی الرف دون أن یتناول المرضی منها شیئاً، وهنا یبرز هذا السؤال: هل الصالحون والمؤمنون وأصحاب القرآن صامتون فی ذلک الزمان؟ کأنّ الإمام علیه السلام أجاب فی

ص:433


1- 1) «یؤوی» : من مادة «ایواء» بمعنی الملاذ والملجأ.
2- 2) «زبر» : بالفتح الکتابة (وقد جاء بالمعنی المصدری واسم المصدر) .

العبارة الأخیرة علی هذا السؤال فقال: «وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا (1)بِالصَّالِحِینَ کُلَّ مُثْلَةٍ، وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَی اللّهِ فِرْیَةً (2)، وَجَعَلُوا فِی الْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّیِّئَةِ» .

فالعبارة إشارة إلی التاریخ الأسود لبنی اُمیة الذین مثلوا بالصالحین من العباد لما رأوهم یشکلون خطراً علیهم، حتی قیل بلغ تعداد من قتلهم معاویة ما یزید علی الأربعین ألف من المهاجرین والأنصار.

ولا نری من حاجة لاستعراض تلک الفاجعة التی إرتکبها ولده یزید بحق الحسین علیه السلام وأنصاره فی کربلاء، کما لا یمکن إحصاء من قتلهم عبدالملک بن مروان وعامله الحجاج من أهل العراق والحجاز (3)، وهکذا أخمدوا کل دعوة حق وقطعوا کل لسان صدق ومهدوا السبیل لإملاء أفکارهم ورغباتهم.

تأمّلان

1- أبشع عصور الإسلام

لا شک إنّ عصر حکومة بنی اُمیة من أبشع العصور التی شهدتها الاُمة الإسلامیة، ویشترک حکام بنی اُمیة من معاویة حتی أخرهم الذی بعرف بمروان الحمار فی ثلاث خصال هی: الجلافة والقسوة المتناهیة وحبّ الحکومة والذوبان فیها مهما کان الثمن لبلوغها وحسن الثأر والانتقام، ومن هنا فقد ضحوا بکل معانی الحق والعدل والشرف والإنسانیة من أجل حکومتهم المقیتة فارتکبوا من الظلم والجور ما لم یرد مثیله فی التاریخ، وقد أذاقوا دعاة الحق

ص:434


1- 1) «مثلوا» : من مادة «تمثیل» وأصلها «المثلة» بمعنی التنکیل والتشنیع.
2- 2) «فریة» : من مادة «فری» علی وزن فرد تعنی فی الأصل القطع، ولما کان قطع الشیء یؤدّی إلی فساده غالباً، فهی تطلق علی کل خلاف ومنه الکذب والتهمة.
3- 3) روی ذلک المرحوم العلّامة الحلی فی کتاب «کشف الحق» عن کتاب «الهاویة» (شرح نهج البلاغة للعلّامةالخوئی 9/70) .

وصحابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله الأمرّین بین قتل وتشرید وقطع الرأس ونفی وصلب وحصار فی البیت من أجل تلک الحکومة، وهذا ما أشآر إلیه الإمام علیه السلام فی عباراته الأخیرة من هذا القسم من الخطبة، إلّاأنّ أهم کهف کانت تلوذ به الاُمة الإسلامیة والذی یشکل أکبر عقبة تعترض طریقهم إنّما هو القرآن، القرآن الذی أعلن الحرب ضد الظلمة، والطغاة وهدد دائماً عروش الغاشمین، وکان المعیار لتمییز الحکومة الإسلامیة من الحکومالت الغاصبة والظالمة والکافرة، فما کان من اُولئک الطغاة إلّاأن وظفوا أشباه العلماء ووعاظ السلاطین ویهدف إزالة تلک العقبة عن طریقهم بتفسیر القرآن حسب أهوائهم، فی أنّ آیاته تشهد بحقانیة اُولئک الغرباء علی القرآن والبعیدین عن الحق تبارک وتعالی، کما منعوا من یرون تلاوة القرآن حق تلاوته، وهکذا لم یبق من القرآن سوی اسمه ورسمه فحکم علیه بأن یصبح کالسجین الذی أودع زنزانة إنفرادیة مخیفة لیبعد عن أفکار الناس، وهو الأمر الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة.

فقد جاء فی الخبر أنّ معاویة حین قدم المدینة مرّ بمجلس من کبار قریش، فلما رأواه قاموا له خوفاً سوی ابن عباس، فقال له مالک لا تقوم یابن عباس أهی صفین، فقد قتل عثمان مظلوماً (وهذا ما دفعنا للقتال) .

فقال ابن عباس: فقد قتل عمر بن الخطاب مظلوماً (لماذا لم تقم لنصرته) ، فقال معاویة: إنّ کافراً قتل عمر. قال ابن عباس: فمن هم قتلة عثمان، قال معاویة: المسلمون. قال ابن عباس: فهذه علیک لا لک.

قال معاویة: لقد أمرنا بعدم ذکر فضائل علی وأهل بیته فاحفظ لسانک. قال ابن عباس: ، أتمنعنا من قراءة القرآن؟ قال: لا. قال ابن عباس: تمنعنا من تأویله؟ قال معاویة: بلی، لک القراءة دون التأویل، وإن کان ولابدّ فلا تحدث بفضائل أهل البیت.

ثم أمر لابن عباس بمئة ألف درهم (لیمزج الترهیب والترغیب لیتمکن بکل الوسائل من إسکات ابن عباس) (1)، ومن أراد المزید بشأن جنایات بنی اُمیة والتعرف علیهم بدقّة علی ضوء القرآن وأخبار العامّة والأعمال التی قاموا بها من أجل مسخ المعارف الإسلامیة وتحریفها فلیراجع المجلد الثالث من هذا الکتاب.

ص:435


1- 1) بحار الانوار 44/124.
2- التاریخ یعید نفسه

ما أورده الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة بشأن العصر المظلم للحکومة الاُمویة بأنّ لا یبقی من القرآن إلّااسمه لا یقتصر علی ذلک الزمان، والمؤسف له أنّ ذلک الأمر قد تکرر فی مختلف النقاط وإن لم یبلغ ما بلغه أبان الحکومة بنی اُمیة، وما زلنا نلمس نماذج ذلک حتی فی عصرنا.

وقد وردت للإمام علیه السلام عبارة أشمل فی قصار کلماته بهذا الخصوص إذ قال: «یَأتِی عَلَی النَّاسِ زَمَانٌ لایَبقَی فِیهِن مِنَ القُرآنِ إِلّا إِسمُهُ وَمِنَ الإسلامِ إلّاإِسمُهُ وَمَسَاجِدُهُم یَومَئِذٍ عَامِرَةٌ مِنَ البِنَاءِ خَرابٌ مِنَ الهُدی، سُکَّانُها وَعُمَّارُها شِرُّ أَهلِ الأَرضِ مِنهُم تَجرُجُ الفِتنَةُ وَإِلَیهِم تَأَوی الخَطِیئَةُ» . (1)

ص:436


1- 1) بحار الانوار 44/124. [1]

القسم الثالث: أسباب شقاء الإنسان

«وَإِنَّمَا هَلَکَ مَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَتَغَیُّبِ آجَالِهِمْ، حَتَّی نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ الَّذِی تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ، وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، وَتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَالنِّقْمَةُ» .

الشرح والتفسیر

أنذر الإمام علیه السلام الجمیع فی هذا المقطع من الخطبة ودعاهم لتأمل تاریخ الاُمم السابقة ویفکروا فی أسباب بؤسهم وشقائهم فیعتبروا بذلک حیث قال: «وَإِنَّمَا هَلَکَ مَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَتَغَیُّبِ آجَالِهِمْ، حَتَّی نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ» ، المراد بالهلک فی قوله إنّما هلک حسب ما ذهب إلی جمع من شرّاح نهج البلاغة الهلاک المعنوی یعنی الضلالة التی ینتج عنها العذاب الاُخروی، ولکن لا یبعد أن تشمل الهلاک المعنوی والاُخروی وکذلک المادی والدنیوی، أی أنّ طول الأمل ونشیان أجل الحیاة والغرق فی الشهوات، إنّما یفسد الآخرة ویحط من قدر وعظمة الإنسان فی الدنیا، وبالتالی تعرضهم لأنواع العذاب الدنیوی من قبیل طوفان قوم نوح وزلزلة قوم لوط والصواعق السماویة التی أصابت الأقوام الأخری.

نعم، فتغیب الآجال أحد آثار طول الأمل والذی یعد من أعدی أعداء سعادة الإنسان، لأنّه یلقی بحجاب ضخم علی بصیرة العقل ویجعل الهوی حاکماً علیه ویقذف بالإنسان فی مستنقع الذنوب والمعاصی، وهذا ما ورد عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین علی علیه السلام: «وَأَمّا طُولِ الأَمَلِ فَیُنسِی الآخِرَةَ» (1)، ویفهم من العبارة: «حَتّی نَزَلَ بِهِم المَوعُودُ» ، أنّ اُولئک

ص:437


1- 1) الخطبة 42؛ بحار الانوار [1] 70/91.

الأفراد یفیقون فی تلک اللحظة، أجل یفیقون، ولکن حیث لا ینفعهم ذلک، ولذلک قال الإمام علیه السلام: «الَّذِی تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ، وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، وَتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ (1)وَالنِّقْمَةُ (2)» .

نعم، فمصدر کل تلک الجنایات والمخالفات التی ورد الکلام عنها فی القسم السابق من الخطبة إنّما یکمن فی حبّ الدنیا وطول الأمل ونسیان الأجل، الأجل الذی لا رجعة فیه ولا یمکن تدارک ما فرط من الإنسان فیه.

ص:438


1- 1) «قارعة» : من مادة «قرع» علی وزن فرع بمعنی ضرب شیء بآخر وتطلق القارعة علی کل حادثة مهمّة ومهلکة.
2- 2) «النقمة» : تعنی فی الأصل استقباح الشیء بحیث تحصل أحیاناً باللسان وأخری بصورة عقوبة علمیة، ومن هنا غالباً ما تستعمل هذه المفردة بمعنی العقوبة.

القسم الرابع: سبیل النجاة

اشارة

«أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللّهَ وُفِّقَ، وَمَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِیلاً هُدِیَ (لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ) ؛ فَإِنَّ جَارَ اللّهِ آمِنٌ، وَعَدُوَّهُ خَائِفٌ؛ وَإِنَّهُ لَایَنْبَغِی لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللّهِ أَنْ یَتَعَظَّمَ، فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِینَ یَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ یَتَوَاضَعُوا لَهُ، وَسَلَامَةَ الَّذِینَ یَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ یَسْتَسْلِمُوا لَهُ. فَلَا تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِیحِ مِنَ الْأَجْرَبِ، وَالْبَارِی مِنْ ذِی السَّقَمِ. وَاعْلَمُوا أَنَّکُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّی تَعْرِفُوا الَّذِی تَرَکَهُ، وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمِیثَاقِ الْکِتَابِ حَتَّی تَعْرِفُوا الَّذِی نَقَضَهُ، وَلَنْ تَمَسَّکُوا بِهِ، حَتَّی تَعْرِفُوا الَّذِی نَبَذَهُ. فَالَْتمِسُوا ذلِکَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ، فَإِنَّهُمْ عَیْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ. هُمُ الَّذِینَ یُخْبِرُکُمْ حُکْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ؛ لَایُخَالِفُونَ الدِّینَ وَلَا یَخْتَلِفُونَ فِیهِ؛ فَهُوَ بَیْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ» .

الشرح والتفسیر

تحدّث الإمام علیه السلام فی هذا القسم السابق عن فئة ضالة ومستبدة غیرت جمیع الحقائق وإرتکبت أفضع الجرائم، ثم حل أجلها ولم تتب إلی ربّها فسارعت إلی عالم آخر لیصب علیها العذاب، فأبان الإمام علیه السلام فی هذا المقطع سبیل النجاة حتی لا یبتلی الآخرون بذلک المصیر الأسود فقال: «أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللّهَ وُفِّقَ، وَمَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِیلاً هُدِیَ (لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ)» ، نعم، هذه هی الخطوة الاُولی من أجل الإهتداء إلی الحق والصراط المستقیم ثم استدلّ علی ذلک بقوله: «فَإِنَّ جَارَ اللّهِ آمِنٌ، وَعَدُوَّهُ خَائِفٌ» .

ص:439

وأضاف بعد ذلک بهدف استماع الناس للمواعظ الإلهیّة ویبعدوا عنهم الکبر والغرور ویسلموا لأوامر اللّه: «وَإِنَّهُ لَایَنْبَغِی لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللّهِ أَنْ یَتَعَظَّمَ، فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِینَ یَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ یَتَوَاضَعُوا لَهُ، وَسَلَامَةَ الَّذِینَ یَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ یَسْتَسْلِمُوا لَهُ» ، فی إشارة إلی أنّ اُولئک الذین یعیشون الغرور والتکبر غافلون عن عظمة اللّه سبحانه، والذین یغترون بقدرتهم جاهلون بقدرة اللّه تعالی، أمّا من عرف اللّه وقدرته فهو یدرک أنّه لا شیء تجاهه، علیه فلا داعی لهذا الکبر والغرور الفارغ.

ثم قال علی سبیل الاستنتاج: «فَلَا تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِیحِ مِنَ الْأَجْرَبِ، وَالْبَارِی (1)مِنْ ذِی السَّقَمِ» ، إشارة إلی أنّ سعادتکم وفلاحکم وسلامتکم فی إتباع الحق، وأنّ النزوع نحو الباطل نوع من أنواع المرض والسقم، لکن من المؤسف هناک من یهرب من الحق وکأنّه یفر من مرض معدی، أو حسب تعبیر القرآن الکریم: «کَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» (2).

ثم عرض الإمام علیه السلام فی الخطوة التالیة سبیلاً واضحاً بهدف هدایة مخاطبیه إلی الحق وإبعادهم عن الباطل فقال: «وَاعْلَمُوا أَنَّکُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّی تَعْرِفُوا الَّذِی تَرَکَهُ، وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمِیثَاقِ الْکِتَابِ حَتَّی تَعْرِفُوا الَّذِی نَقَضَهُ، وَلَنْ تَمَسَّکُوا بِهِ، حَتَّی تَعْرِفُوا الَّذِی نَبَذَهُ» ، والواقع هذا هو أحد طرق معرفة الحق والباطل والذی ینطوی تحت القاعدة المعروفة: «تعرَفُ الأَشیاءُ بِأضدَادها» ، فالإنسان یجهل معنی العافیة ما لم یمرض ولا یدرک مفهوم الضیاء ما لم یری الظلمة، فقد اعتبر الإمام علیه السلام - فی هذا المقطع من الخطبة کما ورد فی العبارة المذکورة - التعرف علی تارکی الحق ومخالفیه کطریق بلوغ الحق، فأشار إلی ثلاث طوائف: طائفة ترکت الحق، وطائفة نقضت میثاق القرآن، والطائفة الثالثة التی نبذته وراء ظهرها، والفارق بین هذه الطوائف الثلاث واضح، فالبعض یترک الحق دون أن یحضره والبعض الآخر یحقره علاوة علی ترکه، وأخیراً هناک من ینقض عهود اللّه ومواثیقه، والذی وردت الإشارة

ص:440


1- 1) «الباریء» : من مادة برء علی وزن قفل لها معنیان: الأول: بمعنی الخالق والایجاد ومن هنا یقال للّه الباریء، والآخر: بمعنی الابتعاد عن الشیء ولذلک تستخدم بمعنی العافیة والبعد عن المرض وهذا هو المعنی المراد بها فی عبارة الخطبة.
2- 2) سورة المدثر / 50 - 51. [1]

إلیه فی الآیة القرآنیة الشریفة: «أَلَمْ یُؤْخَذْ عَلَیْهِمْ مِیثَاقُ الْکِتَابِ أَنْ لَایَقُولُوا عَلَی اللّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِیهِ. . .» (1)، والآیة صادقة علی الآخرین وإن کانت فی الظاهر فی بنی اسرائیل.

نعم، یمکن الظفر بسبیل الحق من خلال معرفة هؤلاء التارکین للحق والناقضین لمواثیق اللّه والمحقرین لکتاب اللّه، ومعرفة المبادیء التی تسود حیاتهم.

ثم عرض الإمام علیه السلام طریقاً آخر فی آخر قسم من هذه الخطبة من زیادة الاطمئنان بهدف الظفر بالحق وإدراک مفاهیم القرآن الکریم وهو التمسک بأهل البیت من عترة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بفضلهم أحد الثقلین الذین خلفهما النبی فی الاُمة، فقال علیه السلام: «فَالَْتمِسُوا ذلِکَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ، فَإِنَّهُمْ عَیْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ. هُمُ الَّذِینَ یُخْبِرُکُمْ حُکْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ؛ لَایُخَالِفُونَ الدِّینَ وَلَا یَخْتَلِفُونَ فِیهِ؛ فَهُوَ بَیْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ» .

فقد وصف الإمام علیه السلام أهل البیت علیهم السلام فی هذه العبارات القصیرة والعمیقة المعنی بأوصاف منها: «فَإِنَّهُمْ عَیْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ. . .» ، حیث عندهم علم اللّه تعالی وسنّة النبی صلی الله علیه و آله، فأینما یحلّون یکشفون الظلام بنورهم، وحکمهم (سواء کان الحکم بمعنی القضاء أوالحکم بمعنی کافة وصایاهم وبیانهم للحلول) ینطق عن علمهم، وصمتهم العمیق المعنی یفید منطقهم ومقاصدهم (لأنّ السکوت أبلغ من الکلام فی أغلب الموارد) ، وظاهر علی قدر من الرزانة والإخلاص والطهر بحیث یعکس طهارة ونقاء باطنهم، من خصائصهم الأخری أن علمهم لا یختلف مع الدین قط ولا یختلفون فی تفسیرهم لحقائق الدین، ولا غرو فعلومهم تنبع من ذات المصدر، ومن هنا لدیهم حقیقة الدین والقرآن وروحهما، فی حدیث الثقلین: «. . . إِنّهما لَن یَفتَرِقا (العترة والقرآن) مَا إن تَمَسَّکُتُم بِهِما فَلَن تَضِلُوا. . .» .

ص:441


1- 1) سورة الأعراف / 169. [1]

تأمّل: معرفة الأشیاء بأضدادها

کثیرة هی طرق معرفة الحق والباطل والمهم أن یعزم الإنسان علی معرفة الحق ویتجه قدماً بشجاعة - وإحدی هذه الطرق ما أشار إلیه الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة والذی یتمثل بمطالعة الأضداد.

فانّ رأی الإنسان المصیر الأسود لجماعة تسبح فی بحر من الأخطاء والزّلات، أدرک ببساط أنّ الطریق الصحیح عکس ذلک، وإن أراد السیر علی الحق وجب علیه التخلی عن الاصول التی اعتمدتها تلک الجماعة، فیتعلم الأدب من عدیمیه والعدل الظالمین والطهر من المدنیین.

لعل هناک من یتصور تضارب هذه العبارة مع ما ورد فی عبارة أخری للإمام علیه السلام قالها للحارث الهمدانی: «إنّ دِینَ اللّهِ لا یُعرَفُ بِالرّجالِ بَل بِآیَةِ الحَقِّ فَاعرفْ الحقَّ تَعرِفُ أَهلَهُ» (1)، لکن الطریقان صحیحان، کل فی محلّه، فان عرف الحق بوضوح فی موضع کان لابدّ من معرفة شخصیة الأفراد علی أساس معیاره، فمن کان مع الحق فهو الحسن الصالح ومن کان ضده فهو السییء الطالح، فهنا نعرف الاشخاص بمعیار الحق. وان کان الأفراد معروفین والحق خفی کان لابدّ من التعرف علی الحق والباطل بواسطتهم، علی سبیل المثال لو تنازع عمار بن یاسر مع أبی جهل، فاننا ندرک بسهولة أنّ عمّاراً علی الحق وأبی جهل علی الباطل، وقد یتعذر أحیاناً معرفة الأشخاص ومعرفة الحق، فهنا ننظر إلی حاشیة وأصدقاء اُولئک الأشخاص، فرضاً شککنا فی شخص معاویة ورأینا بطانته وحاشیته جماعة من المنافقین وأصحاب الدنیا کعمرو بن العاص وممن طردهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ومن تبقی من أقطاب الجاهلیة آنذاک یمکننا التعرف علیه.

وزبدة الکلام هناک عدّة طرق لمعرفة الحق والباطل ولابدّ من استفادة ما یناسب کل مورد من طریق.

ص:442


1- 1) بحار الانوار 6/179. [1]

الخطبة المأة والثامنة والأربعون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

فی ذکر أهل البصرة

نظرة إلی الخطبة

تحدّث الإمام علیه السلام فی المقطع الأول من هذه الخطبة عن طلحة والزبیر واللذان قد إتحدا فی الظاهر واتفقا علی قتال علی علیه السلام فی الجمل، فقد کشف الإمام علیه السلام اللثام عن جانب من أسرارها فقا إنّهما وإن اتحدا ظاهریاً، إلّاأنّ ذلک الاتحاد مرحلی ومؤقت، فان تسلّط أحدهما أسقط الآخر، وأشار علیه السلام فی المقطع الثانی إلی فتنة البصرة وأصحاب الجمل، وقد دعی الناس للعمل علی إخماد نار هذه الفتنة، کما حذر فی الختام من ضرورة مراقبة التحرکات المشبوهة لناقضی المواثیق (طلحة والزبیر وأعوانهما) .

ص:443


1- 1) سند الخطبة: قال ابن أبی الحدید فی شرحه لنهج البلاغة روی هذه الخطبة قبل السید الرضی أبو مخنف فی کتاب «الجمل» ، کما رواها باختلاف «لابدّ من الالتفات إلی أنّ هذا الاختلاف لیس بقلیل) المرحوم الشیخ المفید رحمه الله فی کتاب «الإرشاد» (مصادر نهج البلاغة 2/332)

ص:444

«کُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا یَرْجُو الْأَمْرَ لَهُ، وَیَعْطِفُهُ عَلَیْهِ، دُونَ صَاحِبِهِ، لَایَمُتَّانِ إِلَی اللّهِ بِحَبْلٍ، وَلَایَمُدَّانِ إِلَیْهِ بِسَبَبٍ. کُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَامِلُ ضَبٍّ لِصَاحِبِهِ، وَعَمَّا قَلِیلٍ یُکْشَفُ قِنَاعُهُ بِهِ! وَاللّهِ لَئِنْ أَصَابُوا الَّذِی یُرِیدُونَ لَیَنْتَزِعَنَّ هذَا نَفْسَ هذَا، وَلَیَأْتِیَنَّ هذَا عَلَی هذَا. قَدْ قَامَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِیَةُ، فَأَیْنَ الُْمحْتَسِبُونَ! فَقَدْ سُنَّتْ لَهُمُ السُّنَنُ، وَقُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ. وَلِکُلِّ ضَلَّةٍ عِلَّةٌ، وَلِکُلِّ نَاکِثٍ شُبْهَةٌ. وَاللّهِ لَاأَکُونُ کَمُسْتَمِعِ اللَّدْمِ، یَسْمَعُ النَّاعِیَ وَیَحْضُرُ الْبَاکِیَ، ثُمَّ لَایَعْتَبِرُ!» .

الشرح والتفسیر

الإتحاد الظاهری والعداء الباطنی

کشف الإمام علیه السلام فی القسم الأول من هذه الخطبة النقاب عن حقیقة فی عدم وجود دافع شرعی لطلحة والزبیر - اللذان أثارا معرکة الجمل - ولیس لهما من همّ سوی الدنیا والاستیلاء علی الحکومة، ومن هنا فانّ تحقق لهما ما یریدان سعی کل منهما لإزالة الآخر لینفرد بالحکومة فقال: «کُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا یَرْجُو الْأَمْرَ لَهُ، وَیَعْطِفُهُ عَلَیْهِ، دُونَ صَاحِبِهِ» .

ثم استدلّ علیه السلام علی ذلک بالقول: «لَا یَمُتَّانِ (1)إِلَی اللّهِ بِحَبْلٍ، وَلَایَمُدَّانِ إِلَیْهِ بِسَبَبٍ. کُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَامِلُ ضَبٍّ (2)لِصَاحِبِهِ، وَعَمَّا قَلِیلٍ یُکْشَفُ قِنَاعُهُ بِهِ!» ، والضبّ هوالحیوان المعروف، وتعتقد العرب بأنّه خال من العاطفة إلی جانب حماقته حتی أنّه لیأکل فراخه ومن هنا ضرب به المثل فی العقوق، وقد استشهد الإمام علیه السلام بذلک المثل فی قوله: «حَامِلُ ضَبٍّ لِصَاحِبِهِ» ، فهی عبارة غایة فی الروعة لمدی العداوة والبغضاء التی یخفیها کل منهما لصاحبه.

ص:445


1- 1) «یمتان» : من مادة «مت» علی وزن خط تعنی فی الأصل سحب الحب وحیث یسبب هذا العمل إقتراب الدلو فقد وردت هذه المفردة بمعنی الإقتراب والتقرب وهذا هوالمعنی المراد بها فی الخطبة.
2- 2) «ضبّ» : لها عدة معانٍ ومنها سحب الماء والحقد والحیوان المعروف.

ثم قال علیه السلام: «وَاللّهِ لَئِنْ أَصَابُوا الَّذِی یُرِیدُونَ لَیَنْتَزِعَنَّ هذَا نَفْسَ هذَا، وَلَیَأْتِیَنَّ هذَا عَلَی هذَا» ، والطریف أنّ ما أورده الإمام علیه السلام فی العبارة السابقة بشأن طلحة والزبیر یصدق علی جمیع الأفراد الذین یتحدون من أجل نیل السلطة دون أن یکون لهم أی دافع إلهی، فهم متحدون ومتفقون مادامهم لم ینتصروا، فبمجرّد الانتصار یسعی کل واحد منهم للقضاء علی الآخر والتفرد بالسلطة، وشواهد ذلک کثیرة علی مرّ العصور وفی کل زمان ومکان، والحال لو کانت الدوافع إلهیّة لدام الإتحاد وربّما اقترح کل السلطة علی غیره، وقد إتضحت حقیقة کلام الإمام علیه السلام بشأن طلحة والزبیر حتی قبل شروع معرکة الجمل وتنازعهما علی الزعامة، وهذا ما سنتناوله إن شاء اللّه فی البحث القادم، ولما کانت هذه الخطبة قبل معرکة الجمل فقد دعی الإمام الناس إلی الوقوف بوجه ناقضی العهد الذین حملوا رایات معرکة الجمل فقال: «قَدْ قَامَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِیَةُ، فَأَیْنَ الُْمحْتَسِبُونَ (1)! فَقَدْ سُنَّتْ لَهُمُ السُّنَنُ، وَقُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ» .

والعبارة الفئة الباغیة إشارة إلی کل جماعة تقوم بوجه الحق وحکومة العدل، کما یصدق هذا الکلام علی أصحاب الجمل، وعلی أعوان معاویة أیضاً، لأنّهم وقفوا جمیعاً ضد الحق، ومن هنا جاء فی الحدیث النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لعمّار الذی استشهد فی صفین وقتله أعوان معاویة: «یَا عَمّارُ تَقتُلُکَ الفِئَةُ البَاغِیةُ» (2).

والمفردة «المحتسبون» إشارة إلی الأفراد الذین یجاهدون حسبة للّه ولا ینتظرون سوی ثوابه وأجره.

والعبارة «فَقَدْ سُنَّتْ لَهُمُ السُّنَنُ. . .» ، إشارة إلی أنّ سنن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله قد عرضت السبل اللازمة للقیام ضد البغاة والعصاة.

العبارة: «وَقُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ» ، إشارة إلی حدیث النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لصحبه: «تُقاتِلُونَ النّاکِثِینَ والقَاسِطِینَ والمَارِقِینَ» (3)، بناءاً علی هذا وبالنظر إلی اتضاح الضلال بالنسبة لتلک

ص:446


1- 1) «المحتسب» : من مادة «حسبة» بمعنی الإتیان بالعمل حسبة للّه وإرادة الثواب منه سبحانه، ووردت مفردة المحتسب بمعنی المأمور الذی یکلف من الحکومة للإشراف علی إجراء أحکام الدین ولعل ذلک لأنّه یقوم بالعمل للّه، أو أنّ هدفه حساب عمل الناس.
2- 2) وردت هذه الروایة فی أغلب مصادر العامّة ومنها مسند أحمد بن حنبل وصحیح مسلم وطبقات ابن سعد [1]ومصادر أخری (انظر إحقاق الحق 8/422) . [2]
3- 3) تاریخ بغداد 13/187 طبع دار الفکر.

الفئة واتضاح سنن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله تجاه مثل هؤلاءالأفراد والنبوءة السریعة التی طرحها النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فلم یبق هنالک من مجال للإبهام ولابدّ لکل مؤمن مخلص أن یقف فی وجه الباطل.

ثم قال الإمام علیه السلام: «وَلِکُلِّ ضَلَّةٍ عِلَّةٌ، وَلِکُلِّ نَاکِثٍ شُبْهَةٌ» ، قطعاً لم یرد الإمام علیه السلام بها الکلام توجیه الأعمال القبیحة والطائشة لطلحة والزبیر، بل یریدالإشارة إلی هذه الحقیقة إلی أن الظلال لیس عبثیاً، وعادة ما تکون علّته اختیاریة، فالعلّة الأصلیة لأغلب الظلال تتمثل فی هوی النفس وحبّ الدنیا والجاه والاستبداد والکبر والغرور والحسد، وهذا المعنی واضح تماماً بالنسبة لطلحة والزبیر.

والعبارة: «وَلِکُلِّ نَاکِثٍ شُبْهَةٌ» ، إشارة إلی أنّ کل ناکث لعهد عادة ما یخلق لنفسه ذریعة لیخدع العوام ویجرهم إلیه، کما تذرع طلحة والزبیر بدم عثمان علی أنّه الخلیقة الذی قتل مظلوماً، فیثیروا طائفة من العوام ضد علی علیه السلام فیتمکنا من تحقیق أهدافهما المغرضة، بینما کانا من العناصر التی قتلت عثمان، کما مرّ معنا فی الخطبة 137 خیث قال الإمام بشأن طلحة والزبیر ومعاویة: «وَإِنَّهُمْ لَیَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَکُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَکُوهُ» .

والعبارة «ناکث» إشارة إلی طلحة والزبیر حیث بایعا علیاً علیه السلام فی البدایة ثم نقضوا البیعة.

ثم إختتم الإمام الخطبة بالإشارة إلی نقطة مهمّة وهی المراقبة وعدم الغفلة عن العدو فقال: «وَاللّهِ لَاأَکُونُ کَمُسْتَمِعِ اللَّدْمِ (1)، یَسْمَعُ النَّاعِیَ وَیَحْضُرُ الْبَاکِیَ، ثُمَّ لَایَعْتَبِرُ!» ، إشارة إلی أنّ الزعیم الیقظ لا یسمع أنین المظلومین وتعبئة قوی الشیاطین، وقد مضی شبیه هذا المعنی فی الخطبة السادسة: «وَاللّهِ لاَ أَکُونُ کالضَّبُعِ: تَنَامُ عَلَی طُولِ اللَّدْمِ، حَتَّی یَصِلَ إِلَیْها طَالِبُهَا، وَیَخْتِلَهَا رَاصِدُها، وَلکِنِّی أضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إِلَی الْحَقِ ّ الْمُدْبِرَ عَنْهُ» .

ص:447


1- 1) «اللدم» : تعنی فی الأصل ضرب الشیء بأخر دون شدّة الصوت.

تأمّل: أصدقاء الأمس وأعداء الیوم

العبارة أعلاه تبیّن حقیقة وهی أنّ أصحاب الباطل وإن إتّحدوا فی بادیء الأمر من أجل تحقیق أهدافهم، إلّاأنّهم ما إن ینتصروا ویتمکنوا حتی یسعی کل منهم لإزالة الآخر والتفرد بتناول ثمرة شجرة النجاح والنموذج البارز لذلک الإتحاد طلحة والزبیر فی معرکة الجمل والذی یشکل الموضوع الرئیسی لهذه الخطبة، والطریف فی الأمر أنّ بوادر هذه المنافسة الهدامة قد لاحت حتی قبل شروع المعرکة.

فقد نقل ابن أبی الحدید عن المؤرخین أنّ خلافاً وقع بینهما قبل الجمل بشأن إمامة العسکر، ولمّا إشتد النزاع بینهما تدخلت عائشة فأمرت أن تصلی یوماً محمد بن طلحة وآخر عبداللّه بن الزبیر حتی تنتهی المعرکة (1).

من جانب آخر سأل طلحة عائشة أن یسلم علیه الناس بصفته أمیرالمؤمنین، کما سألها الزبیر ذلک، فسلّمت عائشة علیهما بأمیرالمؤمنین، کما اختلفا فی إمرة الجیش فقد أراد طلحة الإمرة، بینما رأی الزبیر نفسه الأجدر بها (2)، وکل هذه الاُمور شواهد حیّة علی ما أخبر به الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة حین قال کل واحد منها یرجو الأمر له ویفکر فی القضاء علی صاحبه، فلیس هناک من دافع إلهی، ولا تؤدّی الدوافع النفسانیة سوی إلی الاحتکار دائماً.

ص:448


1- 1) ورد هذا المعنی فی مروج الذهب فی شرح معرکة الجمل وأضاف المسعودی ولم یتم تقسیم صلاة الجماعة بهذه البساطة، بل حدث ذلک بعد حوار طویل ونزاع طلحة والزبیر (مروج الذهب 2/367 طبعة دار المعرفة بیروت) .
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 9/110. [1]

الخطبة المأة والتاسعة والأربعون

اشارة

(1)

وَمِنْ کَلامٍ لهُ علیه السلام

قبل شهادتة علیه السلام

نظرة إلی الخطبة

کما ورد فی أسناد الخطبة فانّ الإمام علیه السلام خطبها حین کان علی أعتاب الشهادة، فقد أوردها علی سبیل الوصیة إلی جانب النصح والمواعظ، والواقع أنّ الخطبة تتألف من ثلاثة أقسام:

القسم الأول: بشأن الموت الذی لا یستطیع أحد الفرار منه ولا یعلم أین ومتی یدرکه.

القسم الثانی: وصیّة قصیرة وبلیغة عظیمة المضمون تجذب القلوب وتوضح معالم الطریق فی المستقبل.

القسم الثالث: الدروس التی ینبغی للناس تعلمها من شهادة الإمام علیه السلام کما یشیر علیه السلام إلی هذه الحقیقة وهی إننی إن رحلت عنکم وخلّفنی غیری آنذاک ستعرفون، من کنت؟ وماذا أردت؟ وما کانت سرائری؟

ص:449


1- 1) سند الخطبة: رواها المرحوم الکلینی فی الکافی 1/299؛ والمسعودی فی مروج الذهب بصورة مختصرة، وابن عساکر فی کتاب مقتل أمیرالمؤمنین، ویتفق الجمیع علی أنّ الخطبة بعد ضربة ابن ملجم وقبل شهادة الإمام علیه السلام، وقد ذکر صاحب مصادر نهج البلاغة أسناد الخطبة فی قسم الرسائل حیث جاء جانب مهم من هذه الخطبة فی الرسالة رقم 33 (مصادر نهج البلاغة 2/347) .

ص:450

القسم الأول: إستحالة الهروب من الموت

«أَیُّهَا النَّاسُ، کُلُّ امْرِیً لَاقٍ مَا یَفِرُّ مِنْهُ فِی فِرَارِهِ. وَ الْأَجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ؛ وَالْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ. کَمْ أَطْرَدْتُ الْأَیَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَکْنُونِ هذَا الْأَمْرِ، فَأَبَی اللّهُ إِلاَّ إِخْفَاءَهُ. هَیْهَاتَ! عِلْمٌ مَخْزُونٌ!» .

الشرح والتفسیر

أکد الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة أنّ الفرار من الموت مستحیل، وأبعد من ذلک فانّ الإنسان یستقبل الموت حین فراره، فقال: «أَیُّهَا النَّاسُ، کُلُّ امْرِیً لَاقٍ مَا یَفِرُّ مِنْهُ فِی فِرَارِهِ. وَ الْأَجَلُ مَسَاقُ (1)النَّفْسِ؛ وَالْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ» .

هناک عدّة تفاسیر لشرّاح نهج البلاغة للعبارة الهرب من الموت موافاته، فقد قال البعض: المراد من هذه العبارة أنّ الأجل إذا حلّ وجاء أمر اللّه سبحانه برحیل من الدنیا فحتی الدواء یعطی نتیجة معکوسة، فما کان مشفیاً فی الأحوال العادیة یصبح سبباً للموت، وقیل فی تفسیر العبارة أنّ الزمان الذی یصرفه الإنسان من أجل العلاج فی مثل هذه الحالات إنّما یقرّبه من آجله (2).

وبعبارة أخری، فقد شوهد کثیراً وقوع الإنسان فی ما یخافه ویحذره، ویدرکه ما هرب منه، وعلی ضوء هذا التفسیر فانّ الحکم المذکور حکم غالبی ولیس کلی.

ص:451


1- 1) «مساق» : مصدر میمی أو اسم مکان من مادة «سوق» بمعنی الغایة التی یصلها الإنسان، أو بعبارة أخری آخر الطریق.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن میثم البحرانی، ومنهاج البراعة للخوئی.

ثم قال علیه السلام: «کَمْ أَطْرَدْتُ (1)الْأَیَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَکْنُونِ هذَا الْأَمْرِ، فَأَبَی اللّهُ إِلاَّ إِخْفَاءَهُ. هَیْهَاتَ! عِلْمٌ مَخْزُونٌ!» .

سؤال

هنا یبرز هذا السؤال وهو: کیف قال الإمام بأنّ اللّه وحده العالم بالآجل ولا یعلمه أحد (2)، بینما تظافرت الأخبار التی وردت عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّه کان یعلم بزمان وفاته، وکان یعرف قاتله، کما یخبر ولده علی الدوام فی لیلة شهادته، بل أشار بعبارات مختلفة إلی زمان شهادته حتی خلال شهر رمضان الذی استشهد فیه، وقد ورد فی الکافی أنّ الطیور فی بیت الإمام علیه السلام کانت علی علم بشهادته؟

جواب

یعتقد البعض بالاستناد إلی بعض الروایات (3)، أنّ حالات المعصومین علیهم السلام وأولیاء اللّه تعالی مختلفة، فأحیاناً یعلمون کل شیء بإرادة اللّه تعالی، وأحیاناً أخری تخفی علیهم بعض المسائل بإرادة اللّه تعالی حتی اللحظات یمکن أن تکون متفاوتة، فقد شم نبی اللّه یعقوب رائحة قمیص یوسف من مساحة بعیدة (مصر) بینما لم یراه فی بئر کنعان، وهناک احتمال أخر ما ذکره الإمام علیه السلام قانوناً کلیاً حول الأجل وخاتمة حیاة جمیع الأفراد، إلّاأنّ هذا القانون الکلی کسائر القوانین الکلیة له استثناءات، فما المانع أن یعلم أولیاء اللّه وباذن اللّه وتعلیمه بلحظة موتهم.

وهناک نقطة أخری هی: إنّ علوم المعصومین علیهم السلام بالنسبة لمسائل المستقبل علی أساس لوح المحو والإثبات وهو قابل للتغییر، أو ما یصلح علیه بالعلم بالمقتضیات، لا العلم بالعلة التامة التی تأبی التغییر، لأنّ ذلک القسم الذی یسمی باللوح المحفوظ مختص باللّه تبارک وتعالی، مثلاً جاء فی قصة السید المسیح علیه السلام أنّه أخبر عن موت عروس فی لیلة زفافها، بینما لم یقع ذلک، وذلک لأنّها تصدقت وحالت الصدقة دون وقوع تلک المصیبة.

وسنتناول شرح هذا الموضوع فی محله إن شاء اللّه.

ص:452


1- 1) «اطردت» : من مادة «طرد» بمعنی الاخراج، واطردت الأیّام طویتها واحداً بعد الآخر.
2- 2) اصول الکافی، ج1 باب «أنّ الأئمة یعلمون متی یموتون» الحدیث 4.
3- 3) المصدر السابق.

القسم الثانی: وصیّة الإمام علیه السلام

«أَمَّا وَصِیَّتِی: فَاللّهَ لَاتُشْرِکُوا بِهِ شَیْئاً، وَمُحَمَّداً صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، فَلَا تُضَیِّعُوا سُنَّتَهُ. أَقِیمُوا هذَیْنِ الْعَمُودَیْنِ، وَأَوْقِدُوا هذَیْنِ الْمِصْبَاحَیْنِ، وَخَلَاکُمْ ذَمٌّ مَا لَمْ تَشْرُدُوا. حُمِّلَ کُلُّ امْرِیً مِنْکُمْ مَجْهُودَهُ، وَخُفِّفَ عَنِ الْجَهَلَةِ. رَبٌّ رَحِیمٌ، وَدِینٌ قَوِیمٌ، وَإِمَامٌ عَلِیمٌ. أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُکُمْ، وَأَنَا الْیَوْمَ عِبْرَةٌ لَکُمْ، وَغَداً مُفَارِقُکُمْ! غَفَرَ اللّهُ لِی وَلَکُمْ!» .

الشرح والتفسیر

بیّن الإمام علیه السلام فی القسم من الخطبة وصیّته وقد صبّ الإمام علیه السلام فیها عصارة روحه وفکره فی تلک اللحظة الحساسة والصعبة التی یوشک فیها علی الرحیل فقال: «أَمَّا وَصِیَّتِی: فَاللّهَ لَا تُشْرِکُوا بِهِ شَیْئاً، وَمُحَمَّداً صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، فَلَا تُضَیِّعُوا سُنَّتَهُ. أَقِیمُوا هذَیْنِ الْعَمُودَیْنِ، وَأَوْقِدُوا هذَیْنِ الْمِصْبَاحَیْنِ، وَخَلَاکُمْ ذَمٌّ (1)مَا لَمْ تَشْرُدُوا» .

والمراد بالشرک هنا المعنی الواسع للکلمة والذی یشمل الشرک فی الذات والصفات وکذلک الشرک فی الأفعال، وبعبارة أخری، کل میل لما سوی اللّه سبحانه سواء فی العقیدة أو العمل، وکذلک اُرید بالسنّة معناها الواسع الذی یشمل جمیع البرامج العبادیة والأخلاقیة والسیاسیة والاجتماعیة، والواقع هو أنّ العبارتین قد تضمنتا جمیع أسباب سعادة الإنسان،

ص:453


1- 1) «خلاکم الذم» : مثل بین العرب مفهومه لیس هناک من ذم لکم لأنّکم تقومون بوظیفتکم، وقیل أنّ أول من قال هذه العبارة (قصیر بن سعد) غلام (خزیمة) (أحد ملوک العرب) والذی قتل علی ید الزباء، فقال قصیر لابن شقشقة الملک خذ بثأر حزیمة، فقال: أنّی لی به وإنّه لأسرع من العقاب، فقال له قصیر: (اطلب وخلاک ذم) ، (شرح نهج البلاغة للبیهقی من علماء القرن السادس، ص239 ذیل الخطبة التی نبحثها) .

فالإنسان لم یتعلق بما سوی اللّه ولا یطلب غیر رضاه ولم یحکم هو نفسه وطبّق کافة تعالیم النبی الأکرم صلی الله علیه و آله علی کافة الأصعدة والمجالات فهو الإنسان سعید وموفق، ومن هنا شبّه الإمام هذین الاثنین بعمودی الخیمة إن اُقیما فانّ الخیمة ملاذ آمن من الحرارة والبرودة وواقیة من أغلب المخاطر، کما شبّهها بمصباحین علی جانبی الإنسان وهما یضیئان الفضاء والطریق، ومن البدیهی ألا یبقی مجالاً للظلالة مع وجود هذین المصباحین المضیئین.

ولذلک قال الإمام علیه السلام فی مواصلته لکلامه، إعملوا بهذه الوصایا وخلاکم ذم، وسوف لن یکون هناک من خلل ونقص فی دینکم وإیمانکم وحیاتکم، ولکنه یشترط ذلک بمواصلة الطریق دون الانحراف، والالتزام بمسار التوحید والعمل بالسنّة، والواقع هو أنّ جمیع أصول الإسلام وفروعه قد جمعت فی هذه العبارة: فالتوحید یشمل کافة الاُصول العقائدیة وحفظ سنة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله یشمل جمیع التعالیم العلمیة والأخلاقیة، وإن قال علیه السلام أقیموا هذین العمودین وخلاکم ذم، للدلیل السابق، ولما کان إقامة التوحید وسنّة النبی صلی الله علیه و آله فی جمیع الأبعاد لیس میسراً للجمیع وذلک لعدم تساوی القدرات الفکریة والجسمیة، فقد قال علیه السلام: «حُمِّلَ کُلُّ امْرِیً مِنْکُمْ مَجْهُودَهُ، وَخُفِّفَ عَنِ الْجَهَلَةِ» ، وهو ذات الأمر الذی اُشیر إلیه کراراً فی الآیات الروایات.

فقد قال القرآن الکریم: «لَایُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا. . .» (1). ، وقال فی موضع آخر: «لَا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا. . .» (2).

وجاء فی الحدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «یُغَفرُ لِلجَاهِلِ سَبعُونَ ذَنباً قَبلَ أَنْ یُغفَرَ لِلعَالِمِ ذَنبٌ وَاحدٌ» (3). کما ورد عن الإمام الباقر علیه السلام: «إِنّما یُداقُ العِبادُ فِی الحِسابِ یَومَ القِیامَةِ عَلَی قَدَرِ مَا آتَاهُم مِنَ العُقُولِ فِی الدُّنیا» (4)، والواقع أنّ هذا هو مقتضی العدالة فی أن تؤخذ القدرات الفکریة والجسمیة للأفراد بنظر الاعتبار فی تفویض المسؤولیات والحساب علی المخالفات، ومن هنا قال الإمام علیه السلام: «رَبٌّ رَحِیمٌ، وَدِینٌ قَوِیمٌ، وَإِمَامٌ عَلِیمٌ» .

ص:454


1- 1) سورة البقرة / 286. [1]
2- 2) سورة الطلاق / 7. [2]
3- 3) اصول الکافی 1/47، ح1. [3]
4- 4) المصدر السابق /11. [4]

والواقع هو أنّ کافة أسباب السعادة فی ظل هذه الثلاث، فاللّه سبحانه رحیم قد فتح کافة أبواب السعادة بوجه الإنسان والدین الذی أتی به نبی الإسلام صلی الله علیه و آله یتمتع برسوخ لا مثیل له، والإمام علیه السلام الذی نصب لإجراء أحکام الدین عادل من جمیع الجوانب یمکن أن تکون کلمة الإمام هنا إلی شخص النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أو علی علیه السلام أو جمیع أئمة الإسلام من النبی الأکرم صلی الله علیه و آله حتی آخر الأئمة الإمام المهدی (سلام اللّه علیهم أجمعین) ، ومن الطبیعی أنّ مثل هذا الرب والدین والإمام لا یکلّف الإنسان سوی علی قدر وسعه.

ثم أشار الإمام علیه السلام فی الختام إلی نقطة مهمّة لیکمل بها القسم الأول والثانی فقال: «أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُکُمْ، وَأَنَا الْیَوْمَ عِبْرَةٌ لَکُمْ، وَغَداً مُفَارِقُکُمْ! غَفَرَ اللّهُ لِی وَلَکُمْ!» ، إشارة إلی أنّکم إن جعلتم هذه الأیام الثلاث مع بعضها لعلمتکم مطالب کثیرة، فبالأمس کنت مثلکم، بل زعیمکم وقائدکم حیث صرعت الکثیر من علی شاکلة عمرو بن عبد ود، لقد فتحت خیبر وقلعت بابها، ودافعت عن رسول للّه صلی الله علیه و آله فی میادین القتال حین تظافرت علینا الأعداء، وکنت أجندل الأبطال فی الجمل وصفین والنهروان، لکننی الیوم لکم عبرة بعد أن رقدت علی فراش الموت، وغذاً أنا مفارقکم، ، سوف ترون مکانی خالیاً، أو لیست هذه الأیام الثلاث تکفیکم عبرة لتکشف عن وضع الدنیا وتفاهتها؟ حقاً لم یسمع کلام أبلغ من هذا الکلام وبهذا الاختصار والعمق فی المعنی.

أمّا بشأن المراد من العبارة «وَغَداً مُفَارِقُکُمْ. . .» ، هل هو الإخبار عن شهادته فی ذلک الوقت أم الإخبار عن مستقبل بعید والذی ورد التعبیر عنه فی العبارات المتداولة بقولهم غداً؟ یبدو هنالک خلافاً بین شرّاح نهج البلاغة، ولکن ما یفهم من القرآن المختلفة وسائر کلمات الإمام علیه السلام فی تلک الحادثة الألیمة وقبلها أنّ المراد الخبرالقطعی عن المستقبل القریب، ولا یتنافی ذلک مع العبارة: «إن تَثبُتِ الوطَأةُ. . .» ، لأنّ مثل هذه التعبیرات تهدف إلی بیان مقاصد خاصة واعتیادیة، کما ورد فی القرآن الکریم: «أَفَإِیْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِکُمْ. . .» (1). والحال یعلم اللّه سبحانه أنّ نبیّه صلی الله علیه و آله لا یقتل، فهدف الإمام علیه السلام هنا بیان هذا المطلب، أنّی لو بقیت لعفوت عن ضاربی.

ص:455


1- 1) سورة آل عمران / 144. [1]

ص:456

القسم الثالث: معرفتی بعد موتی

«إِنْ تَثْبُتِ الْوَطْأَةُ فِی هذِهِ الْمَزَلَّةِ فَذَاکَ. وَإِنْ تَدْحَضِ الْقَدَمُ فَإِنَّا کُنَّا فِی أَفْیَاءِ أَغْصَانٍ، وَمَهَابِّ رِیَاحٍ، وَتَحْتَ ظِلِّ غَمَامٍ، اضْمَحَلَّ فِی الْجَوِّ مُتَلَفِّقُهَا، وَعَفَا فِی الْأَرْضِ مَخَطُّهَا. وَإِنَّمَا کُنْتُ جَاراً جَاوَرَکُمْ بَدَنِی أَیَّاماً، وَسَتُعْقَبُونَ مِنِّی جُثَّةً خَلَاءً: سَاکِنَةً بَعْدَ حَرَاکٍ، وَصَامِتَةً بَعْدَ نُطْقٍ لِیَعِظْکُمْ هُدُوِّی، وَخُفُوتُ إِطْرَاقِی، وَسُکُونُ أَطْرَافِی، فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِینَ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَلِیغِ وَالْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ. وَدَاعِی لَکُمْ وَدَاعُ امْرِیً مُرْصِدٍ لِلتَّلَاقِی! غَداً تَرَوْنَ أَیَّامِی، وَیُکْشَفُ لَکُمْ عَنْ سَرَائِرِی، وَتَعْرِفُونَنِی بَعْدَ خُلُوِّ مَکَانِی وَقِیَامِ غَیْرِی مَقَامِی» .

الشرح والتفسیر

شرح الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة مصیره علی فراش الشهادة کما بیّن وضع المسلمین بعده فقال: «إِنْ تَثْبُتِ الْوَطْأَةُ (1)فِی هذِهِ الْمَزَلَّةِ (2)فَذَاکَ. وَإِنْ تَدْحَضِ (3)الْقَدَمُ فَإِنَّا کُنَّا فِی أَفْیَاءِ (4)أَغْصَانٍ، وَمَهَابِّ (5)رِیَاحٍ، وَتَحْتَ ظِلِّ غَمَامٍ، اضْمَحَلَّ فِی الْجَوِّ مُتَلَفِّقُهَا (6)، وَعَفَا (7)فِی

ص:457


1- 1) «وطأة» : بمعنی محل القدم وتأتی بصیغة کنایة بمعنی الضغط الشدید.
2- 2) «مزلّه» : من مادة «زلل» علی وزن ضرر بمعنی محل الزلل.
3- 3) «تدحض» : من مادة «دحض» علی وزن محض بمعنی الزلل أیضاً.
4- 4) «أفیاء» : جمع «فییء» علی وزن شیء بمعنی الظل.
5- 5) «مهاب» : من مادة هبوب بمعنی حرکة الریاح ومهاب جمع مهب محل هبوب الریاح.
6- 6) «متلفق» : بمعنی القطع المتصلة من مادة لفق علی وزن لفظ الجمع.
7- 7) «عفا» : من مادة «عفو» بمعنی ترک، ولکن ما کان ترک الشیء یؤدّی إلی ذهابه وإندراسه، فقد وردت فی هذه العبارة وأمثالها بمعنی الإندراس.

الْأَرْضِ مَخَطُّهَا (1)» . فتاریخ البشر وتجاربنا الیومیة تکشف هذه الحقیقة فی أنّ الحیاة کظلال الأشجار والقدرات کظلال الغیوم تمرّ بشرعة وتزول آثارها إلی الأبد، لکن العجیب عدم التفات الإنسان رغم رؤیته لکل هذه الأمور وکأنّه غیر مشمول بهذا القانون.

ثم بیّن هذا المعلم الربانی إثر ذلک وبالنظر إلی علمه بمفارقة الدنیا عاجلاً بعض الدروس والعبر التی یمکن للآخرین الاستفادة منها والتی من شأنها إیقاظهم من غفلتهم فقال: «وَإِنَّمَا کُنْتُ جَاراً جَاوَرَکُمْ بَدَنِی أَیَّاماً، وَسَتُعْقَبُونَ مِنِّی جُثَّةً خَلَاءً (2)سَاکِنَةً بَعْدَ حَرَاکٍ (3)، وَصَامِتَةً بَعْدَ نُطْقٍ» .

ثم استنتج مباشرة: «لِیَعِظْکُمْ هُدُوِّی (4)، وَخُفُوتُ (5)إِطْرَاقِی (6)، وَسُکُونُ أَطْرَافِی، فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِینَ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَلِیغِ وَالْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ» .

حقّاً أنّ الأمر کذلک فالمتحکمون مهما کانوا فصحاء وبلغاء، والسامعون مهما کانوا صاغین ولکن هناک فارق کبیر بین النظر والسماع، فیا لها من عبرة أن تری ذلک الرجل الشجاع الذی ذاع صیته فی الأرجاء وهو الآن طریح الفراش جثة هامدة لا یقوی حتی علی تحریک جفن عینیه، کما لا تقوی شفتاه علی الحرکة وهذا ما ینطوی علی أعظم درس وعبرة حیث یشاهد الإنسان بعینه أفول القوة والقدره فیغرق فی هالة من التفکیر، وهل لواعظ القدرة علی إبراز هذا التأثیر؟

وأخیراً إختتم الوصیّة بتودیع الناس، ذلک الوداع الألیهم فقال: «وَدَاعِی لَکُمْ وَدَاعُ امْرِیً مُرْصِدٍ (7)لِلتَّلَاقِی! غَداً تَرَوْنَ أَیَّامِی، وَیُکْشَفُ لَکُمْ عَنْ سَرَائِرِی، وَتَعْرِفُونَنِی بَعْدَ خُلُوِّ مَکَانِی وَقِیَامِ غَیْرِی مَقَامِی» .

نعم، فحین رجل مظهر العدل ذلک الزعیم الشفیق والرؤوف، وحین غادر الناس تلک

ص:458


1- 1) «مخط» : من مادة «خط» بمعنی محل الخطوط.
2- 2) «خلاء» : بمعنی خالیة.
3- 3) «حراک» : وحرکة لها معنی واحد.
4- 4) «هدو» : علی وزن غلو بمعنی السکون وعدم القدرة علی الحرکة.
5- 5) «خفوت» : بمعنی السکون والتوقف عن الحرکة.
6- 6) «اطراق» : خفض العین لضعف الأجفان.
7- 7) «مرصد» : من مادة «ارصاد» بمعنی الاستعداد والانتظار.

الکنوز العلمیة التی کانت تجری علی لسان الإمام علیه السلام وحل محلّه جبابرة بنی اُمیة الذی لا یجیدون سوی لغة الظلم والجور ولا یفکرون سوی بأهوائهم وغرائزهم الحیوانیة وأراقوا دماء الأبریاء، آنذاک فهم المسلمون من فقدوا، وأیة خسارة تکبدوا.

وبناءاً علی تقدم فالتعبیر بغد لا یثیر حسب ظاهر العبارة إلی لعالم البرزخ ولا القیامة (کما ذهب إلی ذلک بعض شرّاح نهج البلاغة) ، بل إشارة إلی الأیّام السوداء والمریرة التی مرّت علی المسلمین بعد شهادة أمیرالمؤمنین علی علیه السلام.

والعبارة «مُرْصِدٍ لِلتَّلَاقِی» ، سواء کانت بمعنی لقاء ملائکة الموت أو اللّه سبحانه فهی تفید عدم تعلق روحه المقدّسة سلام اللّه علیه بهذا العالم المادی الزائل، بل کان متعلقاً بالعالم العلوی والملائکة والذات الإلهیّة المقدّسة، وضربة ابن ملجم کانت المقدمة لذلک الفوز العظیم ولقاء ربّ الکعبة، والشاهد الناصع علی ذلک قوله علیه السلام حین ضرب: «فُزتُ وَرَبُّ الکَعبَةِ» .

ص:459

ص:460

الخطبة المأة والخمسون

اشارة

(1)

وَمِنْ خُطبَةٍ لهُ علیه السلام

یومی فیها إلی الملاحم ویصف فئة من أهل الضلال

نظرة إلی الخطبة

تتألف الخطبة فی الواقع من ثلاثة أقسام:

القسم الأول: یتحدث عن فئة ظلت الطریق القویم وإتجهت نحو الانحراف، ثم تحدث عن إمامة أهل البیت علیهم السلام الذین یرون الفتن بمصابیح الهدایة وینهضون بهدایة الاُمة، الإمامة والزعامة التی تذلل الصعاب وتحرر الاُمم.

القسم الثانی: تحدث عن ضعاف الإیمان الذین یسبحون فی الفتن والظلال إثر إتباع أهواء النفس، فئة أخری راسخة الإیمان وهی تجابه الکفر والشرک وقد نالت القرب الإلهی.

القسم الثالث: الذی أشار إلی الأفراد الذین تراجعوا القهقری بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقطعوا أواصر الإیمان وجانبوا أولیاء اللّه سبحانه والتحقوا بأعدائه وقد اقتلعوا اُسس الولایة وحولوها إلی غیر موضعها.

ص:461


1- 1) سند الخطبة: السند الوحید الذی ورد فی کتاب مصادر نهج البلاغة هو کتاب المسترشد للطبری الذی نقل أقساماً من أخر هذه الخطبة باختلاف، ویفهم من روایة الطبری أنّ هذه الخطبة أطول مما نقل المرحوم السید الرضی وقد إکتفی السید الرضی رحمه الله حسب طریقته ببعض مقاطعها (مصادر نهج البلاغة 2/337) .

ص:462

القسم الأول: إنتظام کل شیء فی ظل وجوده

اشارة

«وَأَخَذُوا یَمِیناً وَشِمَالاً ظَعْناً فِی مَسَالِکِ الْغَیِّ، وَتَرْکاً لِمَذَاهِبِ الرُّشْدِ. فَلَا تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ کَائِنٌ مُرْصَدٌ، وَلَا تَسْتَبْطِئُوا مَا یَجِیءُ بِهِ الْغَدُ. فَکَمْ مِنْ مُسْتَعْجِلٍ بِمَا إِنْ أَدْرَکَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَمْ یُدْرِکْهُ. وَمَا أَقْرَبَ الْیَوْمَ مِنْ تَبَاشِیرِ غَدٍ! یَا قَوْمِ، هذَا إِبَّانُ وُرُودِ کُلِّ مَوْعُودٍ، وَدُنُوٍّ مِنْ طَلْعَةِ مَا لَاتَعْرِفُونَ. أَلَا وَإِنَّ مَنْ أَدْرَکَهَا مِنَّا یَسْرِی فِیهَا بِسِرَاجٍ مُنِیرٍ، وَیَحْذُو فِیهَا عَلَی مِثَالِ الصَّالِحِینَ، لِیَحُلَّ فِیهَا رِبْقاً، وَیُعْتِقَ فِیهَا رِقّاً، وَیَصْدَعَ شَعْباً، وَیَشْعَبَ صَدْعاً، فِی سُتْرَةٍ عَنِ النَّاسِ لَایُبْصِرُ الْقَائِفُ أَثَرَهُ وَلَوْ تَابَعَ نَظَرَهُ. ثُمَّ لَیُشْحَذَنَّ فِیهَا قَوْمٌ شَحْذَ الْقَیْنِ النَّصْلَ تُجْلَی بِالتَّنْزِیلِ أَبْصَارُهُمْ، وَیُرْمَی بِالتَّفْسِیرِ فِی مَسَامِعِهِمْ، وَیُغْبَقُونَ کَأْسَ الْحِکْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوحِ!» .

الشرح والتفسیر

کما ورد سابقاً فانّ هذه الخطبة بالمجموع تتکهن بحوادث المستقبل وتفید القرائن والعبارات الواردة فیها، أنّ الإمام علیه السلام قد أشار إلی الحوادث ما قبل ظهور الإمام المهدی علیه السلام ومن ثم قیامه المبارک.

فقد قال الإمام علیه السلام: «وَأَخَذُوا یَمِیناً وَشِمَالاً ظَعْناً فِی مَسَالِکِ الْغَیِّ، وَتَرْکاً لِمَذَاهِبِ الرُّشْدِ. فَلَا تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ کَائِنٌ مُرْصَدٌ (1)، وَلَا تَسْتَبْطِئُوا مَا یَجِیءُ بِهِ الْغَدُ» .

ص:463


1- 1) «مرصد» : من مادة رصد علی وزن «صمد» تعنی فی الأصل مراقبة الشیء، ویطلق المرصد علی الشیء الذی یراقب وینتظر.

ثم خاض الإمام علیه السلام فی ذکر الدلیل لترک الاستعجال فقال: «فَکَمْ مِنْ مُسْتَعْجِلٍ بِمَا إِنْ أَدْرَکَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَمْ یُدْرِکْهُ. وَمَا أَقْرَبَ الْیَوْمَ مِنْ تَبَاشِیرِ (1)غَدٍ!» ، إشارة إلی الانتصارات الموعودة بعد الفتن (لاسیّما ظهور المهدی علیه السلام الذی وردت الوعود الصریحة فی عصر النبی بشأن بسط العدل والقسط فی کافة أنحاء العالم) ، وفی عدم استعجالها وذلک لأنّ لکل شیء زمان وشرائط، وما لم تحصل الشرائط فهی کالثمار الخام وتقطف من الشجرة فلا یؤدّی ذلک سوی إلی الندم.

ثم خاطب الناس قائلاً بأنّ الآن أوان تحقق ما وعدتم به (من ظهور الفتن والبلابل وسلطة الظلمة وزیادة الضغط علی المظلومین) : «یَا قَوْمِ، هذَا إِبَّانُ (2)وُرُودِ کُلِّ مَوْعُودٍ، وَدُنُوٍّ مِنْ طَلْعَةِ مَا لَاتَعْرِفُونَ» .

ثم تحدّث بصورة أوضح عن هذا الظهور العظیم فقال: «أَلَا وَإِنَّ مَنْ أَدْرَکَهَا مِنَّا یَسْرِی فِیهَا بِسِرَاجٍ مُنِیرٍ، وَیَحْذُو (3)فِیهَا عَلَی مِثَالِ الصَّالِحِینَ» ، ثم تطرق فی مواصلته لحدیثه إلی برامج ذلک المصلح الکبیر بعبارات قصیرة عمیقة المعنی، فقال: «لِیَحُلَّ فِیهَا رِبْقاً (4)، وَیُعْتِقَ فِیهَا رِقّاً، وَیَصْدَعَ (5)شَعْباً (6)، وَیَشْعَبَ صَدْعاً، فِی سُتْرَةٍ عَنِ النَّاسِ لَایُبْصِرُ الْقَائِفُ (7)أَثَرَهُ وَلَوْ تَابَعَ نَظَرَهُ» .

فهذه العبارات تنطبق تماماً علی قضیة ظهور المهدی علیه السلام، لأنّه یقطع أغلال الأسر ویطلق المظلومین ویکسر شوکة الظالمین ویفرق جمعهم، فهو یعیش لسنوات فی الخفاء بحیث یعجز أعظم الباحثین عن العثور علیه، وقد أورد البعض من شرّاح نهج البلاغة عدّة تفاسیر

ص:464


1- 1) «تباشیر» : بمعنی البشارة وأوائل کل شیء (والذی یشیر فی الواقع بوروده) وتباشیر الصبح بمعنی أوائله، وذهب البعض إلی أنّ تباشیر جمع تبشیر، ولکن یستفاد من تعبیرات البعض أنّها مفرد أو جمع لا مفرد له.
2- 2) «أبان» : بمعنی بدایة ووقت کل شیء.
3- 3) «یحذو» : من مادة حذو علی وزن حذف بمعنی الاتباع.
4- 4) «ربق» : بکسر فسیکون حبل فیه عدّة هرا، کل عروة ربقة تشدّ فیه البهم.
5- 5) «یصدع» : من مادة «صدع» تعنی فی اللغة مطلق الشق، أو شق الأجسام المحکمة، کما وردت بمعنی الاظهار حیث یظهر باطن الشیء بالشق.
6- 6) «شعب» : بمعنی جماعة عظیمة من الناس وتستعمل الیوم بمعنی الاُمة.
7- 7) «قائف» : من مادة «قوف» علی وزن خوف بمعنی البحث عن آثار الشیء، ویقال القائف لمن یتتبع آثار الأشیاء أوالأفراد، وهذا هو معنی معرفة القیافة.

للعباره، وحیث لا یجدر الالتفات إلیها فاننا نعزف عن ذکرها.

والجدیر بالذکر أنّ شارح نهج البلاغة ابن أبی الحدید المعروف بتعصبه بالنسبه لأغلب المسائل المرتبطة بالإمامة، صرّح فی شرحه للعبارة المذکورة: «وَإِنَّ مَنْ أَدْرَکَهَا مِنَّا یَسْرِی فِیهَا بِسِرَاجٍ مُنِیرٍ» ، إلی أنّ المراد بها مهدی آل محمد صلی الله علیه و آله، کماتری إنطباق سائر الصفات المذکورة علیه، وإن کان اعتقاد العامّة بالنسبة للإمام المهدی علیه السلام أنّه یولد فی آخر الزمان (1).

ثم أشار فی ختام هذا المقطع من الخطبة إلی أصحاب الإمام المهدی علیه السلام وأوصافهم: «ثُمَّ لَیُشْحَذَنَّ (2)فِیهَا قَوْمٌ شَحْذَ الْقَیْنِ (3)النَّصْلَ تُجْلَی بِالتَّنْزِیلِ أَبْصَارُهُمْ، وَیُرْمَی بِالتَّفْسِیرِ فِی مَسَامِعِهِمْ، وَیُغْبَقُونَ (4)کَأْسَ الْحِکْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوحِ!» .

ویستفاد من العبارات إلی أنّ أصحاب الإمام المهدی علیه السلام هم من الرجال الشجعان والعلماء الذین أعدوا سلفاً وعملیة بنائهم مستمرة متواصلة، وقلوبهم نابضة بآیات القرآن وتفسیر کلمات ا سبحانه، وهم دائموا التعلم صباح مساء ویزدادون إستعداداً وتأهباً، ولکن من هذا الذی أعدهم مسبقاً؟ هل حصل ذلک بأنفسهم أو لدیهم بعض الأساتذة الذین أمروا باعدادهم؟ أم لإرتباطهم بإمامهم ومعلمهم الغائب؟ القضیة لیست واضحة لدینا بالضبط، ولکن علی کل حال أنّهم أفراد أعدوا للمساعدة فی هذه الثورة العظیمة حتی وصفهم ابن أبی الحدید بالعرفاء، فممن جمع فیهم الزهد والحکمة والشجاعة فهم أصحاب ولی اللّه الذی إصطفاه (5).

ویفهم ممّا مرّ معنا فی هذا القسم من الخطبة أنّ الإمام علیه السلام قد بشّر المسلمین بفجر مضییء بعد تلک الظلمات، وهو الفجر الذی یأتی به ولده المیمون المهدی (عج) وبشروق شمس جماله تنجاب الظلمات.

ص:465


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 9/128. [1]
2- 2) «لیشحذن» : من مادة «شحذ» تعنی فی الأصل حدّ السکین، إلّاأنّها وردت بمعنی حدّ الذکاء والاستعداد.
3- 3) «القین» : بمعنی الحداد، ولهذه المفردة معنی مصدری یعنی الحدادة والإعداد.
4- 4) «یغبقون» : من مادة غبوق بمعنی یسقو بالماء فی مقابل صبوح بمعنی یشرب وقت الصباح ومصدرها غبق علی وزن غبن.
5- 5) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 9/129.

تأمّل: قطعیة قیام المهدی الموعود علیه السلام

وردت فی هذه الخطبة الشریفة فی الفصل الشابق - کسائر خطب نهج البلاغة - البشارة بظهور الإمام المهدی علیه السلام، البشارة التی وصلتنا من خلال الروایات المتواترة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله، ومن هنا إتفق علماء الإسلام من الفریقین علی هذا الأمر، ولم یشذ سوی النزر الیسیر الذین یعانون من انحراف فکری، حتی سطر أبرز علماء العامّة کتباً تحت عنوان تواتر روایات المهدی علیه السلام (1).

ویستفاد من هذه الخطبة کأغلب روایات النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمة أهل البیت علیهم السلام أمران:

الأول: أنّ هذا الظهور المقدّس بهدف إزالة بساط الظلم ونشر التوحید والعدل سیکون فی زمان یعم فیه الفساد العالم، أی یملّ الناس الظلم والجور وتغلق طرق الصلاح وتثبت جمیع المدارس والقوانین البشریة فشلها وهزیمتها، وهذا ما یضاعف من استقبال تلک الحکومة الإلهیّة.

الثانی: أنّ أصحاب المهدی علیه السلام وبهدف إجراء هذا المشروع العالمی الإنسانی العظیم هم من الأفراد الشجعان والعلماء والحلماء والرهن لإمثتال الأوامر.

ونختتم هذا البحث بحدیث عن الصحابی المعروف أبی سعید الخدری فی مسند أحمد بن حنبل قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتّی تَمتَلأ الأَرضُ ظُلمَاً وَعُدواناً، قال: ثُمَّ یَخرُجُ رَجلٌ مِنْ عِترَتِی أَو مِن أَهلِ بَیتِی یَملأُها قِسطَاً وَعَدلاً کَمَال مُلِئَتْ ظُلماً وَعُدواناً» (2).

کما ورد مثل هذا المعنی باختلاف طفیف فی سنن أبی داود (3).

ص:466


1- 1) ومن ذلک کتاب للعالم المعروف الشوکانی تحت عنوان التوضیح فی تواتر ما جاء فی المنتظر (راجع کتاب نفحات القرآن 10/423) . [1]
2- 2) مسند أحمد 3/36. [2]
3- 3) سنن أبی داود 4/152.

القسم الثانی: خصائص أنصار النبی صلی الله علیه و آله

منهَا: «وَطَالَ الْأَمَدُ بِهِمْ لِیَسْتَکْمِلُوا الْخِزْیَ، وَیَسْتَوْجِبُوا الْغِیَرَ؛ حَتَّی إِذَا اخْلَوْلَقَ الْأَجَلُ، وَاسْتَرَاحَ قَوْمٌ إِلَی الْفِتَنِ، وَأَشَالُوا عَنْ لَقَاحِ حَرْبِهِمْ، لَمْ یَمُنُّوا عَلَی اللّهِ بِالصَّبْرِ، وَلَمْ یَسْتَعْظِمُوا بَذْلَ أَنْفُسِهِمْ فِی الْحَقِّ؛ حَتَّی إِذَا وَافَقَ وَارِدُ الْقَضَاءِ انْقِطَاعَ مُدَّةِ الْبَلَاءِ، حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَی أَسْیَافِهِمْ، وَدَانُوا لِرَبِّهِمْ بِأَمْرِ وَاعِظِهِمْ» .

الشرح والتفسیر

اختلف شرّاح نهج البلاغة فی هذا القسم من الخطبة وذلک لأنّ الضمائر التی وردت فی هذا القسم والأوصاف لا تبد منسجمة، ومن هنا قال بعض الشرّاح بوجود تقدیر فی العبارات، واعتقدوا بأنّ عدم الإنسجام هذا یرتبط إختیار السید الرضی رضی الله عنه، فلعل عدم الإنسجام هذا یزول لو نقل المرحوم جمیع الخطبة، علی کل حال ما یبدو مناسباً فی تفسیر هذا القسم هو أنّ الإمام علیه السلام نظر إلی ناس العصر الجاهلی ومن ثم عصر الظهور النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، فقسم أهل ذلک الزمان إلی ثلاث طوائف: الضالون، وضعاف الإیمان، والمؤمنون الشجعان الأشداء، فقال بشأن الطائفة الأولی: «وَطَالَ الْأَمَدُ بِهِمْ لِیَسْتَکْمِلُوا الْخِزْیَ، وَیَسْتَوْجِبُوا الْغِیَرَ (1)» .

نعم، فأحیاناً یترک اللّه الأفراد الذین یصرون علی سلوک سبیل العصیان والطغیان لیبلغوا قمة الفضحیة فیستوجبوا العقاب الإلهی.

ص:467


1- 1) «غیر» : جمع «غیرة» بکسر ففتح بمعنی حوادث الدهر والتغیرات التی توجب تغیر النعم، وقال البعض غیر مفرد ولا جمع.

وقد أشارت الآشارت القرآنیة إلی هذه الطائفة فی عدّة موارد واصطلحت علی عقابهم بالاستدراج. ثم تحدّث عن الطائفة الثانیة والثالثة فقال: «حَتَّی إِذَا اخْلَوْلَقَ (1)الْأَجَلُ، وَاسْتَرَاحَ قَوْمٌ إِلَی الْفِتَنِ، وَأَشَالُوا (2)عَنْ لَقَاحِ (3)حَرْبِهِمْ، لَمْ یَمُنُّوا عَلَی اللّهِ بِالصَّبْرِ، وَلَمْ یَسْتَعْظِمُوا بَذْلَ أَنْفُسِهِمْ فِی الْحَقِّ؛ حَتَّی إِذَا وَافَقَ وَارِدُ الْقَضَاءِ انْقِطَاعَ مُدَّةِ الْبَلَاءِ، حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَی أَسْیَافِهِمْ، وَدَانُوا لِرَبِّهِمْ بِأَمْرِ وَاعِظِهِمْ» .

وهکذا میّز هذه الطوائف الثلاث التی لا یخلو مجتمع من نظائرها، وکل تسلک طریقها، وقد قسمهم جمع من شرّاح نهج البلاغة إلی قسمین، والعبارة: «وَاسْتَرَاحَ قَوْمٌ إِلَی الْفِتَنِ. . .» ، اعتبروها إشارة إلی الصالحین الذین یتخذون جانب الصمت والتقیة تجاه بعض الفتن فی زمان معین حتی یحین موعد القیام، والعبارة: «لَمْ یَمُنُّوا. . .» معطوفة علیها.

وکما أشرنا سابقاً فقد اختلف شرّاح نهج البلاغة بشأن هؤلاء القوم ومن هم اُولئک الأفراد ومتی ینهضون ومن هو زعیمهم وفی أی وقت یظهر.

ذهب البعض إلی أنّ ذلک هو زمان بنی اُمیة الذین یتسلطون بادیء الأمر علی کافة البلاد الإسلامیة ویطردون الأخیار الصالحین من الساحة ویختفون أصوات المظلومین، ولکن لا تمرّ مدّة حتی تقوم طائفة ضدهم وتطیح بسلطانهم وتقذف بهم فی مزبلة التاریخ.

ویری البعض الآخر أنّهم أنصار الإمام المهدی علیه السلام الذین ینهضون بالأمر بعد کل ذلک الفساد والظلم والإبتعاد عن اللّه سبحانه بأمر من إمامهم فیملأون الأرض قسطاً وعدلاً بعد أنّ تملأ ظلماً وجوراً، ولکن بالنظر إلی ما سیرد فی المقطع الآخر یبدو أنّها إشارة إلی ناس یعیشون فی الجاهلیة وقد سلکوا سبیل الفساد، ثم نهض علیهم ثلة من الصالحین التی تهب لنصرة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فتصحی بما لها ونفسها حتی ینتشر الإسلام فی کل مکان.

والعبارة: «حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَی أَسْیَافِهِمْ. . .» ، تعبیر غایة فی الروعة تشیر إلی أنّ الجهاد الإسلامی لابدّ أن یبتنی علی العلم والجهاد الثقافی مقدم علی الجهاد العسکری.

ص:468


1- 1) «اخلولق» : من مادة «خلق» أحد معانیها القدم، وتعنی هنا الانتهاء لأنّ لازمة القدم انتهاء العمر الشیء.
2- 2) «اشالوا» : من مادة «شول» علی وزن قول تعنی فی الأصل رفع الشیء کرفع الحیوان لذیله، وتعنی هناالکف عن القتال.
3- 3) «لقاح» : تعنی بدایة الحرب.

القسم الثالث: العودة إلی القیم الجاهلیة

اشارة

«حَتَّی إِذَا قَبَضَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، رَجَعَ قَوْمٌ عَلَی الْأَعْقَابِ، وَغَالَتْهُمُ السُّبُلُ، وَاتَّکَلُوا عَلَی الْوَلَائِجِ، وَوَصَلُوا غَیْرَ الرَّحِمِ، وَهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِی أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ، وَنَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ، فَبَنَوْهُ فِی غَیْرِ مَوْضِعِهِ. مَعَادِنُ کُلِّ خَطِیئَةٍ، وَأَبْوَابُ کُلِّ ضَارِبٍ فِی غَمْرَةٍ. قَدْ مَارُوا فِی الْحَیْرَةِ، وَذَهَلُوا فِی السَّکْرَةِ عَلَی سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَی الدُّنْیَا رَاکِنٍ، أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّینِ مُبَایِنٍ» .

الشرح والتفسیر

واصل الإمام علیه السلام بحثه السابق عن العصر الجاهلی ومن ثم زمان قیام رسول اللّه صلی الله علیه و آله وإنبثاق الدعوة الإسلامیة، لیتحدث هنا عن العصر الذی یعقب النبی الأکرم صلی الله علیه و آله حیث رسم صورة واضحة عنه وأزاح الستار لیکشف الحقائق فقال: «حَتَّی إِذَا قَبَضَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، رَجَعَ قَوْمٌ عَلَی الْأَعْقَابِ، وَغَالَتْهُمُ (1)السُّبُلُ، وَاتَّکَلُوا عَلَی الْوَلَائِجِ (2)، وَوَصَلُوا غَیْرَ الرَّحِمِ، وَهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِی أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ» .

المراد من العبارة: «رَجَعَ قَوْمٌ عَلَی الْأَعْقَابِ» ، العودة إلی الجاهلیة وإحیاء سنن ذلک الزمان والذی ظهر للأسف فی المجتمع الإسلامی بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله، فقد استحوذ الطالحون علی

ص:469


1- 1) «غالتهم» : من مادة «غول» علی وزن قول تعنی فی الأصل الفساد الذی ینفذ فی الشیء بصورة خفیة، ومن هنا یقال غیلة للأغتیال والقتل السری، ووردت هذه المفردة بمعنی الهلکة والتضاد بعوامل خفیة، ولما کانت الضلالة بمعنی الهلکة المعنویة فقد جاءت بهذا المعنی وهو المراد فی العبارة.
2- 2) «ولائج» : جمع «ولیجة» بمعنی نظیر ومثیل وشبه وخاصة الرجل من أهله.

مختلف المناصب وأقصی الصالحون وبرز حبّ الدنیا وأصبح بین المال العائد لجمیع المسلمین تحت تصرف طبقة معینة.

والعبارة: «وَغَالَتْهُمُ السُّبُلُ» ، إشارة إلی اختلاف الآراء الذی ظهر بعد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وقد فسّر العدید من الأفراد محکمات الإسلام علی ضوء میولهم ومنافعهم الشخصیة، وهذا ما أدّی إلی ضلالة الکثیر من الناس، وهی الضلالة التی عبّر عنها الإمام بالهلکة.

والمراد بالعبارة: «وَاتَّکَلُوا عَلَی الْوَلَائِجِ» أنّ جماعة من المسلمین قد إختارت المنافقین بطانة لها.

والعبارة: «وَصَلُوا غَیْرَ الرَّحِمِ» ، إشارة إلی الآیة الشریفة: «قُلْ لَاأَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی. . .» (1).

والعبارة: «وَهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِی أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ» ، تأکید آخر علی هذا المعنی فی أنّهم مأمورون بمودة أهل البیت علیهم السلام واتّباع منهجهم، وإلّا أنّهم ترکوهم واتبعوا غیرهم.

ثم خاض الإمام علیه السلام بصراحة أبعد بشأن الخلافة وتغییر أساسها فقال: «وَنَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ (2)أَسَاسِهِ، فَبَنَوْهُ فِی غَیْرِ مَوْضِعِهِ» ، رغم أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله عین خلیفته مراراً صراحة وکنایة فقال، تمسکوا بالقرآن والعترة، لکنّهم هدّموا هذا البنیان ونقلوه إلی موضع هش آخر.

ثم تطرق الإمام علیه السلام فی ختام الخطبة إلی صفات العامل الأصلی وراء ذلک التغییر فقال: «مَعَادِنُ کُلِّ خَطِیئَةٍ، وَأَبْوَابُ کُلِّ ضَارِبٍ فِی غَمْرَةٍ (3). قَدْ مَارُوا (4)فِی الْحَیْرَةِ، وَذَهَلُوا فِی السَّکْرَةِ عَلَی سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَی الدُّنْیَا رَاکِنٍ، أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّینِ مُبَایِنٍ» .

فقد بیّن الإمام علیه السلام هذه الصفات الخمس لهم لیشیر إلی انحراف أفکارهم وأعمالهم من

ص:470


1- 1) سورة الشوری / 23. [1]
2- 2) «رص» : بمعنی الصاق شیء بآخر ویطلق المرصوص علی کل بناء محکم، ورص العبارة المذکورة بمعنی مرصوص، وعبارة الإمام رص أساسه من قبیل إضافة الصفة علی الموصوف یعنی الأساس المحکم للولایة.
3- 3) «غمزة» : من مادة غمز علی وزن أمر بمعنی إزالة آثار الشیء، ثم اطلق علی الماء الوفیر الذی یغطی شیئاًویزیل آثاره، وفی الخطبة إشارة إلی الأفراد الذین غطوا فی الغفلة والضلالة.
4- 4) «ماروا» : من مادة «مور» علی وزن فور بمعنی الحرکة السریعة والاضطراب.

الجذور، فهم أفراد فاسدون ومفسدون ومغرورون وغافلون وغارقون فی الدنیا ومجانبون لدین الحق، وقد شبّههم الإمام علیه السلام بآل فرعون، وأحدی صفات آل فرعون أنّهم قسموا المجتمع إلی قسمین: الأقباط والأسباط، أو بعبارة أخری آل فرعون وبنی اسرائیل، وقد تمتع الفریق الأول بکافة الامتیازات فی البلاد (مصر) ومرغوا اُنوف الفریق الثانی بالتراب، فکانوا یقتلون رجالهم ویسبون نسائهم وملأوا الأرض فساداً: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِی الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِیَعاً یَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ یُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَیَسْتَحْیِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ کَانَ مِنْ الْمُفْسِدِینَ» (1).

فقد اعتمد خط النفاق الجاهلی بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ذات السنة الفرعونیة، فقد اقتصرت کافة إمتیازات البلاد الإسلامیة علی بنی اُمیة ولم یکن نصیب شیعة علی علیه السلام سوی القتل «تحت کل حجر ومدر» والتشرید والحبس والتعذیب، وقد ملؤا العالم الإسلامی بالفساد.

والعبارة: «مُنْقَطِعٍ إِلَی الدُّنْیَا. . .» ؛ إشارة إلی أنّ طائفة منهم قد أقبلت علانیة علی الدنیا، فقد طاولت قصورهم عنان السماء، کما ذکر ترفهم وبذخهم بحیاة کسری والقیصر، ویبدون أنّ من بین حاشیتهم ممن لا یبدی علاقة ظاهریة بالدنیا لکنه باع دینه بدنیا غیره ووضع له الأحادیث التی تصّرح بفضله ونسبها إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ووجه أعماله القبیحة، ومصداق ذلک واضح للجمیع.

تأمّل: مصیر جاحدوا الولایة

تعدّ هذه الخطبة من أقوی الخطب التی تدافع عن ولایة أهل البیت علیهم السلام، وإن مرّ علیها بعض شرّاح نهج البلاغة مرور الکرام، فقد أعلن الإمام علیه السلام صراحة وجود حرکة رجعیة بعد رحیل رسول اللّه صلی الله علیه و آله، وأساسها إسقاط ولایة أهل البیت علیهم السلام وضرب الوصایا المؤکدة للنبی

ص:471


1- 1) سورة القصص / 4. [1]

الأکرم صلی الله علیه و آله بهذا الخصوص، وأفضل محمل لها یتمثل ب «الاجتهاد مقابل النص» وعدم اعتبارهم وصایا النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لمصلحة المسلمین، ولکن علی کل حال فانّ مؤججی نیران تلک المعرکة هی العناصر المعروفة فی الجاهلیة وخصوم الدعوة کأبی سفیان وأعوانه الذین نفذوا تدریجیاً إلی الخلافة الإسلامیة وتقدموا إلی الصفوف الأمامیة بعد أن کانوا من المؤخرین، فسیطروا علی کل شیء وإرتکبوا من المفضائع ما لیس له مثیل فی التاریخ أو قل مثیله، لکن الخطبة تشیر بصورة دقیقة إلی نهجهم ومسارهم وبالتالی عاقبتهم.

والجدیر بالذکر أنّ ابن أبی الحدید المعروف بتعصبه فی مسألة خلافة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والخلفاء الأوائل قد اعترض صراحة لیقول بأنّ الإمام علیه السلام قصد بهذه الخطبة مسألة الخلافة والإمامة غیر أنّه سعی بتکلف لیراها مختصة بزمان بنی اُمیة، ثم یفصل العبارة: «حَتَّی إِذَا قَبَضَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ» عن «رَجَعَ قَوْمٌ عَلَی الْأَعْقَابِ» ، ویفسّرها لما بعد أربعین سنة (1)، وهو الضعف الذی لا یخفی علی أحد، وذلک لأنّ صریح کلام الإمام علیه السلام هو أنّ هذه الحرکة علی الأعقاب قد بدأت مباشرة بعد رحیل النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، والتاریخ یشهد بأنّ الجنایات بنی اُمیة جذور فی عصر الخلفاء والطریف فی الأمر أنّ هذه الإشارة وردت فی «صحیح البخاری» الذی یعتبر من المصادر الروائیة المعتبرة لدی العامّة فی أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أخبر عن الحوادث الألیمة من بعده، حیث قال: «یَرِدُ عَلَیَّ الحَوضَ رِجَالٌ مِنْ أَصحَابِی فَیُحَلَّلوَ عَنْهُ فَأَقُولُ: یَا رَبِّ أَصحَابِی، فَیَقُولُ، إِنَّکَ لاعِلمَ لَکَ بِما أَحدَثُوا بَعدَکَ إِنَّهُم إِرتَدُّوا عَلَی أَدبَارِهِم القَهقَری» (2). والعبارة إرتدوا جدیرة بالتأمل.

والجدیر بالذکر أنّه وردت عدّة روایات بهذا الخصوص وفی هذا الباب فی صحیح البخاری والتی تدلّ جمیعاً علی قلق النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بعد رحیله من أعمال طائفة من أصحابه، وهذا شاهد بیّن علی ما ورد فی هذه الخطبة بشأن الأحداث الألیمة بعد رحیل النبی صلی الله علیه و آله، والواقع هو أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أراد بهذا البیان تحذیر أصحابه فی أن یراقبوا أنفسهم وأنّهم

ص:472


1- 1) یمکن الوقوف علی شرح کلام ابن أبی الحدید واعترافاته وتوجیهاته الضعیفة فی شرح نهج البلاغة9/134.
2- 2) صحیح البخاری 8/217، ح 165 (باب ما جاء فی حوض النبی) .

مؤاخذون یوم القیامة علی أی خلاف یصدر منهم فیسعوا لأن لا یکونوا من تلک الطائفة.

حسن الختام

انتهی المجلد الخامس من هذا الکتاب بالخطبة المأة والخمسین وهی نهایة رائعة حیث تتحدث عن ولایة أهل البیت علیهم السلام فی أیّام الولایة، الولایة بفضلها الصراط المستقیم وسبیل النجاة والمانعة من کل انحراف وزلل.

اللّهم ثبتنا علی ولایتهم، واحشرنا بولایتهم، واجعلنا من أتباع منهجهم، إنّک حمید مجید، وبالإجابة جدیر وعلی کل شیء قدیر.

نهایة المجلد الخامس

محرم الحرام 1424

ص:473

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.